مرة أخرى، وفى أقل من عام، تلعب تونس دور بوصلة العرب فتشير إلى أحداث كبار على وشك أن تقع فى المنطقة. كان البطل فى المرة الأولى الشاب البوعزيزى الذى اختار أن يحرق نفسه. لم يعرف هذا الشاب أنه بهذا الفعل يعطى الإشارة لتندلع سلسلة ثورات فى جمهوريات العالم العربى. دور البطل فى المرة الثانية قد يكون من نصيب الشيخ راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة التونسية، وقائد مسيرتها خلال الحملة الانتخابية وصولا بها إلى سدة الحكم بنسبة أصوات وصلت إلى نحو 40٪ من مجموع أصوات الناخبين.
تابعت من بعيد منذ الثمانينيات صعود حركة النهضة وزعيمها فى وقت كان ظهور حركة إسلامية سياسية فى تونس بالذات أمرا يصعب توقعه. ومع ذلك لم يأت نجاحها فى الانتخابات الأخيرة مفاجأة كبيرة بالنسبة لى، فقد عشت معظم شهور السنة الفائتة أشهد أحداثا وتطورات غير مألوفة. كنت ومازلت أحد القلائل الذين قدروا أن الدول التى نشبت فيها الثورات، أو سمها انتفاضات أو اضطرابات أو فوضى، لن تعود إلى ما كانت عليه قبل نشوبها. لن يعود من انخلع من حكامها إلى الحكم، ومن بقى فيه لن يطول بقاؤه، وستتحلل الطبقة السياسية القائمة، بعضها سيتحلل بالتدريج عبر انفراطات وانكشاف حجم تعفنها وضعفها وفسادها، وبعضها سيتحلل بتأثير اللافعل واللاتجديد ذاتيا.
تصورت أيضا، مدفوعا بثقة شديدة فى الأهمية التاريخية للأحداث والتطورات المتلاحقة، أن النظام الإقليمى العربى، وأعنى به أنماط التفاعلات والامكانات والتحالفات والعقيدة السياسية ــ الاجتماعية السائدة، سوف يحصل على نصيبه من التغيرات العميقة، ولن يعود إلى ما كان عليه فى عام 2010.
دعونا نسجل صراحة أنه لولا الثورات فى تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ما ارتفعت رواتب الموظفين فى الدول التى لم تصل إليها الثورة، ولما أفرجت الحكومات عن مئات وربما آلاف المعتقلين السياسيين، ولما تعاقد بعض هذه الدول مع شركات أمن أجنبية أو دعا الدول الغربية إلى مضاعفة وجودها على أراضيها، ولما صدر قرار بدعوة كل من المملكة الأردنية والمملكة المغربية للارتباط بمجلس التعاون الخليجى وربما الانضمام إليه. أصف هذا القرار بالثورى لأنه يشذ شذوذا قاطعا عن المألوف فى المبادئ التى قام عليها المجلس وخضعت لها ممارساته خلال العقود الثلاثة الماضية. أقول لولا الثورات العربية لما ارتفعت إلى هذا الحد توقعات ومطالب فئات من شعوب الجزيرة العربية، بل ولما تعاملت حكومة مملكة البحرين مع تقرير لجنة بسيونى بهذه الدرجة من التفهم والقبول.
لولا هذه الثورات ما أقدمت دولة قطر، متجاوزة تقاليد معروفة وممارسات عتيقة ومخاطرات جسيمة، على قيادة النظام الإقليمى العربى فى غياب الأنظمة الجمهورية التى سقطت أو تكاد تسقط وبرضاء المملكة السعودية باعتبارها الدولة المؤهلة لوراثة القيادة من الدول الجمهورية. لن يكون دقيقا تماما القول بأن الهدف الوحيد من تولى دولة قطر مسئولية القيادة فى هذه المرحلة هور الزهو والتفاخر والحصول على مكانة أعلى لدى دول الغرب العظمى. وفى الوقت نفسه لن يكون بعيدا عن الدقة القول بأن احد اهداف قطر، مشتركة مع شقيقاتها فى دول الخليج، هو «التحكم فى مسيرات الثورات العربية»، فلا تتدهور إلى فوضى إقليمية أو يتعاظم بريقها وجاذبيتها فتستمر نموذجا ومثالا يحتذى. ولا يخفى كثيرون اعتقادهم أنه فى الأثناء يجرى العمل من أجل استعادة بعض أوضاع ما قبل نشوب الثورات.
تعددت الاجتهادات عن مستقبل الجماعات الإسلامية فى ظل ثورات لم يكن وراء نشوبها دافع أو تحريض دينى. وعندما جرت الانتخابات البرلمانية فى تونس ثم فى مصر لم يكن بين توقعات المراقبين أن تحصل الجماعات الدينية على النسب المرتفعة التى حصلت عليها. وربما بدا للوهلة الأولى أن بعض نتائج التصويت كان مفاجأة سارة للدول المحافظة فى العالم العربى. وهو السرور الذى يشك بعض المتخصصين فى شئون المنطقة العربية والمذاهب الإسلامية فى أن يدوم طويلا، دوافع هذا الشك عديدة وأقترح أن تدرس فى هدوء وبروية من جميع الأطراف المشتركة الآن فى عملية رسم خريطة سياسية جديدة فى المنطقة، يتوقعون مثلا:
أولا: إن التحديات الاجتماعية والسياسية والدولية التى ستواجه الجماعات الإسلامية التى فازت فى الانتخابات وتستعد لتولى مسئولية الحكم ستفرض عليها، إن عاجلا أو آجلا، إعادة النظر فى كثير من المبادئ والأفكار التى قامت عليها فى ظل ظروف القمع وقبل نشوب الثورات. والمعروف أن أغلبها كان يلتزم إرضاء النزعات المتشددة السائدة فى بعض المجتمعات المحافظة، وقد يحتاج إلى دعمها المالى فور توليه السلطة.
ثانيا: إن المحافظة على وحدة المجتمعات فى الدول المحافظة الواقعة على هامش حزام الثورات العربية وأكثرها حافل بأقليات طائفية وعرقية وعلمانية وليبرالية، يستدعى «صحوة» دينية على مستويات متعددة وليس فقط على مستوى الاجتهاد والتفسير والتطبيق.
ثالثا: اشتعال المنافسة الحامية بين المدارس الفكرية الإسلامية حول الأحقية فى قيادة الإسلام العربى فى المرحلة القادمة واحتمال أن تتدخل فيها طبقات حاكمة. يشير الدكتور وليد قمحاوى فى مقال نشره مؤخرا بالقدس العربى، إلى أن الفرصة حانت ليسترد «الإسلام العربى» مكانه الذى تنازل عنه فى سنوات الجمود أو التخلف الفقهى لمدارس وحركات إسلامية آسيوية. هذه العودة فى حد ذاتها ستكون عاملا أساسيا فى إطلاق عملية صحوة أو نهضة إسلامية حقيقية آثارها قد لا تكون أقل أهمية من الآثار التى تنتج عن الثورات العربية، ومن بينها بدون شك تعميق الحاجة إلى «ثورة» فى الفكر الإسلامى.
رابعا: المنطقى أن الأحزاب السياسية المدعومة دينيا أو ذات المرجعية الإسلامية سوف تبقى على مؤسسات مدنية حديثة تساعدها على ممارسة شئون الحكم ومواجهة مشكلات العصر. بعض هذه المؤسسات العصرية قد يتعايش مع المؤسسات التقليدية الدينية المهيمنة على السلطة. بعض آخر سيجد صعوبة هائلة فى التعايش معها، الأمر الذى قد يتسبب فى صدامات ونزاعات من نوع لم تألفه الدول الخارجة لتوها من ثورات ومنها تنتقل هذه الصدامات والنزاعات إلى النظام العربى ككل، ومنه ربما إلى أقاليم إسلامية مجاورة.
أجد صعوبة فى الاقتناع بأن التيارات الدينية المشبعة بروح الثورة ومتعطشة إلى نهضة إسلامية حقيقية سوف تقنع بانتصاراتها النسبية التى تحققت بفضل الثورات العربية وصمودها الطويل ضد الاستبداد. لذلك كان اهتمامى كبيرا بالوثيقة التى ورد فيها حديث الشيخ راشد الغنوشى فى واشنطن يوم 30 نوفمبر الماضى. ففى اللقاء الذى أجراه هناك فى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى القريب جدا من قيادة الحركة الصهيونية ومواقع اتخاذ القرار فى إسرائيل والولايات المتحدة، وجه زعيم حركة النهضة الإسلامية تحذيره للممالك العربية من ان العام المقبل سوف يشهد نهاية عهد الأنظمة الملكية فى العالم العربى، كما شهد العام الحالى نهاية الأنظمة الجمهورية. هذا التصريح يحمل إلى جانب التحذير معنى الإنذار باحتمال وقوع صدامات بين التوجهين الرئيسيين فى الإسلام السياسى، التوجه التحديثى والتوجه المحافظ، بالإضافة إلى ما يتوقعه بعض المراقبين فى الغرب من مواجهات بين أطياف أخرى فيه، مثلما ظهر فى مصر فى الانتخابات الأخيرة، وكما ألمح الغنوشى عندما تحدث عن حزب التحرير الإسلامى المتشدد فى تونس وكيف أنه لا يمثل أفكار القاعدة العريضة من الإسلاميين فى حزب النهضة.
تطورات من هذا القبيل وعلى هذا المستوى ما كان يمكن أن تحدث لو لم تنشب الثورات العربية. لم يكن ممكنا قبل عام التفكير فى أننا سنشهد انقلابا فى نمط التفاعلات العربية، وهو النمط الذى نشأ منذ نشأة النظام بعد الحرب العالمية الثانية معتمدا على قاعدة أن صراعات العرب وتوافقاتهم سياسية الطابع والحل. يبدو أن النظام الآن وكأنه على وشك أن يتبنى نمطا جديدا يعتمد على قاعدة أن صراعات العرب وتوافقاتهم دينية الطابع والحل. هل يمكن القول إننا على أبواب تحولات جذرية وخطيرة فى العلاقات بين الدول العربية ونقلة جوهرية فى مسيرة النظام الإقليمى العربى واحتمال الدخول فى مرحلة انعزال وانكفاء على الذات.
بنشوب الثورات العربية انكشفت مستورات وباستمرارها تتعدد التغيرات وتتعمق وتتجدد الآمال وتتعاظم التضحيات.
--------------------------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية الخميس 8/12/2011.