معلوم أن كرامة الإنسان لا تتجزأ مثلها مثل كل القيم، العدل والشورى والمساواة والحرية، مطلقات وثوابت، بحث عنها الفرد منذ القدم وناضل من أجلها، وصُنعت حضارات وهدمت بسببها، وكتب التاريخ قصص أبطال ناضلوا من أجل كرامتهم وحريتهم التي طالما آمنوا بها، نثروا السلام والعدل والمساواة، ودثروا كل تكهن وجبروت، ضحوا بأرواحهم في سبيل استعادة هذه الكرامة بعد ما ضاق بهم الظلم والتجني.
لاريب أن السلوك الإنساني السلبي يدفع الناس إلى الانسحاب من دنيا المشاركة والتفاعل الإنساني... وتتعدد صور وتجليات الكرامة الإنسانية في أشكالٍ عديدة، وهي غير مخصصة لجماعة معينة من البشر ولا تميز بين عرق أو لون أو دين أو جنس، وإنما ينبغي أن ينعم بها الإنسان في كل مكان ومهما اختلفت توجهاته وتباينت مواقفه وقناعاته.
وعليه، فإن التمييز بين الناس لأي سبب يُهدر الكرامة الإنسانية ويسلب حق المواطن في التمتع بمظلتها، لذلك يعتبر المساس بأي من مبادئها جريمة شنيعة، ومن ثم تسابقت الأمم التي تنشد التقدم والسلام والحياة الآمنة لمواطنيها في توفير التشريعات عبر الدساتير لضمان حفظ الكرامة الإنسانية.
لقد بقيت الكرامة الإنسانية أحد أهم سمات الفكر التنويري، الذي نجح في نقل الغرب من قرونه المظلمة إلى مدنيته الحديثة. وعلى الشعوب التي تتشوق إلى نيل حقوقها، أن تدرك أن احترام الكرامة الإنسانية يمثل انتصارا للفضيلة والأخوَّة الإنسانية، وأن المساس بكرامة بعض الناس هو مساس بأصل كرامتهم جميعا.
يحكي " أنور المعداوي" في مجلة الرسالة ، " التي كان يرأس تحريرها " أحمد حسن الزيات " : " لقد حدث أن ذهب المغفور له محمد محمود باشا يومًا إلى نادي الفروسية وهو رئيس للوزراء عام 1939، فوقعت عيناه على لوحة على الباب الخارجي تحمل إلى الزبائن هذه الكلمات: (منوع دخول الفلاحين). . . وثار الزعيم العظيم وهتف وهو يدق الباب بقدمه ويفتحه على مصراعيه: "إن حكومته لا يمكن أن تسمح بإعادة الطبقات. نحن هنا في بلد ديمقراطي، وكل المصريين سواء، أنا فلاح وابن فلاح، وأفخر بأن أكون كذلك. . والفلاح هو عماد هذه البلاد وفخرها، وإذا كان بين أعضاء نادي الفروسية من لا يعجبه هذا الكلام فليرحل عن بلاد الفلاحين! .." .
ويستطرد " المعداوي " نطق محمد محمود بهذه الكلمات فألهب شعور الزيات وأثار قلمه فأخرج إلى الناس أعظم مقال كتب في تاريخ الكرامة المصرية. . ولا أظن أنني أجامل الزيات بهذه العبارة الأخيرة أو أغلو في وصف أثر من آثاره، ولكنها كلمة حق من قلم لا يعرف المجاملة ولا يطيق الغلو ولا يفرق في النقد بين الصديق وغير الصديق!.." .
وحول الواقعة ذاتها والتي تحل ذكراها في مثل هذه الأيام من شهر مايو عام 1939 ، يذكر الكاتب الصحفي الكبير "سعيد الشحات " ما كتبه الكاتب الصحفي " صبري أبو المجد " في مجلة " المصور " :لم تكن الأندية الأرستقراطية تسمح للمصريين بالدخول إليها، وإذا سمح لهم بعضويتها، أوبدخولها كضيوف لم يكن من حقهم أن يدخلوا غرفا معينة، وفى بعض الأندية كان المصريون يُعاملون أسوأ معاملة وكأنهم طبقة منبوذة محتقرة.. حدث ذات مرة أن أراد أحد أعضاء "كلوب محمد على"، أخطر تلك الأندية الأرستقراطية وأكثرها اعتدادا بالعنصرية التركية، الدخول فى إحدى القاعات للعشاء فيه، فمنعه "المترودوتيل" لأن القاعة محجوزة لأحد هؤلاء السادة الكبار، وثار العضو واتصل بمحمد محمود باشا رئيس الوزراء شاكيا ماحدث من إهانة، وتزامن ذلك مع تلقى رئيس الوزراء شكاوى من مصريين أعضاء فى نادى الفروسية من سوء ما يلقونه من معاملة.. يؤكد أبوالمجد أن محمد محمود ألقى بالقفاز فى وجه هؤلاء الأمراء وقال كلمته الخالدة: " أنا فلاح وابن فلاح، وهذه مصر للفلاحين من أبنائها، ومن لا يريد أن يعيش فى مصر الفلاحين فليغادرها إلى حيث يريد".
إنها الكرامة الوطنية والحرص على الحفاظ عليها هي أيضًا التي دفعت قائد مصري بطل ورمز من رموز الوطنية المصرية الفريق عبدالمنعم رياض أن يدلي برأيه للقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية جمال عبد الناصر " أرجوك يا سيادة الرئيس لا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط " . فقد كان يرى الفريق النبيل الوطنى أن عودة سيناء بلا قتال سوف ينشأ عنها خلل اجتماعى وإنسانى وقيمى، ورسالة سلبية نصدرها للأجيال القادمة والطالعة بقبول فكرة النكوص عن النهوض لدفع ضريبة الدم لاسترداد الكرامة الوطنية . ..إنها "الكرامة" التي حدثنا عنها هنا قائد صادق ووطني نبيل في الجيش المصري العظيم، واستشهد من أجل كرامة الوطن وسط الميدان بين جنوده على أرض سيناء لتعود لها مصريتها وللمواطن المصري والعربي كرامته..إنها " الكرامة " التي رسخها للمواطن المصري الزعيم الوطني " عبد الفتاح السيسي" عبر مواقفه وقراراته التي تنتصر لكرامة الوطن والمواطن ..وهل ننسى يوم أن وعد بالثأر والنيل من الجناة الأوغاد قتلة مواطنينا الأقباط على أحد شواطئ ليبيا حتى لو كانت جريمتهم قد وقعت خارج حدود الوطن، وحقق ما وعد به قبل انقضاء 48 ساعة عندما دفع بأبطال جيشنا العظيم لاسترداد حق أبناء الوطن من أجل كرامة الوطن وكرامة المواطن المصري، وأيضًا من أجل الكرامة الإنسانية التي كان الدفاع عنها وعن إعادة الهوية المصرية أحد الأهداف التي من أجلها كانت ثورة 30 يونيو التي فوض فيها شعبنا الرئيس عبد الفتاح السيسي لتحرير البلاد من حكم جماعة الظلام، فكان استعادة الكرامة بسقوط حكمهم الباغي المتخلف.