منذ أحد عشر عاما وتحديدا فى سبتمبر من عام 2012 أنتجت الدراما الأمريكية مسلسلا من تسعة أجزاء، عُرض من خلال بعض المنصات الرقمية الشهيرة بعنوان "سيبرجادون" (Cybergeddon)،يتعرض المسلسل إلى عميلة فى مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI تكون مهمتها منع حدوث حرب سيبرانية مدمرة على غرار هيرمجدون الواردة فى الكتب المقدسة، فمع تزايد الاعتماد على الأنظمة الفنية وما حدث فى الآونة الأخيرة من تطور كبير فى منظومات الذكاء الاصطناعى والخوارزميات - البرمجيات- المشغلة له فإن بعض التصورات عن سيطرة الآلة على البشر وتحويلهم من سادة إلى عبيد، ثم قيام حرب سيبرانية بين تلك الآلات تصل بالعالم إلى نهايته، هى تصورات يخشاها الكثيرون، ويتحدث عنها الخبراء والمتخصصون، وكذا أيضا غير المتخصصين الذين يحاولون جميعا مد خط التقدم التكنولوجى على استقامته، مستندين إلى الواقع الفعلى ومعدلات التطور أو ببعض التصورات الهوليودية المسيطرة على عقول مشاهديها.
أول الغيث:
منذ عدة أيام فوجئ رواد تطبيق فيسبوك بخطأ تقنى أدى إلى قيام التطبيق بإرسال طلبات صداقة بصورة تلقائية، ودون قيام المستخدمين بذلك بمجرد دخولهم على صفحات لأى شخص ليس ضمن قائمة الأصدقاء الحالية، هذا الخطأ مع ما أحدثه من حرج وإزعاج أعاد إلى الأذهانما حدث من انقطاع كلى على مستوى العالم بأكمله لخدمات التواصل الاجتماعى المقدمة من شركة ميتا (فيسبوك- واتساب- انستجرام- ماسنجر) فى الرابع من أكتوبر عام 2021 ولمدة 7 ساعات متصلة، وما أحدثه من توترواضطراب على مختلف الأصعدة، وكذا أيضا انزعاج وتوتر على مستوى المستخدمين العاديين أيضا.
أما على مستوى الأعمال الأدبية فحدث أن تعرض الكثير منها إلى تصور كابوس اختفاء الخصوصية الرقمية بالكامل، فماذا يحدث إن استيقظنا صباحا فوجدنا كل البيانات والملفات والصور والرسائل العامة والخاصة التى نتداولها عبر حساباتنا المتعددة على شبكات التواصل الاجتماعى وخدمات البريد الإلكترونى والرسائل الأخرى ولعشرات السنوات فى الماضى أيضا أصبحت متاحة للجميع على شبكة الإنترنت، سواء بسبب خلل تقنى أو بسبب أن استيقظ ضمير أحدهم أو أصيب بلوثة عقلية قام على إثرها بنشر كل المحادثات الخاصة والصور والملفات وأرقام حسابات البنوك وكلمات السر الخاصة ببطاقات الائتمان وحسابات مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، وأن يكون ذكيا فيقوم باتاحتها من خلال تقنية البلوك تشين مثلا ما يجعل محوها فى غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا؟
السيل الرقمى:
تسريب البيانات الشخصية هو أحد أخطر تبعات الهجمات السيبرانية، فليست كلها هجمات لتعطيل الخدمات أو هجمات لمحو البيانات أو لتغييرها فقط؟ فربما يكون الهجوم صامتا، هجوم لأخذ نسخة من البيانات الموجودة داخل المؤسسات بأنواعها المختلفة، وربما يستمر الهجوم صامتا لسنوات عدة ثم يفصح المهاجمون عن مطالبهم، وربما يستمر العمل فى صمت ويتم استخدام تلك البيانات لأغراض مختلفة.
وقائع تسريب البيانات كثيرة، أقل القليل هو ما تم الإفصاح عنه والكثير يتم التعتيم عليه لأمور متعددة، بين تسريب بيانات نزلاء الفنادق أو عملاء البنوك أو البيانات الصحية فى المستشفيات ومعامل التحاليل إلى البيانات والخطط وبراءات الاختراع الخاصة بالمنظمات والحكومات أيضا.
فيروس الفديةRansomware هو أحد أشهر الهجمات الإلكترونية التى تصاعدت خلال الأعوام القليلة الماضية؛ حيث يقوم المهاجمون بتشفير الملفات وقواعد البيانات المهمة بالمؤسسات، ما يؤدى إلى إحداث شلل تام بها، ثم تتم مساومة المسئولين لدفع مبالغ مالية –فدية - وذلك من أجل فك التشفير وعودة الملفات إلى سابق عهدها، ومن ثم تعود المؤسسات إلى العمل مجددا.
النسخة التى يحصل عليها المخترقون يتم من خلالها تطوير أسلوب المساومة، فلن تكون الخسارة الوحيدة للمؤسسة الضحية هى خسارة الملفات وبيانات المستخدمين فقط، ولكن يتم التهديد ببيع تلك الملفات فى الإنترنت المظلم نظير من يدفع أكثر وربما يكون التهديد أحيانا بنشرها بدون مقابل، الأمر الذى يجعل خسارة المؤسسات مضاعفة.
أما إن لم يكن التشهير والرغبة فى الحصول على مقابل مادى هما هدف عمليات الاختراق، فإن الأمر ينتقل إلى المجال الاقتصادى أو السياسى أو حتى العسكرى بصور أخرى، فتعطيل الخدمات الأساسية فى الدول من خلال ضرب المنشآت الحيوية والبنى التحتية الأساسية رأيناه كثيرا فى تعطيل خدمات النقل والمواصلات من سكك حديدية ومترو وسيطرة على منظومات المراقبة والمرور أو الخدمات الأساسية الأخرى، مثل: خدمات الكهرباء، والغاز، والوقود من خلال السيطرة على المحطات المولدة والخطوط الناقلة لتلك المواد وصولا إلى المحطات النووية أو تعطيل بعض المنظومات المهمة الأخرى، مثل منظومات تقديم الخدمات الصحية والمالية والتعليمية وغيرها، وهو ما رأيناه كثيرا، ولعل أشهرها ما حدث قبل اندلاع الصراع العسكرى بين روسيا وأوكرانيا على الأرض، أو تلك التى تدور بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وغيرها من القوى الكبرى.
السيبرجادون.. ما بعد السيل:
خلال المدة التى تلت اندلاع الحرب الأخيرة، تعاظم الحديث والتطبيق لأدوات الذكاء الاصطناعى بصورة غير مسبوقة على مدى عصر المعلومات كله، وذلك بصورة ملموسة لجموع مستخدمى شبكة الإنترنت، فظهرت تطبيقات معالجة النصوص والبحث فيها مثل تطبيق ChatGPT، كما انتشرت تطبيقات الصوت والصورة والفيديو وغيرها من التطبيقات، وأصبح الجميع يتحدثون عن قيام تلك الأنظمة ببعض الأعمال المهمة نيابة عن الإنسان، وهنا زادت التخوفات من الاستغناء عن العنصر البشرى فى عدد من الوظائف منها الأعمال المكتبية، وخدمة العملاء، ثم تطور الأمر إلى مهن، مثل: المعلم، والمحامى، والطبيب، والمبرمج، والصحفى، ومقدم البرامج، وسائق السيارة، والطائرة، والاستغناء عن العامل فى المصنع، والفلاح فى الأرض، ثم انتقل الحديث إلى الاستعانة بتلك الأنظمة فى شن هجمات سيبرانية ذكية أو إلى تطوير أسلحة عسكرية متطورة تعمل من خلال تلك التقنيات.
صاحب ذلك أيضا الحديث عن الانتقال من الذكاء الاصطناعى الضعيف Weak AIالقادر على التغذية والبحث والاسترجاع والتحليل، إلى الذكاء الاصطناعى القوى Strong AIالقادر على التعلم والتطوير ذاتيا ثم إلى ربط النتيجة النهائية الصادرة عنه بمعدات ميكانيكية، مثل الروبوتات، والماكينات، والأسلحة، وغيرها، وهو ما أطلق العنان لتخوفات البشر من قدوم ذلك اليوم الذى تسيطر فيه الآلات على مجريات الأمور بالكامل، وتقوم بالسيطرة الكاملة على البشر، ومن ثم تحولهم إلى عبيد لديها يأتمرون بأمرها وينصاعون لما تجبرهم عليه من أفعال.
على الجانب الآخر، نجد عددا من المتحفظين الذين لا يرون أن الأمر سيصل إلى هذا المستوى، وأن الذكاء الاصطناعى سيكون فى خدمة البشر، ولن يصل إلى هذا المستوى المتوحش من السيطرة والدمار، وما بين هذين التصورين. وبمحاولة تحليل الأمر الواقع نجد أن المستقبل مبهم بالفعل، فلا يستطيع العاقل الميل إلى أى من التصورين دون وجود تنظيم محكم ومنضبط للتطور فى هذا المجال ما دعا عددا كبيرا يصل إلى 1300 من خبراء التكنولوجيا إلى القيام بالتوقيع على خطاب عام يشير إلى ضرورة إيقاف التطوير فى هذا المجال لمدة ستة أشهر على الأقل حتى توضع قواعد وميثاق أخلاقى واضح لمستقبل هذا العلم، وهو ما تبعه من تصريح لنائبة الرئيس الأمريكى من ضرورة العمل وفق منهجية واضحة، وإلى التأهب لسن عدد من التشريعات المنظمة أيضا.
فبدون هذا التنظيم ربما نصل، أو بتعبير أدق، قد تصل تلك الأنظمة إلى ساحة الحرب الأخيرة التى تسيطر فيها الآلات على مجريات الأمور، وتدور فيما بينها حروب مدمرة لا يستطيع الإنسان التدخل فيها أو السيطرة عليها وإيقافها، ما يجعل كابوس "السيبرجادون" حقيقة واقعة قد تعيد البشر إلى العصر الحجرى، وذلك فى أكثر السيناريوهات تفاؤلا.