لو قلنا إنه كان من الضرورى تشغيل ماكينة التفكير الواعى والمستنير فى أى مرحلة من مراحل تاريخنا القديم وحتى العصور الأحدث والحالية، فأعتقد أنه يمكننا الجزم أن واقع الظروف والمتغيرات التى نعيشها فى زماننا الحالى هو الأكثر إلحاحا لإعمال كل منظومات التفكير العاقل الرشيد المبدع بغير خوف، والقوى بغير طيش، والمحدد بغير توهان، والمنطلق فى دنيا الطموح بغير فقدان للرؤية.
"التفكير" يمثل فى النهاية الدور الفاعل للعقل الإنسانى (النقدى، العاطفى، المنطقى، البديهى، الوطنى، العلمى، الإبداعى، المستنير.. وغيرها من أشكال التفكير الإنسانى)، من أجل التمكن من حركة العقل بين المعلوم والمجهول، ومن ثم تمكنه من التعامل معه بفعالية أكبر لتحقيق أهدافه وخططه ورغباته وغاياته، لرسم التصور العام لواقع ما من حيث الهوية وعوامل التكوين.
عندما كان السؤال: لماذا تقدمت اليابان؟ كان رأى الكاتب شاكر النابلسى: أرى أن الجانب المادى والعقلانى فى الثقافة اليابانية أكبر من الجانب الروحى، فبوذا نفسه واقع مادى مُجسَّم فى كل معبد، كانت اليابان تعيش فى جزيرة معزولة عن التيارات الثقافية العالمية ولم تنفتح اليابان على العالم إلا قبيل الحرب العالمية الأولى، وبالتالى لم ينشأ لدى هذه الثقافة رد فعل من جراء غزو الثقافات الأخرى لها، ولم تتشكّل على سطحها طبقة كلسية سميكة، تحول بينها وبين التلاقح مع الثقافات، بل هى أخذت من الجميع، ثم سارت وحدها بخطواتها الخاصة، كانت الثقافة اليابانية معنية بما فى الغرب من صناعات وعلوم، ولم تكن تعنيها قيم الغرب الأخلاقية بقدر ما كانت تعنيها قيم الغرب العلمية وإنجازاته العلمية، والثقافة اليابانية لم تعد الغرب كافرا وتمتنع عن الأخذ عنه، بل هى أخذت عنه الكثير وتركت القليل، اعتبرت الثقافة اليابانية نفسها أنثى وليست ذكرا، وأن عليها لكى تُنجب أن تتلاقح مع الآخرين ولكن بعقد زواج يابانى وليس غربيا، ومن هنا استطاعت اليابان أن تأخذ الكثير عن الغرب وتُبقى على لباس "الكومينو".
للأسف، إن الإصلاح فى الثقافة العربية أغلبه سياسى جدلى محفز للصراعات، وغاب عنه الإصلاح الفكرى والعملى والموضوعى، أما عند أهل العالم المتقدم فالإصلاح ثورة فكرية للبناء برؤية فلسفية صناعية اقتصادية تنموية بتصميم ودأب لتحقيق نموذج إصلاحى شامل أساسه العدالة، وتمكين المواطن من المساهمة فى تحقيق التقدم والتغيير الفعلى.
فى كل بلاد العالم المتقدمة هناك مراكز للتفكير Think Tanksأو بيوت الخبرة أو خلايا التفكير، وهى هيئات قومية غير ربحية يتم تشكيلها من خبراء ذوى معرفة متطورة وخبرات متميزة، بغرض بحث ودراسة قضايا معينة بمنهجية علمية، ومن ثم الوصول إلى حلول فاعلة للقضايا والمشكلات المطروحة، أى فريق يتم تشكيله لدراسة موضوع معين أو إيجاد حلول لمشكلة قائمة يسمونه مركزا أو خلية تفكير، وبالطبع فإن أعضاء المركز يتم انتقاؤهم بشكل موضوعى وبناء على معايير محددة ترتبط بإمكاناتهم المعرفية وخبراتهم الواقعية ودرجة انسجامهم، وكذلك تنوع تخصصاتهم إذا ما استلزم الأمر ذلك، هناك أكثر من 5000 مركز للتفكير فى نحو 170 دولة فى العالم بأسره، فى الولايات المتحدة هناك 242 مركزا وفى المملكة المتحدة نحو 62 مركزا، وفى كوريا الجنوبية 23 مركزا، وفى الصين يوجد منها 22 مركزا، أما فى إسرائيل فهناك 28 مركزا. وعليه، فإن الذهاب إلى إعمال التفكير صار ضرورة بعد أن باتت الشعوب تتفاعل فى الداخل والخارج مع عالم وفضاءات بوسائط تقنية حديثة تموج بكل ألوان الفكر الإنسانى الباهر والمتقدم إلى حد الإعجاز.
وهنا، كان ينبغى التحذير من التفكير وفق "كتالوج" قناعات وأفكار أزمنة ضعف تراثية، كنا نردد فيها فى البيت والشارع وعبر دراما الهطل اليومية أمثالا ومقولات الدعوة للتراجع الحضارى، عبارات مثل: "المية ما تجريش فى العالى"، "إيش حشرك يا مملوك بين الملوك"، "العين ما تعلاش على الحاجب"، "الإيد اللى ما تقدر تقطعها بُوسها"، "الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح"، "من خاف سلم"، "يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم"، "علقة تفوت ولا حد يموت"، "امشى سنة ولا تعدى قنا"، فقط ما ذكرت هو غيض من فيض هائل من تراث فلكلورى به نسبة كبيرة – للأسف - من القناعات الوهمية السلبية التى تحمل رسائل توجيهية عبر نصائح ووصايا تحريضية تحقر من قيمة الطاقة البشرية، وتدعم مشاعر الرضا الوهمية بأوضاع مهينة، ولا تدفع فى اتجاه العمل الطموح، بل الدعوة إلى الارتكان للحظ والاتكالية والوساطة والمحسوبية والفهلوة والخنوع وقبول الضيم، والأهم إيقاف بندول ساعات التفكير أيضا، وتكرار الحث أو الدعوة إلى أن "نكون على قلب رجل واحد" لتحقيق النجاح، دون تفهم لأهمية الاختلاف وتجاذب الأفكار وتفاعلها بين قوى جماعية لها رؤى أيديولوجية وفكرية وإنسانية وسياسية لا بد من التعامل معها بأريحية، وأن يكون تفاعلهم فى الحسبان عند التفكير فى صناعة التقدم.