فى القواميس والمعاجم؛ "الهَوَسُ" هو طرف من الجنون وخِفَّة العقل، من أعراضه تضخُّم الأفكار وانتقالها السَّريع من موضوع إلى آخر بدون التمييز بين قيم المعانى وسرعة تداعيها، و"هَوَسُ الإحراق" أى: نزعة لا تقاوم إلى إحداث الحرائق، وتهوَّس الشَّخصُ: أى صار به هَوَس. هكذا كان حال البعض من "مهاويس" الإعلام والسوشيال ميديا فيما يتعلق بمسار العلاقات المصرية السعودية. هؤلاء لا يستوعبون الدروس والعظات، يأخذون مواقف حادة تصل إلى حد التطرف فى بعض الأحيان، بعيدة كل البعد عن المواقف الرسمية للدول، بعيدة كل البعد أيضا عن السياسة وطبيعتها.
مصر والمملكة هما حجر الزاوية ونقطة الارتكاز للمنطقة العربية، والعلاقات المصرية السعودية بمختلف مناحيها وجوانبها هى علاقات تاريخية بما تعنيه الكلمة، العلاقات المصرية السعودية هى نموذج للعلاقات الاستراتيجية التكاملية؛ زيارة السيد الرئيس الأخيرة للمملكة؛ جاءت فى إطار شمولية العلاقات المصرية السعودية لكل أوجه التعاون واستراتيجيتها؛ سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا وأمنيا.
على مستوى الجغرافية السياسية؛ فمصر والسعودية هما ركائز المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط بأكمله ومركز ثقله، وفى ضوء التحولات العالمية الجديدة واتجاه العالم نحو "التعددية القطبية" فى ضوء التراجع الأمريكى لمصلحة فواعل وأقطاب دولية أخرى مثل: روسيا، والصين، يصبح التنسيق والتعاون بين ركيزتى المنطقة ضرورة ملحة. خاصة أن العالم يتجه للمنطقة لتأمين احتياجاته من إمدادات الطاقة والغاز فى ظل استمرار الأزمة الروسية - الأوكرانية، وها هو الاتحاد الأوروبى يُعلن الموافقة على وثيقة "العلاقات الاستراتيجية" مع دول الخليج، فى اجتماعه الأخير بلوكسمبورج؛ حيث أشارت الوثيقة الأوروبية إلى أن "الشراكة القوية بين الاتحاد الأوروبى ودول مجلس التعاون الخليجى تعد ضرورية أيضا فى سياق أمن الطاقة والتحول الأخضر؛ عالميا وفى مناطقنا"، ومصر الآن أحد مراكز القوى الإقليمية فى إنتاج الغاز، لذلك فنحن لسنا بمعزل عن هذه الترتيبات الجديدة التى تأتى خارج سياق ومحددات القطب الأمريكى المتراجع.
فى سياق التحولات السياسية أيضا عالميا وإقليميا فإن التنسيق المصرى السعودى له دلالة استراتيجية مهمة فيما يتعلق بأمن البحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقى بأكملها لتأمين مسار إمدادات الطاقة والغذاء للعالم؛ إذ إن التحولات الجيوسياسية على منطقتى القرن الإفريقى والبحر الأحمر، سمحت فى بداية القرن الماضى أن تتحول منطقة القرن الإفريقى إلى ساحة تفاعل واسعة للقوى الإقليمية والدولية الحليف منها والمعادى. كما مثلت الاكتشافات النفطية الكبيرة فى المنطقة محددا استراتيجيا جديدا ومهما فى إطار التنافس الدولى فى المنطقة، ما يستدعى يقظة وتنسيقا دائما لمواجهة ما قد ينشأ من مهددات فى هذا السياق.
فى علم العلاقات الدولية وتحليل السياسة الخارجية؛ يعد اقتراب المصلحة الوطنية أحد أهم اقترابات البحث الرئيسية فى مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية؛ وهو ترجمة واضحة للمدرسة الواقعية التى سيطرت على تحليل ودراسة العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقامت على مفاهيم ثلاثة أساسية هى: القوة، وتوازن القوى، والمصلحة الوطنية.
وعلم السياسة يعرف السياسة الخارجية بأنها "برنامج عمل معين تختاره الدولة من بين عدة بدائل، ترى فيه أنه يحقق أهدافها فيما يتعلق بالصعيد الخارجى مع الدول الأخرى، ومن ثم فهى متغيرة من آن لآخر، ومن نظام لآخر، وليست ثابتة حد الجمود"، ومن ثم يمكن للدولة أن تغير من سياساتها الخارجية من وقت لآخر تبعا للظروف الداخلية والمتغيرات الخارجية.
أما اقتراب المصلحة الوطنية؛ فهى إحدى الركائز الأساسية التى تقوم عليها السياسة الخارجية، وعمليات إدارة وتوجيه السياسة الخارجية عادة ما يتم تبريرها فى صيغ تحقق المحافظة على المصلحة الوطنية للدولة، وهذه تعد الحاصل النهائى للعديد من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والجغرافية والعسكرية والأيديولوجية والثقافية. أى أن المصلحة الوطنية هى الهدف النهائى والأسمى للسياسة الخارجية لأى دولة، فالسياسة الخارجية لأى دولة تعکس مصلحتها الوطنية.
الدولة المصرية، ومنذ تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم فى 2014 أقرت برنامج عمل واضح فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أكدت فيه أهمية النهج التعاونى فى العلاقات الدولية، حيث ارتكزت السياسة الخارجية المصرية إلى عدد من الركائز تمثلت فى: عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، ورفض أى تدخل خارجى فى شئونها الداخلية، وحسن الجوار، وتعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي، وإعادة الفاعلية للدور والوجود المصرى فى إفريقيا، ودعم العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، وتوازن العلاقات مع القوى العظمي، وتأكيد الدور المصرى المؤثر فى الحالة الراهنة فى الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالملف الفلسطينى الإسرائيلى والصراع الممتد.
غير أن آفة حارتنا عدم الوعى، فالمنابر والأصوات كادت تشعل الفتنة فى العلاقات المصرية السعودية، عن قصد أو بدون قصد، من خلال المواقف الحادة التى اتخذتها تلك المنابر الإعلامية من هنا وهناك، على النحو الذى شكل بيئة خصبة لأذناب الجماعة المحظورة وذبابها الإلكترونى؛ حالة عدم الوعى تلك نابعة من سوء إدراك وفهم واضح لطبيعة وماهية السياسة الخارجية المتغيرة؛ إذ تتغير السياسة الخارجية للدول نتيجة لعدد من المتغيرات المحلية والدولية السائدة.والسياسة المصرية الخارجية تنتهج موقفا قائما على التنسيق والعمل المشترك مع جميع الدول العربية لمواجهة التحديات والمخاطر التى تواجه الأمن العربى.على رأس ذلك أمن الخليج مجمعا كأحد الثوابت الرئيسية والراسخة فى السياسة الخارجية المصرية، كما أن العلاقات المصرية الخليجية تمر بتطور نوعى كبير يعضد جهود التكامل العربى فى مواجهة التحديات الخارجية والواقع المأزوم للاقتصاد والأمن العالمى. وعليه، فالغاية الوطنية هى الهدف الرئيسى الذى تسعى الدولة المصرية لتحقيقه، وأن الاستمرار أو التغير فى السياسة الخارجية المصرية محسوم دائما بتحقيق المصلحة الوطنية، فلا عداء دائم ولا ود مستمر، هكذا هى السياسة.
لذا؛ فإن تغير السياسة الخارجية يشير إلى أى تحولات أو تغيرات تحدث فى السياسة الخارجية بصفة عامة من حيث التوجهات والأهداف والأدوار، أو التغير فى القرارات أو السلوكيات، أو أولوية استخدام أدواتها، أو درجة المصلحة فى قضاياها، والقيادة المصرية منذ 2014 دائما وأبدا ما تعلى من المصالح الوطنية المصرية فى كل القرارات والتوجهات. إن السياسة الخارجية المصرية تواجه العديد من التحديات فى ظل بيئة إقليمية ودولية أضحت أكثر تعقيدا، وأكثر تنافسية؛ والأزمة بين روسيا والغرب فى أوكرانيا عكست صياغات وأطرا مختلفة لنظام عالمى جديد، وكما يتضح الآن فهناك محور صينى - روسى فى مواجهة تحالف غربى بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو، لذلك كان الإدراك المصرى المبكر ما قبل الأزمة الروسية الأوكرانية لحدود هذا التغيير، والطبيعة الجديدة للنظام الدولى الراهن الذى يمكن وصفه بعالم "التعددية القطبية". لذلك عمدت القيادة السياسية منذ 2014 إلى إقرار وصياغة سياسة خارجية أكثر تنوعا وتوازنا قائمة على الثوابت الرئيسية لتوجهات جمهورية يونيو الجديدة المتمثلة فى دعم الاستقرار فى المنطقة العربية ـــ خاصة فى البؤر الساخنة فى كل من ليبيا، اليمن، وسوريا ـــ من خلال رفض الحلول العسكرية، وكذلك العمل على دعم هياكل ومؤسسات الدولة الوطنية بما يعزز الأمن والسلم الإقليمى والدولى. ومما لا شك فيه أن التغييرات على مستوى النظام الدولى على النحو القائم، وإن كانت تمثل تحديا للسياسة الخارجية المصرية، لكنها فى الوقت ذاته تمثل فرصة لزيادة مساحة الدور المصرى على المستويين الإقليمى والدولى.
كل ذلك أيضا يصف فى أهمية أن تكون العلاقات المصرية - السعودية حجر أساس وركيزة الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، حيث إنها من أكثر المناطق تأثرا من الناحية؛ الاقتصادية والأمنية، بتداعيات التغييرات على المستوى الدولى.