منذ تولى دينج تشاو بينج السلطة فى سبعينيات القرن العشرين بدأت الصين تتبع سياسة جديدة فى التعامل مع النظام الدولى، لتكون سياستها أكثر انفتاحا على المستويين السياسى والاقتصادى، مقارنة بالفترة السابقة التى تولى فيها ماو تسى تونج مقاليد الحكم عام ١٩٤٩.
بدأت ملامح السياسة الخارجية الصينية لدينج فى الظهور في إطار ارتكازها على مجموعة من المبادئ، تأتى على رأسها كيفية التعامل والتواصل مع القوى الكبرى، وسياسة الجوار، والعلاقة مع الدول النامية والمنظمات الدولية. وقد شكل هذا نقلة نوعية فى صياغة القوى الناعمة والقيم الصينية، وكيفية خلق صورة إيجابية لتطورها ونموها الاقتصادى، والعمل على نشر الثقافة الصينية لتنافس ثقافات الدول الأخرى لتخلق لنفسها مكانا على الساحة الدولية.
بدأ ماو تسي بسياسة منغقة ليقدم دينج من بعده فكرة إخفاء القوة وتحين الفرص حتى تتمكن الصين من الصعود على الساحة الدولية بشكل هادئ وسلمى، وهو ما تبعه فيها زعماء لاحقون مثل جيانج زیمن، وهو جينتاو حتى جاءت سياسة أكثر وضوحا وانفتاحا وانغماسا فى النظام الدولى فى فترة الرئيس تشى جين بينج، بالشكل الذى يحقق مصالحها ويؤكد فى الوقت نفسه مكانتها كقوة دولية صاعدة على الساحة الدولية وذلك بالطبع فى ظل صعود لاعبين جدد مثل روسيا والهند.
إن اهتمام الصين بالقوة الناعمة لم يأت من فراغ فهو كان هدفا للقيادة الصينية بشكل مستمر من أجل دعم التطور السلمى، وتوفير البيئة الدولية المناسبة من أجل دعم عملية تطورها بشكل تدريجى وذلك بالإضافة إلى تشكيلها صورة جذابة تساعدها على الاندماج فى النظام الدولى وتقديم نموذج تحتذى به الدول الأخرى فى التنمية، وذلك ما تسعى إليه دول المنطقة العربية بالفعل.
وتهدف الصين بشكل أساسى إلى دعم نموها الاقتصادى والعسكرى دون الانغماس فى أى صراعات من شأنها أن تعطل عملية نموها، ومن ثم شكلت نموذجا مغايرا للنموذج الغربى الذى قدمته الولايات المتحدة التى تعتمد بشكل أساسى على سياسة أكثر انغماسا فى السياسة الدولية وهو ما كان واضحا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تعتمد سياستها بشكل أساسى على فكرة الصراع وخلق بؤر للصراع فى شتى مناطق العالم بهدف السيطرة والهيمنة على النظام الدولى، ما بدا واضحا فى أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.
تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها على النظام الدولى فى ظل ظروف غاية فى الصعوبة حاليا، فى ظل اقتصاد متأثر للغاية بالحرب الروسية الأوكرانية، وصفقات السلاح التى أنهكت الميزانية الأمريكية، وعلى الرغم من تصريحات مسئولي الولايات المتحدة بأن اقتصادها يسير فى الاتجاه الصحيح، لكن قرار رفع الفائدة الأخير قد تسبب فى حدوث انهيار فى عدد من البنوك الأمريكية، وأقصد هنا بنكى "سليكون فالى" و"سيجنتشور" الأمريكيين.
تكمن مشكلة بنك "سليكون فالى" فى اتساع الفجوة بين العائد الذى يحصل عليه البنك من السندات وأسعار الفائدة التى يجب دفعها على الإيداعات، وذلك على الرغم من تضاعف ودائع البنوك أربع مرات خلال السنوات الأربع الأخيرة فى سوق الشركات التقنية الناشئة التى أصابها الكساد مؤخرا. وقد اضَطر ذلك البنك الفيدرالى الأمريكى التدخل من أجل ضمان عودة أموال المودعين الذين هرعوا لسحب أموالهم ما تسبب فى الأزمة الأخيرة.
الجدير بالذكر، أن أزمة مماثلة بدأت فى بنك كريدى سويس الذى لجأ بدوره إلى البنك المركزى السويسرى من أجل توفير السيولة اللازمة لعملائه، وقد أدى ذلك إلى زيادة التخوفات بشأن إمكانية امتداد الأزمة إلى أوروبا وتكرار الأزمة المالية العالمية التى حدثت عام ۲۰۰۸. وبالرجوع إلى تلك الفترة فقد منحت تلك الأزمة الصين فرصة فريدة لأداء دور أكبر فى إعادة تنظيم النظام الاقتصادى المالى العالمى، فدولة بمقوماتها كثانى أكبر اقتصاد بالعالم إن لم تكن قد بدأت حاليا تخطى الولايات المتحدة بالفعل - جعل الكثير آنذاك ينظرون إليها بوصفها المنقذ الذى قد يساعد العالم على تخطى تلك الأزمة حتى إنه بدأت تظهر بعض المقترحات مثل طرح مفهوم مجموعة الاثنينG2 من قبل مركز الأبحاث الأمريكى المعروف بمؤسسة بيترسون، الذى اقترح فكرة التعاون الأمريكى - الصينى من أجل التعامل مع الأزمة العالمية، وقد أبدى رئيس البنك الدولى آنذاك تأييده للفكرة، وقد شكل ذلك بداية لطرح فكرة تعاون الصين مع مجموعة العشرين والدول النامية.
واتخذت الصين خطوات مسئولة فى ذلك الإطار لدعم دول الآسيان خلال رفضها خفض قيمة عملتها بهدف دعم تلك الدول فى ظل الأزمة العالمية، ما أكد دورها كقوة صاعدة تدعم فكرة الصعود والتعايش السلمى.
الجدير بالذكر هنا، أن الصين تمكنت، من خلال استخدام قوتها الناعمة التى جعلت اقتصادها أكثر مرونة وقدرة، من أن تتخطى الأزمات المالية العالمية المتلاحقة سواء من تبعات أزمة كورونا إلى الحرب الروسية- الأوكرانية الأخيرة. وظهر ذلك من خلال تمكنها من إعادة صياغة مبادرة الحزام والطريق بالشكل الذى يتواءم والتحديات التى فرضتها أزمة كورونا وتمكنها هى وروسيا التى عانت من جراء العقوبات الاقتصادية من طرح عملاتهما لتكون ضمن سلة العملات النقدية العالمية.
وفى ظل تعبير الولايات المتحدة المستمر عن مخاوفها منذ عقود مما تسميه "التهديد" أو "الخطر الصينى"، لا يمكن إنكار حجم التوتر الذى تتسبب فيه الصين للولايات المتحدة وحتى لبعض من جيرانها فى منطقة الآسيان، وبدا ذلك واضحا مع بداية إعلان الخطة الطموح للحزام والطريق التى أطلقها الرئيس تشى جين بينج عام ۲۰۱۳إلى المبادرة الأخيرة للوساطة فى منطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا، فقد بدأت الصين فى تكوين شبكة هائلة من العلاقات والبنية التحتية الضخمة من سكك الحديد والمواصلات وخطوط للكهرباء تمتد إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا. وفى ظل اتباعها لمبدأ "التعايش السلمى" القائم على سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها بدأت تطمئن الدول التى تتعاون معها من إمكانية تحقيق مكاسب مماثلة لذلك المشروع. وذلك على الرغم من رؤية الغرب لذلك المشروع بوصفه شكلا من أشكال الإمبريالية أو الاستعمار الجديد الذى قد يمكنها من غزو العالم كله اقتصاديا وسياسيا خاصة فى ظل سياسة القروض الكبيرة الممنوحة للدول الإفريقية على سبيل المثال بهدف فرض سيطرتها عليها بصورة أو بأخرى، وقد أصبحت منطقة جديدة للمنافسة بين القوى الكبرى، ولكن يبدو فى إطار التغيرات الأخيرة والوساطة الناجحة للصين أنها قد أصبح لها دور جديد فى منطقة الشرق الأوسط. ويشير ذلك إلى إمكانية ظهور تحالف جديد للدول التى تتعرض لضغوط وعقوبات من قبل الولايات المتحدة دون أن يكون لها توجه أيديولوجى معين على رأسها الدب الروسى والتنين الصينى كلاعبين جدد فى منطقة الشرق الأوسط والساحة الدولية لتزاحم كلتا الدولتين الولايات المتحدة التى كانت تسعى لتشكيل تحالف جديد يضم دول الخليج وإسرائيل فى مواجهة التهديدات التى تواجه المنطقة العربية والشرق الأوسط، ومن ثم فهى تركت الولايات المتحدة تسعى مرة أخرى للبحث عن دور لنفسها فى المنطقة وعلى الساحة الدولية، وهو ما كانت تسعى إليه بالفعل عندما شرعت فى خلق بؤرة صراع فى منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسیا.
وعملية تحول القوى التى تتم بشكل سلمى من الجانب الصينى سيكون لها أثرها الإيجابى فى دعم السلام والاستقرار بالمنطقة، التى تسعى لتحقيق نفس أهداف الصين فى التنمية السلمية والمستدامة. فللصين ثقل بالمنطقة فى ظل علاقتها الممتدة مع السعودية، حيث تعد بكين أكبر مستوردى النفط السعودى، وفى ظل ما بينها وبين دول المنطقة من أجل التعاون العسكرى والسياسى والاقتصادى فى إطار اتفاقية الحزام والطريق التى تمكنت الصين من المضى فيها قدما، حتى فى ظل أزمة كورونا والأزمات الاقتصادية التى يمر بها العالم بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية
ربما لن تقف الولايات المتحدة وإسرائيل مكتوفى الأيدى أمام تلك التغيرات وربما تكون هناك ردود فعل عنيفة من الجانبين، وربما تصعيد خاصة بعد اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسى والصينى، وهى أول زیارة لتشى جين بينج لروسيا منذ نحو أربع سنوات. ولكن على الرغم من ذلك وفى ظل التطورات الأخيرة، يبدو أن الجانب الأمريكى على الأقل يسعى للتهدئة حاليا فى ظل وجود أزمة اقتصادية كبرى لدى البنوك الأمريكية وظهور بعض الوهن فى إدارة بايدن الذى أصبح يستشعره الجميع، بالإضافة إلى توتر العلاقات بين الجانبين الإسرائيلى والأمريكى ومحاولة تهدئة الأوضاع المحتدمة فى إسرائيل فى ظل انقسام أجهزتها وجيشها والدعوة لتشكيل حرس وطنى مدنى أو ميليشيات مدنية يقودها بن غفير وزير الأمن القومى، بعد قرارات نتنياهو الأخيرة.
وفى النهاية لا يمكن إنكار ما قدمته الصين من بدائل أمام صانع القرار العربى فى ظل الدور الجديد الذى تؤديه بوصفها نموذجا للقوة المسئولة فى المنطقة.