الهوية فى مفهومها العام هى الرمز المعبر عن طبيعة الفرد، أو المجتمع، أو الاقتصاد، وتختلف مكونات الهوية من شعب لآخر وفقا لتفاعل مؤثرات أهمهاالتاريخ، والجغرافيا، والعرق، والدين، والنشاط الاقتصادى. وتظل فكرة الدولة الوطنية هى الإطار الذى تنصهر بداخله جميع المؤثرات السابقة وصولا إلى هوية الدولة، التى يعد النجاح الاقتصادى وقود استمرارها، ومبعث الاعتزاز بها. والهوية الاقتصادية ليست مجرد اختيار لتنظيم اقتصادى، وإنما تشمل تفاعل تلك الأنظمة مع الخصائص المحلية، مثل: الموارد الطبيعية، وتعداد السكان وخصائصهم، ومدى تنوع قطاعات الاقتصاد، وحجم وطبيعة هياكل الإنتاج به، وتوجهات المنتجين، وتفضيلات المستهلكين وغيرها من العناصر التى تتفاعل جميعا فى تشكيل الهوية الاقتصادية التى تحدد أبعاد التخطيط الناجح لتطوير الوطن واستشراق مستقبله.
مظاهر الهوية الاقتصادية المصرية:
وتتشكل هوية الاقتصاد المصرى من مظاهر أهمها تنوع قطاعاته مع هيمنة من التأثير للقطاع الزراعى؛ حيث أرست الزراعة فكرة الاستقرار فى عقيدة المصريين ارتباطا بمواعيد الرى، وقد ترسخ توجه المصريين نحو المحاصيل التى تلبى حاجاتهم للطعام، وإلى جوار ذلك انتشرت الصناعات الحرفية البسيطة، وبعض المهن الأساسية، فى سبيل تحقيق اكتفائهم الذاتى المغلق؛ حيث كان للكثير من القرى والأحياء بوابات تغلق ليلا. ونجح الاقتصاد من خلال تلك المظاهر فى تحقيق نجاح اقتصادى نسبى متذبذب عبر العقود لكنه قد افتقر للتوسع فى عمليات التخصص والتطور الإنتاجى والتبادل التجارى،الأمر الذى يثير احتياج الهوية الاقتصادية المصرية إلى مزيد من التقبل لفكرة التركيز على الأنشطة الربحية مع تعزيز عمليات التبادل لتعظيم المنفعة، والاحتياج إلى التحرر من سيادة قناعة العمل حتى تتم تغطية الاحتياجات فقط إلى ترسيخ التوجه نحو ريادة الأعمال، وزيادة حجمها. ومازالت لم تترسخ فكرة زراعة المحصول الأكثر ربحية ثم التبادل التجارى مع الآخرين لتعظيم المنفعة لدى العقيدة الشعبية المصرية. بينما اعتمدت الدولة تاريخيا على معالجة ثغرات الهيكل الاقتصادى الإنتاجى من مواردها الريعية، مثل: إيرادات قناة السويس، والمناجم والمحاجر، وتحويلات المصريين بالخارج. وقد تفاعلت الهوية الاقتصادية مع أنظمة إدارة تلك الاقتصاد بين نظم الاقتصاد الحر، والاشتراكى والخلط بينهما؛ حيث تأثرت القرارات الاقتصادية بتوجهات الشخصية المصرية المعتدلة التى تميل إلى الاستقرار بصورة غلب عليها تفضيل سياسات المهدئات وأنصاف الحلول دون اللجوء إلى الحلول الجزرية ما فاقم من المشكلات بصورة دفعت نحو الاضطرابات السياسية فى يناير 2011.
تأثير تداعيات يناير 2011 فى الهوية الاقتصادية للاقتصاد المصرى:
وقد تعرضت الهوية الاقتصادية المصرية لمحاولات طمس متعمدة مع بداية أحداث يناير 2011 كجزء من محاولات طمس الهوية الوطنية للدولة، فارتفع صوتُ من يقنع المواطنين بالتوقف عن العمل انتظارا لتوزيع غنائم لن تأتى أبدا، وظهر من يقنع الناس بأنهم أغنياء لأنهم يملكون الأسماك التى فى البحار، والطيور التى فى السماء، والثروة المعدنية التى فى باطن الأرض، وروج جهلاء لاعتبار أن الزيادة السكانية كنز ثمين بينما الشعب يعانى البطالة وعدم كفاية الخدمات، فى إطار من الخداع وادعاء البعض امتلاكه القدرة الغيبية على تحقيق الرفاهية للشعب، ولكن تلك المحاولات جميعا قد فشلت وتكشفت للشعب مع ظهور نتائجها فى افتقاده لحاجاته الأساسية، مثل: الكهرباء، والماء، والوقود، والدواء، فى ظل ارتفاع نسب البطالة، وتراجع فى معدلات النمو واتجاه الاقتصاد نحو الهاوية، ما أظهر للمواطن حقيقة من حاولوا التشكيك فى هويته، وثوابته الوطنية، فانتصرت الهوية الوطنية فى 30 يونيو 2013 لتبدأ مشوار استعادة الهوية الوطنية التى تقدس العمل ولا تنتظر غنائم غيبية.
الطريق لاستعادة الهوية الاقتصادية وإصقالها بعد 30 يونيو:
الهوية الاقتصادية المصرية قديمة وراسخة، ربما أصيبت بحالة من التردد وعدم الثقة بفعل تداعيات أحداث يناير 2011، ولكن كان لظهور القائد فعل السحر فى تمسكها بمقومات قوتها، وكان تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى حكم مصر بمنزلة طوق النجاة لجميع مقومات الدولة المصرية بما فيها هويتها الاقتصادية، وكانت الثقة المتبادلة بين القائد والشعب هى الأساس الذى تم البناء عليه لتنفيذ أهم برنامج إصلاح اقتصادى قصير الأجل فى تاريخ مصر وأكثرها خشونة خلال السنوات 2016/2019، وبالتوازى مع هذا البرنامج بدأت الدولة فى تنفيذ مئات من المشروعات القومية، وشرعت فى إصلاح هياكل القطاعات الاقتصادية بصورة حاسمة من خلال برنامج إصلاح هيكلى شامل بدأ من عام 2021 مع بدء التحضير لانتقال الحكومة للعاصمة الإدارية الجديدة، والمؤكد أن دولة 30 يونيو ومن خلال تخطيط وتطبيق حاسم أعادت اكتشاف القدرات الكامنة للهوية الاقتصادية المصرية، ثم تجاوزت ذلك نحو إصقال تلك الهوية والإضافة الإيجابية لمقوماتها من خلال استراتيجية مصر 2030 التى تستهدف بناء اقتصاد تنافسى متنوع قائم على المعرفة والابتكار والتحول الرقمى بصورة ترفع من معدلات النمو وتزيد من معدلات التشغيل، وتحسن من بيئة الأعمال، وتعزز ثقافة ريادة الأعمال فى إطار من الشمول المالى، ومراعاة البعد البيئى؛ حيث ستضيف تلك المستهدفات المزيد من القوة والتجديد الإيجابى للهوية الاقتصادية المصرية.
قطاعات إعادة بناء الهوية الاقتصادية:
لقد كان لإصلاح مالية الدولة الأثر الحاسم فى أن تكتسب الهوية الثقة والقوة والجرأة على التنفيذ، فلن تستطيع أى دولة صناعة مشروع تنمية مهما كانت هويتها دون قدرة مالية قادرة على التمويل الذى يؤسس لضخ استثمارات حكومية تشجع القطاع الخاص المحلى والأجنبى على المشاركة فى ظل برامج حماية اجتماعية متطورة تدعم الاستقرار المجتمعى. كما كان لقطاع التشييد والبناء الدور الأكبر فى تشغيل أكبر قدر من العمالة بأقل قدر من المكون الأجنبى ولاسيما أن هذا القطاع يلقى تفضيلا فى الهوية الاستثمارية للمواطن المصرى الذى لديه شغف تاريخى لاقتناء العقارات ما يجعل الطلب على منتجات هذا القطاع مرتفعا جدا فى ظل احتياج الملايين للسكن والاستثمار، ورغبة الدولة فى زيادة المعروض من الإسكان للحد من زيادة أسعار السكن والدفع لخفض نسب الربح فى هذا القطاع حتى تقترب من أرباح القطاع الصناعى ما يشجع المستثمرين فى العمل بقطاع الصناعة بعد أن تم توفير البنية التحتية اللازمة، والأراضى الصناعية، والحوافز الاستثمارية، والطاقة بأنواعها، حيث تتركز مخططات الدولة مع بداية العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين على دفع قطاعى الصناعة والزراعة، وإعادة تنظيم هياكلهما بصورة عصرية، لاسيما قطاع الزراعة الذى لم يتم تجديده منذ عقود، فمازال الرى بالغمر، ومواعيد الزراعة بالتقويم القبطى معمولا به، ليتضمن برنامج الإصلاح الهيكلى تبطين الترع، وتطوير نظم الرى والزراعة، فضلا عن مشروعات التوسع الأفقى التى سيكون لها تأثير كبير فى تجديد مكونات الهوية الزراعية كمشروعات الدلتا الجديدة ومليون ونصف المليون فدان،ولاسيما أن مشروعات الزراعة فى المناطق الجديدة سترتبط بتجمعات سكانية أكثر شبابا، وبمناطق صناعية لتصنيع ما تنتجه، وبطرق وموانئ تسهل التصدير للخارج ما يعزز من تنافسيتها وتخلق فكرا ينظر إلى الأسواق بالخارج والداخل ليعرف ماذا يزرع، ولمن يوجه إنتاجه.
البعد الاجتماعى للهوية الاقتصادية:
تاريخيا ارتبطت معيشة المصريين بدولتهم المتحكمة فى المياه التى كان توزيعها بمنزلة توزيع لخير الزراعة الذى هو أساس الحياة، وكان هناك دور اجتماعى نسبى للإقطاعيين فى تقديم مساعدات للفقراء، قبل أن تتولى الدولة ذلك مع التحول الاشتراكى بعد ثورة يوليو 1952، ولكن كانت المشكلة تتمثل فى الخلط بين الأجر، والدعم، ففكرة التوسع فى التوظيف فى أجهزة الدولة وشركاتها خلقت بطالة مقنعة أضرت بالعملية الإنتاجية، وحملت الدولة أعباء كبيرة، للإنفاق على قطاعات واسعة من العمالة غير المنتجة، الأمر الذى تتم مراعاته فى التجديد الحالى للهوية الاقتصادية؛ حيث يتم الاتجاه نحو خلق وظائف حقيقية، وفصل الدعم عن السعر، على أساس أن فصل الدعم عن السعر يحد من وصول الدعم إلى الأغنياء، بينما يتم تصميم برامج دعم أكثر كفاءة فى تحقيق العدالة الاجتماعية، منها تقديم الدعم النقدى كمعاش "تكافل وكرامة"، وتقديم الدعم العينى" كالخبز والسلع التموينية"، وتقديم المبادرات الصحية "كالقضاء على فيروس سى"، و"توفير لقاح كورونا مجانا"، والأهم توفير تمويل منخفض التكلفة لمن يريد السكن، أو العمل مثل مبادرة تمويل الإسكان الاجتماعى بنسبة 3% وتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر بنسبة 5%؛ حيث تتحمل الدولة فارق تكلفة التمويل نيابة عن المواطن بما يلبى حاجة الموطن فى السكن، ويشجعه على التصدى لإنشاء مشروعات خاصة به يعمل هو وغيره بها، من ثم نحن بصدد تجديد للهوية الاقتصادية يشجع العمل، ويضمن أساسيات الحياة للبسطاء، مع فتح الأفق العادل أمام الجميع لتحسين أوضاعهم من خلال دعم جميع مبادرات وأفكار من يريد العمل والإنتاج والتطور.
الهوية الاقتصادية للمواطن راسخة تقبل التطور:
ارتبطت الهوية الاقتصادية للمواطن المصرى تاريخيا بنهر النيل الذى كان لانتظام فيضانه أن ارتبط المواطن المصرى بفكرة انتظام إيراده وصبره حتى يحصل على الخير بعد عمل شاق زراعى دون مجازفة كبيرة، وحتى مع تطور نظم الرى ترسخت لدى المصريين فكرة انتظام ورود المياه وما يرتبط بها بانتظام الزراعة، وتأثرت بذلك الصناعات الحرفية، والمشروعات الخدمية وغيرها من الأنشطة التى ارتبطت مواسم رواجها بمواسم الحصاد الزراعى للفلاحين، وانفرد رواد الأعمال المصريين بفكرة العمل حتى الوصول إلى مستهدف الكفاية ثم التوقف. فدافع التوسع وزيادة حجم النشاط غير متوافر سوى لقلة من رواد الأعمال، وكان أثر ذلك هو انخفاض أعداد رواد الأعمال المصريين الذين يرتبطون بتشغيل منشآت القطاع الخاص البالغ عددها نحو 3,741 مليون منشأة اقتصادية، وهو حجم منخفض مقارنة بعدد السكان، الأمر الذى تنبهت له الدولة وتبنت العديد من المبادرات لزياد أعداد رواد الأعمال، مثل تشجيع إنشاء حاضنات ومسرعات أعمال يقدمان كل الدعم لأصحاب الأفكار حتى ينفذوا مشروعاتهم بنجاح، وجهاز المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر الذى يدير تقديم الحوافز والضمانات لرواد الأعمال، فضلا عن مشروع رواد 2030 الذى يستهدف إضافة مليون رائد أعمال للاقتصاد المصرى بحلول عام 2030.
مستقبل الهوية الاقتصادية المصرية:
وعلى أعتاب جمهورية مصر الجديدة يمكن أن نرصد حفاظ الاقتصاد المصرى على قوته الداخلية فى الوادى والدلتا، وتبنى مبادرة حياة كريمة لتطوير الريف، وفى الوقت ذاته يتم التوسع فى إنشاء المحاور والطرق للانطلاق نحو نمو يمتد عكس الاتجاه التاريخى نحو نهر النيل، بالتوسع فى إنشاء مجتمعات عمرانية جديدة تزيد نسبة الرقعة المعمورة بما يترتب عليه خلق آفاق اقتصادية جديدة تضيف إلى هوية مصر الاقتصادية من الناحية الجغرافية، كما أنها توسع من تنوع قطاعات الاقتصاد، وتنوع موارده. فبعد تحقيق معدلات نمو جيدة فى قطاعات: التشييد والبناء، والنقل، والتعدين والبتروكيماويات، والقطاع المالى والمصرفى، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والسياحة، تستهدف الدولة الحفاظ على تلك المعدلات بل العمل على زيادتها، مع التصميم على رفع معدلات نمو القطاع الزراعى والصناعى بحيث تكون معدلات النمو مرتفعة بصورة شاملة دون أن يكون ارتفاع معدل نمو لقطاع على حساب قطاع آخر، الأمر لا يخلو من تحديات داخلية وخارجية.
والواقع هو أن جمهورية مصر الجديدة تتشكل فى ظرف عالمى بالغ الصعوبة والدقة. ومع ذلك فإن الدولة المصرية تتجه نحو جمهوريتها الجديدة متمسكة بهويتها التاريخية، وتعمل على الإضافة إليها بما يناسب روح العصر من خلال استراتيجية محكمة وخطوات مدروسة وتوقيتات محددة، وتظل ضمانة النجاح هى قناعتنا وقدرتنا على التطور والاستجابة، بعد أن أثبت التاريخ عظمة الهوية المصرية وقدرتها على التطور والتفاعل مع جميع الحضارات.