موجة صقيع وثلوج تتساقط بشدة أنذرت أوروبا بشتاء قارس، حيث وصل انخفاض درجات الحرارة إلى معدلات غير مسبوقة بالنسبة لهذا التوقيت من العام، وأثارت تساؤلا مهما عن الخاسر الحقيقى من الحرب الروسية - الأوكرانية، ومن الأكثر تضررا من هذه الحرب؟ وهل تؤدى إلى تغييرات جذرية فى القارة العجوز؟ وما شكل هذه التغييرات وتأثيرها فى مستقبل القارة؟
قبل الذهاب إلى محاولات إيجاد إجابة عن التساؤلات، لابد من الإشارة إلى المفارقة المثيرة، موجة البرد الشديدة التى تجتاح أوروبا تأتى نتيجة استمرار تجمع الضغط الجوى المنخفض فوق غرب روسيا، وأدت موجة الصقيع الشديدة وتساقط الثلوج فى دول غرب ووسط أوروبا بما فيها بريطانيا إلى اضطراب حركة النقل والمواصلات وتعطل جزئى فى المطارات بسبب الثلوج، إذن الواقع يقول روسيا لن تتوقف فقط عن تدفئة أوروبا بغازها بل تزيد من برودة جوها لتقاسى أكثر.
وبحسب مراكز الأرصاد الجوية فى القارة الأوروبية، ستستمر عاصفة البرد لأسابيع مقبلة مع انخفاض شديد فى درجات الحرارة، ما يشكل اختبارا لإمدادات الطاقة المضطربة بفعل الحرب فى أوكرانيا.
وينتظر الأوروبيون ليروا إذا ما كانت بلادهم ستشهد انقطاعا فى التيار الكهربائى حيث من المؤكد أن يرتفع معدل الاستهلاك بسبب البرد، وكان فصل الخريف الذى جاء دافئا ساعد إلى حد ما الدول الأوروبية فى ملء خزانات الغاز، ما عزز شعورا بالثقة والأمان رغم توقف الغاز الروسى عن السيلان باتجاه الاتحاد الأوروبى.
لكن التحديات تبدأ الآن إذ سيؤدى المزيد من الطلب على التدفئة، إضافة إلى نقص الإنتاج الكهربائى الذى تؤمنه محطات الطاقة البديلة فى المملكة المتحدة وألمانيا وشمال أوروبا، إلى اختبار حقيقى للشبكات الكهربائية، فى الوقت الذى تعانى فيه المنشآت النووية الفرنسية.
طول مدة الحرب الروسية الأوكرانية، برزت انقسامات واضحة فى القارة العجوز، وكشفت عن هشاشة الاتحاد الأوروبى، وبات اللجوء إلى حلول فردية قريبا جدا، خاصة فى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.
سجلت ألمانيا التصرف الأول المنفرد بضخ 200 مليار دولار فى السوق المحلية كمعونات، وهو ما رآه الاتحاد الأوربى يؤثر فى عموم السوق، زيادة فى التضخم، ويفاقم من الخلافات التى تتضارب فيها المصالح بين دول الاتحاد الأعضاء التى تكررت على مدار الشهر الماضى كالانقسامات الحادة فى الآراء بسبب إمدادات الوقود النووى الروسى، والتعاون مع شركة "روسآتوم" الروسية للطاقة الذرية، فعندما أوصت بولندا وأيرلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وألمانيا فى الفترة الأخيرة الاتحاد الأوروبى بحظر استيراد الوقود النووى الروسى من أجل تجنب تمويل روسيا، صرخت هنجاريا وفرنسا، وأغلقت بروكسل عينيها.
بات الضرر الأوروبى المنذر بالتفكك هو التحدى الأخطر الذى يواجه القارة العجوز، فى الوقت الذى تعلن فيه روسيا على لسان رئيسها فلاديمير بوتين أن الاتحاد الأوراسى قام بخطوات ناجحة فى الحد من التضخم، وأن اقتصادات بلدان الاتحاد الاقتصادى الأوراسى مستقرة، ويعنى ذلك أنها ستنمو وسيزداد معها استهلاك موارد الطاقة.
الخسائر الأوروبية أو قل الأزمات التى تواجه الاتحاد بقيادة فرنسا فى هذه المرحلة لم تتوقف عند البعد الاقتصادى وأزمات التدفئة، فالمتابع للشأن الأوروبى يكتشف أن موجة صعود كبيرة لليمين المتطرف فى أوروبا تجتاح القارة العجوز بقوة، وتؤكد أن هناك تغييرا دراماتيكيا يلوح فى الأفق، وليس أدل على ذلك مما شهدته ألمانيا فى 7 ديسمبر الجارى والمتمثلة فى محاولة انقلاب ضخمة خطط لها "مواطنو الرايخ"، وقد نفّذت برلين عملية أمنية كبرى فى إحدى عشرة ولاية بانتشار 3 آلاف عنصر أمن ومخابرات وقوات خاصة، لإلقاء القبض على قادة هذا التنظيم الذين كانوا يخططون لاحتلال مؤسسات الدولة، ويفرضون أحكاما عرفية فيما بعد لإسقاط الديمقراطية الألمانية.
والمثير أن من بين أعضاء الخلية التى ضمت وفق التحقيقات أكثر من 50 عضوا نشطا، بالإضافة إلى أعضاء فرعيين ومؤيدين، برز اسم الأمير هنرى الثالث عشر؛ الملك المنتظر بعد الانقلاب، والنائبة السابقة بالبرلمان الألمانى، بيرجيت مالساك وينكمان، التى عملت أيضا كقاضية فى برلين، لا يعرف عنها أو عن دورها فى الخلية الكثير، حتى اليوم.
وعلى حد وصف مجلة دير شبيجل الألمانية فإن وينكمان "تعبد" الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، فالأخير بالنسبة لها "رجل دولة حقيقى"، رغم أن هناك بعض الاتهامات السياسية له بتحريض أنصاره على اقتحام مبنى الكابتول الأمريكى يوم 6 يناير 2021.
لكن وينكمان قالت كلمات الإطراء فى حق ترامب بعد 6 أشهر من محاولة اقتحام الكابيتول، عندما كانت لا تزال عضوا فى البرلمان الألمانى وتستعد لخوض سباق الانتخابات للحفاظ على مقعدها.
وتقول تقارير ألمانية: إن مجموعة من الشخصيات العسكرية السابقة اليمينية المتطرفة خططت لاقتحام هو مبنى البرلمان السابق في الرايخ الألماني، الرايخستاج، والاستيلاء على السلطة، وأن رجلا ألمانيا من أسرة نبيلة يوصف بـ "الأمير" ويُدعى هاينريش الثالث عشر، يبلغ من العمر 71 عاما، كان له دور محورى فى خططهم.
ووفقا للمدعين الفيدراليين، فإن هاينريش هو واحد من اثنين من زعماء الحركة المزعومين الذين اعتقلوا فى حملة المداهمات التى شملت 11 ولاية ألمانية.
وكشف التحقيقات عن أن أعضاء فى حركة من مواطنى الرايخ المتطرفة، التى طالما كانت محط أعين الشرطة الألمانية بسبب الهجمات العنيفة التى ترتكبها وتبنيها نظريات المؤامرة العنصرية، ويرفض أنصار الحركة الاعتراف بالدولة الألمانية الحديثة.
إننا أمام نزوع لإحياء تجربة "هتلر"، التى قوضت وحدة ألمانيا بأثر الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها إلى دولتين شرقية وغربية، الأولى تتبع موسكو والثانية فى كفالة واشنطن التى أولت اهتماما بالغا بألمانيا الغربية أمام الحضور السوفيتى القوى فى ألمانيا الشرقية، وساعدت بفوائضها المالية فى إطلاق "مشروع مارشال" لانتشالها من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية.
الحرب الروسية الأوكرانية كانت حاضرة بقوة حتى فيما سمته التحقيقات محاولة انقلاب، فبحسب التحقيقات اتصل أعضاء بالحركة بالمسئولين الروس بهدف التفاوض على نظام جديد فى البلاد بمجرد الإطاحة بالحكومة الألمانية، وأنه حصل على مساعدة امرأة روسية تدعى "فيتاليا ب" فى التواصل مع الروس.
الأمر لم يقتصر على ألمانيا، ففوز جورجيا ميلونى الزعيمة اليمينية فى الانتخابات التشريعية فى إيطاليا، أثار موجة من الصدمة فى أوروبا، كما أثار مخاوف من أن تصبح إيطاليا عاملا لإضعاف إصرار الغرب على التصدى لحرب روسيا فى أوكرانيا.
فالواقع يقول إن إيطاليا صوتت لحكومة جديدة تقودها رئيسة وزراء وُلد حزبها من رماد الفاشية الإيطالية فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو دليل جديد على الأداء الجيد لليمين فى كل من فرنسا والمجر والسويد، وعلى صعود قادة اليمين المتطرف فى أوروبا، القارة العجوز التى تعصف بها رياح الهجرة والمشكلات الاقتصادية وتدور فى شقها الشرقى حرب مدمرة.
خطورة فوز اليمين الراديكالى فى الانتخابات الإيطالية تأتى من كونها ثالث أكبر اقتصاد فى منطقة اليورو وعضوا مؤسسا فى الاتحاد الأوروبى.
فوز اليمين فى إيطاليا وتأثيره فى ألمانيا لم يكن وليد صدفة، فالواقع يقول إن الحكومات الأوروبية اليمينية باتت فى كل من المجر منذ إبريل 2022، وبولندا منذ أكتوبر 2019، كما نجد فى إسبانيا أن الحزب اليمينى المتطرف "فوكس" حاز نحو 15% من مقاعد البرلمان فى انتخابات نوفمبر2019 وهى نسبة لم يصل إليها من قبل، ورغم أنه لم يحز أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة فإن هذه النسبة عكست تقدما شعبيا له قد يزداد فى الانتخابات القادمة فى آخر 2023، كما أنه حقق تقدما فى الانتخابات الإقليمية مارس الماضى، وأحرز فيها تقدما أكبر مما مكنه من المشاركة فى تشكيلة حكومة إقليم كاستيا وليون - للمرة الأولى فى تاريخ البلاد- حيث عقد ائتلافا مع "الحزب الشعبي" اليمينى.
ولم يقتصر صعود اليمين المتطرف على هذه الدول بل لقد حقق اليمين المتطرف تقدما مذهلا فى فرنسا - ثانى أكبر اقتصاد فى الاتحاد الأوروبى - عندما حلت زعيمة حزب "التجمع الوطنى" اليمينى المتطرف مارين لوبان بالمرتبة الثانية بالانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة الأمر الذى مكنها من أن تغير صورة حزبها لتجعله أكثر قبولا لدى الفرنسيين.
وهو ما انتفع به الحزب المتطرف بعد فترة قصيرة؛ حيث تمكن من تحقيق اختراق تاريخى بالانتخابات التشريعية التى جرت فى يونيو 2022 حيث حصل على 89 مقعدا فى الجمعية الوطنية مكونا كتلة برلمانية له لأول مرة منذ عام 1986.
وتشترك أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية فى مواقف متعددة ومنها التعصب القومى، الذى يعد الاندماج مع ثقافات أخرى تهديدا للهوية القومية، وكذلك رفض المهاجرين بشكل عام.
نعود إلى السؤال الكبير: من الخاسر؟الحقيقة أنه لا إجابة شافية وافية وكافية لهذا السؤال، لكن يبقى أن الغرب بات قاب قوسين أو أدنى للاتجاه نحو مخرج واقعى من أزمة أوكرانيا ومراعاة المصالح القومية، والأهم التموضع المتزن بين القوى الكبرى بما يضمن حفظ إمدادات الطاقة الرخيصة من موسكو، وعدم تقديم المصلحة الأمريكية على مصالحهم.