تتوالى القمم بين الشرق والغرب، فى حراك واضح بالسياسة العالمية، فبينما تسعى أقطاب إلى دعم نفوذها وتأثيرها، تتجه أخرى إلى الاستفادة من هذا الحراك وهذه القمم، من أجل فرص التعاون وفتح آفاق جديدة، وعلى كل المستويات سياسية واقتصادية، وحتى عسكرية وثقافية. فى المقابل يشهد الوضع الدولى حالة من المتغيرات، على إثر عدد من القضايا والأزمات المتتالية، وربما الأحاديث عن التعددية القطبية لم تكن لتتجدد، إلا عقب حالة المتغيرات هذه والحراك الواضح بالسياسة العالمية، وإن اختلفت توجهات القوى الدولية تجاه التعددية، فبينما تقبل بها قوى ارتأت فيها حالة التوازن، تحاول أخرى إجهاض محاولات التعددية، من أجل استمرارية السيطرة الأحادية التى ترسخت إبان فترة الحرب الباردة وما بعدها، وما تزال تلقى بظلالها رغم ما نعاصره من مراحل انتقالية.
ولعل ملامح التعددية القطبية لم تتضح بقوة، إلا أن بعضا من بوادرها وإرهاصاتها بدأت فى الظهور، لاسيما عقب بروز قوى دولية متعددة عدَّت كفيلة بحفظ الوضع الدولى، عند معدلات تذكر من التوازنات والعلاقات فيما بين الدول، ذلك مع التراجع الواضح للقطب الأمريكى الأهم والأشهر، وحالات التراجع الواضح التى سجلها على المسرح الدولى، كنتيجة للسياسات الخارجية المتخبطة، مع الانقسامات الداخلية الأخيرة، أضف أيضا الوضع الروسى عقب الأزمة والصراع الشرس مع أوكرانيا، وهو ما أظهر جانبا من الإخفاقات الروسية، بعد أن كادت تتصدر المشهد كقطب مهم يسعى لاستعادة دوره على المستويين الدولى والإقليمى، وعن الاتحاد الأوروبى ومعاناته الحالية مع أزمات الاقتصاد والطاقة، فضلا عن بروز اليمين المتطرف وتصدره المشهد، فجميعها مثلت تراجعا واضحا من شأنه تهديد وجود الاتحاد وأقطابه كأطراف لاعبة وبقوة على المسرح الدولى، على الأقل فى هذه المرحلة الانتقالية.
غير أن سيادة الأحادية القطبية، كانت قد تمكنت من تعجيز القوى المختلفة والمؤسسات الدولية وأبرزها الأمم المتحدة، خصوصا مع انسحاب واشنطن من عدة اتفاقات ومعاهدات دولية (ستارت- كيوتو- والمناخ)، واعتمادها العولمة كصناعة أمريكية، جاءت بالأساس بغرض دعم الدولة الإمبرالية فى تنفيذ وفرض قناعاتها، وهو ما عدَّ ضمن أبرز المخاطر العالمية، وقس على هذا فى معظم التحركات العالمية وقراراتها على المسرح الدولى والأقسى تدخلاتها بالمنطقة.
ومع تغير مدارس العلاقات الدولية، ومساهماتها فى بروز نظام عالمى جديد، وتعدد الأقطاب الدولية على المسرح الدولى، إلا أن التعددية القطبية الحقيقية وفاعليتها لم تبزغ بالشكل المراد، أو على الأقل لم تأت بالأدبيات العالمية والمفترض وجودها واقترانها بهذه النوعية من العلاقات والتوازنات فيما بين الدول.
ولعل التقارب العربى - الصينى الأخير، ينبئ ببوادر تعددية قطبية، من شأنها إدارة المشهد الدولى وتحجيم تداعياته، خصوصا بعد ثلاث من القمم التى جمعت الجانبين وعلى مستويات عدة من التنسيق والتعاون والمستهدفات الاقتصادية، ولم يكن التقارب هو الأول، لكنه جاء منذ التقاء الحضارات، وبرز قويا مع مبادرة الصين" الحزام والطريق" والخريطة الجيوستراتيجية الجديدة المفترض إحداثها ضمن المبادرة، والانفتاح بين الثقافات والاتجاهات الحضارية المختلفة؛ حيث تحاول الصين دمج العرب من خلالها، فبلغت استثماراتها لدى العرب ما يوازى 213,9 مليار دولار، خلال العقدين الماضيين، كما بلغ حجم التبادل التجارى بينهما 330 مليار دولار أمريكى فى العام الماضى.
انعكاف الصين اللافت على تنميتها الاقتصادية، مع ابتعادها عن التحزبات العالمية وربما التى صنعتها الأزمات وتداعياتها: تبنيها قناعات النظام الدولى المتعدد الأقطاب، والتزامها بالمعاهدات الدولية مع التزامها بالاستراتيجية النووية الدفاعية وتصدرها برامج التنمية الدولية.. كلها عوامل أسهمت بشكل جدي فى بروزها، بل بالأكثر تمكنت من الإفلات من الاتهامات الدولية والمتعلقة بالوباء العالمى وأسباب انتشاره، أضف أيضا تصدرها قائمة التهديدات الأمريكية، وهو ما جاء ضمن استراتيجية الأمن القومى الأمريكية وتقارير البنتاجون.
غير أن الرد الأمريكى السريع تجاه التحركات الأخيرة، لم يكن عبر انطلاق القمة الإفريقية - الأمريكية، التى سعت من خلالها الولايات إلى حفظ تموضعها بالقارة واستمرارية نفوذها، إنما من قبلها، فمنذ أغسطس القريب وجاءت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه القارة السمراء، بغرض دعم شعوبها لاسيما عقب عدة من التحديات فى مقدمتها الأوبئة والتغيرات المناخية، كما هدفت أمريكا أيضا إلى السيطرة الأمنية مع الاستفادة من موارد إفريقيا، أضف أيضا إحداث بعض التغيرات الداخلية هناك.
هنا، يمكن الجزم بأن الأقطاب الأحادية التى سعت للسيطرة ومنذ عقود، هى نفسها من تحاول عبر تشكيل التحالفات، إلى تبنى التعددية، خوفا من غياب أدوارها أو تراجعها.