ربما لدينا أزمة دولار، السوق المصرفية تعانى شحًّا فى العملة الصعبة، ومن ثم تظهر معاناة التجار والمستوردين فى صعوبة الحصول على اعتمادات مستندية لتخليص شحناتهم وإدخال بضائعهم ومنتجاتهم، ما يعنى ضغوطا تضخمية إضافية وأعباء زائدة على كاهل الاقتصاد والمواطنين الذين يعانون غلاء متسارعا فى أسعار مختلف أنواع السلع، هذه حقيقة مؤكدة. رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى اعترف بها بنفسه وقال إن "الدولة لديها خطة على عدد من المحاور لتأمين احتياجات البلاد من النقد الأجنبى حتى نهاية العام المالى الجارى، إلى جانب تنفيذ مستهدفات الخطة العاجلة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية من خلال "اللجنة العليا للأداء الاقتصادى".
أسباب هذه الأزمة وطرق الحل كثيرة بالتأكيد، ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى ما يتداوله كثيرون على السوشيال ميديا فى صورة سؤال قد يبدو بسيطا وحلا ناجعا: ولماذا لا تصدر الدولة قرارا بتحصيل رسوم مرور السفن من قناة السويس بالجنيه المصرى؟ ويضربون مثالا بقرار روسيا تصدير غازها بالروبل خاصة بعد أن حققت إيرادات قناة السويس أعلى دخل فى تاريخها،خلال الفترة من يناير حتى نوفمبر 2022 نحو 7 مليارات و194 مليون دولار، بزيادة 26%، مقارنة بالفترة نفسها خلال عام 2021 الذى سجل إيرادات بلغت 5 مليارات و706 ملايين دولار، أى بزيادة مليار و489 مليون دولار.
للوهلة الأولى يبدو السؤال منطقيا وحلا جذريا لأزمة الدولار، فكل السفن التى ستعبر ستحتاج الجنيه وستقوم بتغيير الدولار إلى العملة المحلية لتسديد الرسوم، ووقتها ستنتشر مكاتب الصرافة وفروع للبنوك على طول خط القناة لتلبية الطلب المتزايد على الجنيه، ما يعنى ارتفاع قيمة الجنيه وتوفير الدولار فى الوقت نفسه.
قبل الإجابة عن السؤال، دعونا نسأل سؤالا آخر: هل هذا المقترح يفيد الجنيه المصرى أم يضره؟
بالعربى الفصيح ومباشرة دون مواربة، المقترح سيضر الجنيه المصرى ويسهم فى تقليل قيمته السوقية بشكل كبير جدا، فعندما تفرض مصر سداد رسوم المرور بالجنيه المصرى، ستزداد فجوة النقد الأجنبى فى الحساب الجارى نتيجة نقص عرض الدولار، ما يزيد الضغوط على الجنيه المصرى نحو الانخفاض، وهو ما يتنافى مع الهدف الأساسى للمقترح. أيضا عملية تدبير الجنيه المصرى لشركات النقل البحرى، لن تكون مجدية إذا ما لم يشترط أن تقدم شركات النقل مستندا يفيد بأنها قامت بتحويل الرسوم من خلال بنك مصرى، الأمر الذى يؤدى إلى تعقيدات كثيرة وتعطيل فى عمليات المرور يؤدى بالتبعية إلى البحث عن طرق أخرى للمرور بعيدا عن قناة السويس، أيضا الشركات قد تلجأ إلى تدبير الجنيه المصرى من السوق السوداء، ما يفتح الباب على مصراعيه لعمليات تهريب الجنيه للخارج لتمويل العمليات غير المشروعة فى مصر، مثل استيراد المخدرات، أو غسيل الأموال، وهو ما يضر بالجنيه على نحو أكبر.
يطرح عباقرة السوشيال ميديا ومناضلو الكيبورد فى الغرف المكيفة أيضا اقتراحا آخر، وهو لماذا لا نفرض رسوم المرور بالجنيه المصرى ونطلب من شركات النقل أن تدفع المقابل لها بالدولار حسب السعر الرسمى للجنيه فى البنك المركزى؟! هذا أيضا اقتراح ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. فهذا الإجراء، فضلا عما يسببه من تعقيد فى إجراءات المرور، فإن حساب الرسوم بالجنيه المصرى وطلب الدفع بالدولار بمعدل الصرف الرسمى السائد لدى البنك المركزى سيؤدى إلى أن الشركات ستدفع دولارات أقل فى مقابل العبور، فالعملة المصرية تتراجع فى الغالب فى مواجهة العملات الأخرى لأسباب كثيرة لن نناقشها هنا، إذن وفقا لهذا المقترح ستنخفض إيرادات المرور فى قناة السويس على المدى الطويل، أو ستضطر مصر إلى تعديل رسوم المرور فى القناة بالجنيه المصرى مع كل تراجع يحدث فى قيمته، وهذا التراجع قد يحدث يوميا وأحيانا فى اليوم الواحد أكثر من مرة ما يعنى ارتباكا شديدا لا أول له من آخر.
الآن أعود إلى السؤال الأول، ودعونى أقل لكم إن هناك 5 أسباب تؤكد استحالة تحصيل رسوم عبور السفن فى قناة السويس الجديدة بالجنيه المصرى بديلًا عن الدولار:
الأول: تحويل التعاملات الدولية وتداولها بعملة بلد ما يتطلب موافقة 85% من أعضاء صندوق النقد الدولى الذى تمثل الولايات المتحدة وحدها 17% من إجمالى أصواته.
الثانى: مصر دولة غير منتجة، ولا يتجاوز حجم إنتاجها 0.3 من إجمالى الإنتاج العالمى، ومن ثم فإن عملتها النقدية غير قوية على المستوى الدولى، بعكس الولايات المتحدة التى تنفرد بـ 20% من إجمالى الإنتاج العالمى، ومن ثم فإن عملتها النقدية ذات قيمة.
الثالث: تحويل التعاملات للجنيه المصرى قد يضر بقيمة الجنيه حتى لو تدافعت البنوك على شراء العملة المصرية لعبور القناة؛ لأن أى خلل فى الاقتصاد قد يضرب قيمة الجنيه المصرى وتنحدر قيمته لأدنى مستوياتها، وفى ذلك الوقت ستسعى البنوك للتخلص منه، وحينها قد يصل سعر الدولار إلى أرقام فلكية.
الرابع: لن تحقق زيادة الطلب على الجنيه المصرى ارتفاعًا فى قيمته؛ لأن سعر الصرف ثابت.
الخامس: لن تستطيع مصر رفع قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى، إلا فى حال تمكنها من الوصول بحصتها من الإنتاج العالمى إلى 10% على مدار الـ 10 سنوات المقبلة، ولو تضاعفت حصة الإنتاج هذه خلال 10 سنوات تالية فسوف تتعادل قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار.
الخلاصة، ينبغى أن يؤخذ فى الحسبان أن قناة السويس تعد ممرا عالميا، بمعنى أن الخدمة التى يتم تقديمها لجميع الناقلات التى تمر بها من جميع دول العالم هى خدمة دولية، ومن المعلوم أن السلع والخدمات الدولية يتم بيعها وتسعيرها بعملة دولية، مثل الدولار، والجنيه المصرى ليس عملة دولية، وغير متوافر خارج مصر بالكميات المناسبة لدفع رسوم المرور، ومن ثم فإنه عندما تفرض مصر على شركات النقل البحرى فى العالم ضرورة أن يتم دفع رسوم المرور بالجنيه المصرى، فإنها ستحمل هذه الشركات عبئا إضافيا يتمثل فى تكلفة تدبير هذه العملة، وهو ما قد يؤدى فعلا إلى البحث عن بدائل أخرى والابتعاد عن المرور من قناة السويس.