قبل أن نستطرد فى الحديث عن الاستقطاب السياسى فى عصر المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعى، قد يكون من المناسب أن نشير إلى أن هذا النوع من الاستقطاب يتداخل كثيرا مع الجوانب الدينية والاجتماعية سواء باستخدامها كستار له أو العكس، من كلمة حق يراد بها باطل أو كلام وأخبار مغلوطة تماما يتم نشرها بوسائل متعددة لتحقيق تلك الأهداف وتوجيه الجماهير نحو الإيمان بأيديولوجية ما أو الكفر بأخرى، نجد العديد من الأمثلة الشهيرة عبر التاريخ التى تؤكد ذلك وتبينه.
ربما يكون أحد أهم وأشهر تلك الأدوات ما استخدمه المغول من إطلاق عدد كبير من الأخبار المغلوطة عن قوة جيوشهم وبراعة مقاتليهم بل وحشيتهم أيضا، وهو ما كان يتم من خلال البعث بعدد من العملاء للقيام بتجهيز البلدان التى يودون غزوها من الناحية النفسية لتقبل تلك الأفكار ولتثبيط الهمم، وذلك قبل الغزو العسكرى بفترة مناسبة، لدرجة أن بعض الحكايات التى تروى فى هذا الصدد أن أحد هؤلاء الجنود كان يقوم بقتل وذبح مجموعة من الضحايا، وفى هذه الأثناء حدث أن انكسر نصل سيفه فما كان منه إلا أنه ترك باقي الضحايا وذهب ثم عاد بسيف جديد واستكمل ما كان يقوم به من أعمال دموية، والغريب أن هؤلاء الضحايا لم يفكر أى منهم فى الهرب فى تلك الأثناء، وهو ما يدل على ما وصلوا إليه من استسلام وانهيار على المستوى النفسى نتيجة تشبعهم وتصديقهم الكامل لما تلقوه من قبل من أخبار تتحدث عن قوة هؤلاء الجنود وقدراتهم الخارقة.
ننتقل بعد ذلك إلى ثمانينيات القرن الماضى؛ حيث انتشرت صورة فوتوغرافية لطريق فى إحدى الغابات به أشجار عن اليمين وعن اليسار، شكلت جذوعها عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، انتشرت الصورة كالنار فى الهشيم، فلم يمكن أن تجد دكانا أو متجرا أو حتى مسجدا إلا قد وضعها فى مكان ظاهر داخل إطار زجاجى أنيق مع كتابة الآية الكريمة "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت53)، مع شرح وتبيان يوضحان أن الصورة تم التقاطها فى إحدى الغابات بألمانيا، وأن الحكومة الألمانية قد قامت بفرض سياج منيع حول تلك الغابة، وذلك بعد أن ازداد أعداد الزائرين لها، وكذا أيضا أعداد الداخلين إلى الدين الإسلامى بعد مشاهدة تلك المعجزة والافتنان بها.
الأمر حمل أيضا أكثر من رسالة أولها دغدغة مشاعر المسلمين حول العالم بتأكيد أن الدين الإسلامي هو الدين الحق، وأن الله يرسل إلينا تلك المعجزات للتثبيت، كما أن تلك المعجزة وظهورها فى دولة لا تدين بدين الإسلام إنما هو بمنزلة رسالة ومساهمة فى نشر الدعوة الإسلامية ودخول عشرات الآلاف إلى هذا الدين، كما تظهر أيضا مدى كراهية الغرب للإسلام ومحاولاتهم المستميتة لإخفاء تلك المعجزة خشية تأثيرها فى شعوبهم، بالإضافة إلى ما رسخته فى نفوس من صدَّقها من مشاعر عدائية ضد تلك الدولة وضد حكومتها أيضا، كما أنها استخدمت كمقياس للقدرة على الحشد والتوجيه للعالم الإسلامى وبث بذور الكراهية ضد الغرب ومدى فاعلية استخدام الدين لهذا الغرض.
والحقيقة أن من عاصر تلك الفترة يعرف جيدا كم الانتشار الهائل لتلك الصورة، وكم المناقشات التى طرحت حولها، وأيضا كم الأصوات العقلانية التى شككت فى مصداقية الصورة، أو التى أشارت إلى أنها لوحة لفنان مصرى وليست صورة فوتوغرافية، أصوات قليلة موضوعية ضاعت وسط زحام الاقتناع والانبهار.
حدث أمر مشابه فى بداية التسعينيات بعد غزو العراق للكويت، والحديث عن إحراق بعض آبار البترول وإهدار البعض الآخر من خلال صرفه فى مياه الخليج؛ حيث انتشر مقطع فيديو لإوزة غارقة فى الزيت، تترنح على الشاطئ نتيجة المياه الملوثة مع انتشار الحديث عن التأثيرات البيئية لإلقاء البترول فى مياه الخليج، ما أسهم فى زيادة شحن المجتمع الدولى ضد هذا الغزو الذى استنكرته الغالبية بالفعل، ولكن مع هذه الصورة يصل إلى المتلقى رسالة، مفادها أن الغزو وتأثيراته السلبية لن تكون محصورة فى منطقة الصراع فقط.
هذا الاستخدام الموجه لتحريك وإثارة المشاعر الدينية والإنسانية منع الكثيرين من أن يفكروا بعقلانية، فلم يسأل أحد نفسه: لماذا قامت الحكومة الألمانية ببناء سياج حول الأشجار وبدلا من أن تزيلها تماما؟ كما لم يسأل أحد عن تلك الإوزة؟ وهل هى موجودة بالفعل وتعيش فى الخليج العربى؟ اتضح فيما بعد أن الصورة قديمة لواقعة تسرب زيتي من إحدى الناقلات العملاقة يقال إنها فى خليج المكسيك.
المثالان السابقان كانا قبل انتشار شبكة الإنترنت الذى بدأ بعد ذلك بأعوام قليلة من خلال المواقع الإلكترونية وبرامج الدردشة المتناثرة حتى وصلنا إلى مرحلة شبكات التواصل الاجتماعى.
شبكات التواصل الاجتماعى والاستقطاب:
البداية كانت فى فبراير من عام 2004 حين بدأت شركة فيسبوك فى العمل والانتشار من خلال بداية بسيطة وبريئة بهدف جمع الأصدقاء والتواصل معهم، ثم مع الكم الكبير من الإقبال والانتشار الذى وصل بأعداد الحسابات حاليا إلى ما يقرب من 2.95 مليار حساب دخلت باقى الأنشطة على نفس الشبكة، فأصبح لأغلب الشركات والمؤسسات الحكومية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدنى وجود كبير على تلك الشبكة، وجود قلَّص من الوجود التقليدى من خلال المواقع أو البوابات أو المنصات الإلكترونية، تزامن ذلك مع التطور الكبير فى أجهزة التليفون المحمولة وتزايد السرعات المتوافرة فى عدة أجيال بداية من الجيل الأول1Gوصولا إلى الجيل الخامس 5Gالذى أتاح سهولة وسرعة غير مسبوقة فى التصفح من خلال العديد من تطبيقات الوسائط المتعددة Multimedia ، فلم يقتصر الأمر على مجرد وجود نص مكتوب أو صورة صغيرة غير واضحة بل تعداه إلى الملفات الصوتية ومقاطع الفيديو القصيرة الجذابة.
تتيح تلك التطبيقات العديد من الإمكانات، منها إمكانية تحسين الصور، أو تعديلها بالكامل، أو اختلاق صورة أو مقاطع فيديو لم تحدث على الإطلاق فيما يعرف بالتزييف العميق Deep Fakeمع إمكانية إضافة مؤثرات صوتية متعددة لجعل المقطع أكثر جاذبية وأكثر تأثيرا، ثم يأتى بعد ذلك دور تلك الشبكات فى تناقل هذا المحتوى بسرعة وسهولة بين بقاع الأرضفى ثوان معدودة.
ولأننا نميل دائما إلى تصديق أغلب ما يعرض علينا دون أن نمرره على بوابة العقل والمنطق، ولأن المحتوى جذاب، ولأننا نختبر مصداقية المحتوى من خلال كم الإعجاب به Likesفإن منشورا صغيرا نراه يحمل عشرات الآلاف من علامات الإعجاب وآلاف التعليقات،يحملنا على أن نقوم بصورة تلقائية بالإعجاب به ونشره إلى المزيد من الأصدقاء، فتزداد كرة الثلج كبرا ويتعاظم تأثيرها.
مازلنا مثلا نتذكر مقطع فيديو لذبح صحفى أمريكى على يد ما أطلق عليه تنظيم الدولة الإسلامية، ورأينا ردود الأفعال الهائلة تجاه الواقعة، وانتشاره على مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، ونذكر أيضا البيانات التى نشرها تنظيم القاعدة خلال عام 2011 وما بعدها، انتشار تلقفته وسائل الإعلام، وساعد على نشر خطاب الكراهية وتغيير وعى المواطن الغربى وشحنه ضد كل ما يتعلق بالدين الإسلامي، ما ظهر أثره فى بعض الممارسات العنصرية ضد المسلمين فى الغرب ربما يكون أكثرها وضوحا تلك المذبحة التى حدثت فى مسجدين بنيوزيلاندا قبل صلاة الجمعة فى مارس 2019 وأسفرت عن مقتل 51 فردا وجرح العشرات.
أما على المستوى المحلى فنجد أن انتشار تلك الأفكار والممارسات بدأ مبكرا بعد عام 1954 عندما انطلق تنظيم الإخوان الإرهابى بعد الصدام مع النظام المصرى إلى العديد من الدول العربية بالأساس، وإلى القليل من البلدان الأوروبية وعلى رأسها ميونخ بألمانيا؛ حيث تم إنشاء المركز الإسلامى، ثم بدأت تلك المراكز فى الانتشار فى العديد من الدول، ومنها إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية أيضا من خلال إنشاء تلك المراكز ولجان الإغاثة وجمع التبرعات تحت مسميات متعددة لنصرة المسلمين المستضعفين ولتقوية الدعوة وخلافه.
مسميات براقة وأنشطة متعددة ومحاولة لتقديم أنفسهم كمثال للإسلام المعتدل ومحاولات لعرض أنفسهم للحصول على الدعم كبديل للأنظمة العربية الوطنية بداية من النشأة عام 1928 ومحاولات التحالف مع الإنجليز كبديل للنظام المصرى الوليد فى يوليو 1952 وصولا إلى السقوط الذريع والانتهاء مع ثورة 30 يونيو 2013.
لم يجد التنظيم ومن يحركه مجالا خصبا، مثل شبكات التواصل الاجتماعى لكى يتم اللعب على عدة محاور، أولها التشكيك المستمر فى نيات وإنجازات الأنظمة الحالية وبث روح اليأس، والاعتراض على كل ما يحدث، وأيضا تشويه صورة العالم الإسلامى لدى الغرب فى الغرب ليتم اللجوء إليه كمخلص يتم الاعتماد عليه لإنهاء هذا الصراع ولتقليل حدة الاحتقان الحادث، وهى لعبة خطيرة تكشفت للعالم كله بعد الثورة المصرية.
يكفى أن نلاحظ توقف العمليات الإرهابية خلال عام حكم الإخوان فى مصر وتزايدها بصورة كبيرة بعد سقوطهم فى 2013، وهو ربط منطقى وحقيقى لابد من الانتباه إليه ووضعه فى السياق السليم.
لايزال التنظيم الدولى يحاول من خلال شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة، ومن خلال القنوات الفضائية، ومن خلال مجموعة من العملاء. ولكن يبقى الملاذ والمخرج فى "الوعى" وهو ما يؤكده السيد الرئيس فى العديد من اللقاءات، وهى للمفارقة تكون لقاءات لافتتاح العديد من المشروعات القومية الكبيرة التى يكفى وجودها وتنفيذها للرد على كل تلك الحملات التى تحاول النيل من قوة وتماسك الدولة المصرية فى سيرها نحو المستقبل، فالمحاولات مستمرة، ويتم فيها أيضا استخدام بعض تقنيات التسويق المعروفة؛ حيث تتم الاستعانة ببعض الشخصيات المشهورة للمشاركة فى تلك العمليات لمحاولة تمرير رسائل مسمومة إلى المشاهد يكون أبسط آثارها السلبية هو بث روح الانهزامية واليأس وهى خطوة خطيرة تحتاج إلى وعى وعمل مضاد لا يتوقف أبدا.