تأخرت البشرية كثيرا حتى تمت بلورة مفاهيم علوم وأنظمة دعم اتخاذ القرار Decision Support Systems؛فالشخص العادى ربما يعتقد أن هذا العلم من العلوم القديمة خاصة أن مبادئه تعتمد على المنطق بدرجة كبيرة، ولكن الحقيقة إن هذا العلم بدأ بصورة نظرية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى فى جامعة كارنيجى ميلون وتحديدا فى معهد كارنيجى للتقنية Carnegie Institute of Technology، ثم تحولت إلى فرع منفصل من فروع البحث منتصف السبعينيات، ووصلت إلى درجة من النضج والانتشار مع بداية عقد الثمانينيات، ما أدى إلى بداية تغيير أسلوب عمل مراكز الفكر والأبحاث بانتهاج تلك المناهج التى تعتمد ببساطة على جمع وتنقيح البيانات ثم تحليلها باستخدام النماذج الرياضية، وصولا إلى اقتراح بدائل توضع أمام متخذ القرار، مبينا بكل منها المميزات والعيوب والتكلفة والزمن والتأثير وخلافه، وهنا يتبقى على متخذ القرار المفاضلة بين تلك البدائل واتخاذ القرار الأنسب.
فى الحقيقة فإنه وعلى الرغم من أهمية كل مراحل صنع القرار السابق الإشارة إليها فإن مرحلة التحليل هى الأهم والأخطر؛ فهى التى من شأنها توجيه الحلول والبدائل فى الاتجاه السليم أو فى أى اتجاه آخر، والحقيقة إن تلك العملية ليست محصورة فقط فى القرارات الكبرى بل إنها نهج حياة يتعين على الجميع انتهاجه حتى على المستوى الشخصى، فنحن نتذكر نصيحة الآباء بأن التفكير يجب أن يسبق الفعل، وأن علينا كلما وضعنا فى موقف جديد ألا نتسرع بأخذ أى حركة فى أى اتجاه قبل أن نقول بالتحليل وتقدير الموقف قبل التحرك.
وفى عصر المعلومات الذى نحيا فيه الآن نتعرض يوميا إلى سيل كبير من البيانات والمعلومات والأخبار نتلقاها بسرعة الإلكترون وبسرعة شبكات المعلومات، فنشعر بالحيرة أحيانا وبالتشتت أحيانا أخرى، وعلى الرغم من توافر البيانات والمعلومات بصورة غير مسبوقة خلال تاريخ البشرية كلها فإننا أحيانا نصاب بما يطلق عليه "الحمل الزائد من المعلومات" Information Overload وفى أحيان أخرى يطلق عليه Information Overflow أى أننا نتعرض لكميات مهولة من المعلومات تكون النتيجة النهائية لتعرضنا لها مماثلة تقريبا لما قد نصل إليه فى حالة قلة المعلومات أو ندرتها.
منحنى الجرس صحيح دائما:
أحد الأشكال البيانية المهمة والصحيحة دائما هو الشكل البيانى المسمى بمنحنى الجرس Bell Curveالذى إن طبقناه على المعرفة مثلا فنستطيع أن نقول إنه كلما زادت المعلومات المتاحة زادت المعرفة لدينا حتى نصل إلى نقطة فى أعلى الرسم البيانى Top of the bell curveتتناقص المعرفة بعد هذه النقطة على الرغم من استمرار زيادة البيانات وصولا إلى درجة جهل مرتفعة مماثلة لتلك المرتبطة بقلة البيانات، وهذا يحدث ببساطة لصعوبة التحليل أو تجاهل أهميته على الإطلاق.
خديعة قراءة البيانات:
من الفخاخ التى نقع فيها وربما تساعد عليها بعض وسائل الإعلام الموجهة هو الفخ المرتبط بعدم تحليل الأرقام تحليلا سليما مع زيادة البث لنتائج غير حقيقية لهذا التحليل، مثال على هذا عندما اجتاح العالم نهاية عام 2002 وحتى منتصف عام 2003 حمى وباء السارس، وهو لمن لا يعرف عبارة عن مرض فيروسى يهاجم الجهاز التنفسى ويسبب صعوبات فى التنفس قد تؤدى إلى الوفاة، ظهر المرض بداية فى الصين، اجتاحت هستيريا الخوف من المرض العالم كله، وسائل الإعلام المختلفة أصبحت لا تتحدث ليلا أو نهارا إلا عن المرض وأساليب انتقال العدوى وحالات الوفاة، وخلال تلك الفترة انتشرت العديد من مقاطع الفيديو والمقالات والأخبار من خلال البريد الإلكترونى والقنوات الفضائية ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة عن كيفية وسرعة انتقال الوباء الجديد والعدد المتوقع للضحايا، وقبل ذلك بعدة أشهر كان العالم فى حالة ترقب من انتشار بكتيريا الجمرة الخبيثة، لا تفتح خطابا أو طردا وصل إليك من الخارج، احترس من أى غبار أو بودرة تجدها على أى سطح تمر بجواره، لا علاج ولا أمل.
وهنا نجد سؤالا يطرح نفسه هل: اختلقت وسائل الإعلام هذه الأمراض؟ الإجابة الأولية البسيطة هى "لا" ولكن الإعلام بطبيعته يركز على كل ما هو غريب وخطير، والجزء الآخر من المشكلة هو المتلقى، كيف يتلقى الخبر أولا ثم كيف يتفاعل معه ثانيا.
الشىء الجديد فى هذين المثالين هو بداية ظهور شبكة الإنترنت بقوة كلاعب ومحرك رئيسى لمثل هذه الأخبار، فالمحرك لم يكن من خلال المواقع الإلكترونية للمؤسسات الإعلامية فقط، بل كانت مما يطلق عليه "إعلام المستخدم"، مستخدم شبكة
الإنترنت أصبح مستقبلا ومرسلا أيضا، يتلقى الخبر ويتفاعل معه نفسيا، يغير فيه، يضيف إليه، يحذف منه، ثم يعيد إرساله مرة أخرى إلى الدائرة القريبة منه، هذه الدائرة مكونة من مستخدمين آخرين، منهم النشط ومنهم غير ذلك، ينتهى الأمر فى غضون سويعات قليلة بأن يتحرك الخبر فى أرجاء العالم كله مثل كرة البنج بونج.
وانتشار الخبر وقدومه إلى المتلقى من مصادر عدة حتما سيصيبه بالقلق والخوف والتوتر وهذا ما حدث بالفعل فى حالة المثالين السابقين، فالكثير أجَّل سفره، والكثير امتنع عن فتح المظاريف الورقية أو الطرود الخارجية لمدة طويلة على الرغم من أن الأرقام وتحليلها لهما رأى آخر.
فإجمالى الإصابات جراء مرض السارس كان 8098 مصابا حول العالم توفى منهم 774 فقط وذلك طبقا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، هذا فى عالم تعداده 6.4 مليار نسمة آنذاك وهى نسبة مئوية متدنية جدا تكاد تقترب من الصفر لم تكن تستدعى كل هذا الهلع.
الأثر النفسى لقراءة الأرقام:
لا يمكن إنكار التأثير النفسى لأسلوب قراءة الأرقام، فلغة الأرقام التى (لا تكذب أبدا) يمكنها أن تعطيك انطباعا بالارتياح أو بالانزعاج بناء على أسلوب وطريقة القراءة وبناء على ما يتم الاستشهاد به من أمثلة وتوقيت ضرب تلك الأمثلة، كما يمكن أيضا إعطاء إيحاءات مختلفة فقط عندما يتم تغيير ترتيب سرد الأرقام.
مثال البنك هو الأشهر فى إعطاء التأثير المطلوب بناء على الموقف، فعندما يتحدث إليك موظف البنك مباشرة أو من خلال أساليب الدعاية المختلفة فإنه يذكر لك أن الفائدة، التى تمثل 10% هى ببساطة عشرة قروش لكل جنيه وذلك فى حالة أن تكون مقترضا من البنك، نفس الـ10% يسوقها لك على أنها مئة جنيه لكل ألف جنيه وذلك فى حالة الإيداع، القراءة مختلفة ولكن إحدى القراءات تحمل فى طياتها تهوينا والأخرى تحمل فى طياتها تضخيما.
مثال آخر شهير نتعرض له جميعا فى أسعار السلع التى نراها فى المتاجر الكبرى، فقد تجد على سبيل المثال تليفون محمول بسعر 999 جنيها، نفسيا هذا الرقم يختلف بشدة عن أن يكتب بجوار السعر أن هذا المحمول سعره 1001 جنيه، مع أن الفارق جنيهان فقط.
مقارنة الأرقام أيضا قد تعطى دلالات مختلفة بناء على أسلوب الشرح، المثال الشهير فى هذا الإطار وأظنه مثالا مختلقا ولكنه يوضح الفكرة بشدة حيث يقال إنه فى إحدى الدول الأوروبية أقيمت مسابقة للعدو بين عدائين اثنين فقط، عداء أمريكى وعداء روسى، السباق كان سريا، لم يذع على قنوات التلفاز، لم يحضره صحفى واحد، المهم السباق كان طويلا وانتهى بفوز العداء الأمريكى على نظيره الروسى.
عاد العداء الروسى إلى بلاده وحين سأله أعضاء اللجنة التى رشحته لهذا السباق عن النتيجة، أجابهم بسعادة، كنت موفقا، كان ترتيبى "الثانى"، وعندما سألوه عن موقف العداء الأمريكى، أجاب باستخفاف، ترتيبه "قبل الأخير".
أما عن ترتيب استعراض البيانات ونتائج محركات البحث على الإنترنت فإن تأثيرها يكون كبيرا مثلما كان كذلك على الناخبين فى الانتخابات الأمريكية فقط من خلال تغيير ترتيب نتائج البحث، يمكن أن تبحث عن دونالد ترامب فتجد أول عشر نتائج تتحدث عن أنه رجل أعمال ناجح وإدارى ممتاز وله إمبراطورية أعمال كبيرة حول العالم، هذا سيعطى انطباعا بأنه الأفضل للمزيد من النمو الاقتصادى، وفى الوقت نفسه تبحث عن هيلارى كلينتون فتجد نتائج بحث مرتبطة بأنها ستكون امتدادا لأوباما، أو أن زوجها لديه فضائح سابقة، هذا يُحدِثُ تأثيرا، باقى نتائج البحث ستظهر الجانب الآخر من ملامح كلٍّ من المرشحين، ولكن من سينظر إليها، فالأغلب لن ينتبه إلى أى نتائج خلاف ما يظهر فى الصفحة الأولى فقط.
يمكن فعل العكس أيضا حيث يمكن تغيير نتائج البحث طبقا لخصائص من يقوم بالبحث: سنه، نوعه، موقعه الجغرافى، توجهه السياسى والحزب الذى ينتمى إليه، التجارب أثبتت أن مجرد تغيير الترتيب يحقق تغييرا فى الرأى، ومن ثم يغير الرأى لنحو 12% من الناخبين الذين لم يحددوا موقفهم لكنهم يعتمدون على الإنترنت لأخذ الآراء، وهى أساليب أصبحت تتدخل فيها تقنيات الذكاء الاصطناعى بشدة لتحقيق المزيد من التلاعب والخديعة والتأثير فى المستخدمين.