غالباً ما ارتبط الحديث عن أن صعود الصين سيعمل على تغير المشهد الجيوسياسي العالمي، لاسيما مع التحديات الاقتصادية والأمنية التي ينطوي عليها هذا الصعود بالنسبة للولايات المتحدة والقوى الغربية التقليدية. ومع تسارع وتيرة موجات التغير المناخي، تتجه أنظار العالم بأسره إلى الصين، حيث تواتر الحديث عن التهديد البيئي الذي تمثله الصين للعالم، وذلك فى ضوء ثلاثة أمور رئيسية، أولها أن الصين تعد أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري فى العالم، فالصين تنتج ما يقرب من ربع الانبعاثات الحرارية فى العالم، ويعزي ذلك إلى التنمية الاقتصادية السريعة التي شهدتها الصين خلال العقود الماضية(1).
أما الأمر الثاني فيتعلق بأنه على الرغم من تعهد الصين بالتحكم الصارم فى استهلاك الفحم حتى عام 2025، تمهيداً لخفضه تدريجيًا والوصول إلى انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2060، فإن الصين تعمل على زيادة إنتاج الفحم لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء، وذلك للتعامل مع أزمة الطاقة الناجمة عن التدخل الروسي فى أوكرانيا(2).
ويتمثل الأمر الثالث والأخير فى أن الصين يمكنها تهديد الجهود العالمية لمجابهة التغير المناخي، فإذا لم تتخذ الصين خطوات سريعة للسيطرة على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فسيكون من الصعوبة بمكان تحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ، والإبقاء على الزيادة فى درجات الحرارة لتتراوح بين 1.5 درجة مئوية/ 2.7 فهرنهايت، أو حتى أقل من « 2 درجة مئوية» /3.6 فهرنهايت(3).
أولاً- دوافع الصين لمجابهة تغير المناخ:
بالإضافة إلى الأمور المذكورة، يمكن استقراء مزيد من العوامل التي تدفع الحزب الشيوعي الصيني لبذل جهود حثيثة لمكافحة التغير المناخي، ما يجعل قضية تغير المناخ من أهم القضايا الحاضرة بقوة على الساحة السياسية الصينية، نذكرها كالتالي:
1- تبني الرئيس الصيني لقضية تغير المناخ: تعد المركزية الشديدة من أهم سمات النظام السياسي الصيني، بمعني أن المفتاح الرئيسي لتبنى الاستراتيجيات والتوجهات العامة فى الصين يكمن فى قيام القادة الصينيين بتبني توجه معين، ثم يتم تعميم هذا التوجه على القواعد الحزبية والشعبية. وهو ما حدث فى قضية التغير المناخي، حيث يولي الرئيس الصيني الحالي (تشي جين بينج) أهمية كبيرة لحماية البيئة والتنمية المستدامة، وهو أمر يميزه عن القادة الصينيين السابقين الذين انصب تركيزهم على التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب(4).
تجدر الإشارة إلى أن اهتمام (بينج) بالبيئة وتغير المناخ قد سبق توليه لمقاليد السلطة فى الصين، فخلال الفترة من ٢٠٠٠ حتى عام ٢٠٠٧، أثناء شغله لمنصب سكرتير الحزب فى مقاطعة جيجيانج، قام بنشر ما يقرب من 232 مقالة فى صحيفة المقاطعة، وتناول فى ٢٢ منها أهمية الحفاظ على البيئة، ما مثَّل أمرا استثنائيا آنذاك، حيث لم يكن هناك أي مسئول حزبي آخر على مستوى المقاطعات يروج بشكل روتيني لحماية البيئة والتنمية المستدامة، فلم يكن هذا الموضوع محلاً للنقاش السياسي داخل الحزب الشيوعي(5).
وقد انعكس التزام الرئيس الصيني تجاه قضية تغير المناخ فى مؤشرين، أولهما إطلاق سلسلة واسعة من التحقيقات فى قضايا متعلقة بانتهاكات ضد اللوائح البيئية، حيث تم اعتقال عدد كبير من كبار المسئولين على خلفية هذه القضايا والتي كان من أهمها قضية تدمير الأراضي العشبية بواسطة مناجم الفحم فى منطقة Qilianshan Muli، وقضية البناء غير القانوني للوحدات السكنية فى منطقة محمية Qinling، فضلا عن قضايا الفساد المتعلقة بصناعة الفحم، التي تم الكشف عنها فى مقاطعة منغوليا الداخلية(6)، ما مثل مؤشراً قوياً بأن حماية البيئة هي من بين أهم أولويات الرئيس الصيني.
أما المؤشر الآخر، فقد تمثل فى تأسيس الرئيس الصيني لفريق التفتيش البيئي المركزي (CEEIT) وذلك بهدف الإشراف على الوزارات المحلية والمركزية. وتجدر الإشارة إلى أنه فى فبراير عام 2021، انتقد فريق التفتيش البيئي علنًا وكالة الطاقة الوطنية التابعة للحكومة المركزية لفشلها فى الحد من توسع البلاد فى بناء محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم. وهي سابقة استثنائية فى الصين، حيث من النادر أن تخضع وكالة حكومية مركزية رفيعة المستوى، مثل وكالة الطاقة الوطنية للتفتيش والانتقاد علانية(7).
لذا، يمكن القول إن الرئيس الصيني قد عمل على تعزيز ودعم الحديث عن قضية تغير المناخ داخل المجتمع الصيني، بيد أنه لا يمكن التصور أن تناول هذه القضية يتم بدون قيود، لاسيما بالنظر إلى طبيعة النظام الصيني. فقد أصبحت قضية تغير المناخ من الموضوعات التي يتم تناولها بشكل متواتر، ولكن لا يزال هذا التناول يسير فى إطار توجهات الدولة والحزب الشيوعي، بمعني أنه لا يٌسمح بمعارضة او انتقاد سياسات تغير المناخ التي ينتهجها الحزب، فضلا عن أنه فى ضوء سياسات الإغلاق الصارمة التي اتبعتها الصين بسبب الجائحة، فقد تم تضييق الخناق على المراسلين الأجانب والصينيين الذين يعملون فى مجال تغطية الأخبار المتعلقة بالتغير المناخي والسياسات البيئية للصين. بالفعل، قد رحل عدد كبير منهم، خلال العام الماضي، من الصين، معللين ذلك بعدم قدرتهم على زيارة محطات الطاقة الجديدة أو استقصاء الحقائق حول محطات توليد الطاقة التي تستخدم الفحم(8).
2- الأزمة البيئية الطاحنة فى الصين: وفقًا للتقرير الصادر عن المركز الوطني للمناخ فى بكين عام 2020، فقد تم التحذير من أن ارتفاع مستويات مياه البحر بسبب استمرار ذوبان الجليد، سيؤدي إلى غمر بعض المدن الساحلية فى الصين، مثل شنغهاي، حال استمرار متوسط درجات الحرارة العالمية فى الارتفاع. كما يعيش ما يقدر بنحو 43 مليون شخص فى الصين على أرض يمكن أن تكون مغمورة بالمياه بحلول نهاية القرن الحالي، حال ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية بمقدار 2 درجة مئوية(9).
وحذر التقرير من أن الصين ستشهد المزيد من الظواهر الجوية المتطرفة المتكررة، الأمر الذي حدث بالفعل خلال العام الحالي، حيث عانت الصين من موجة شديدة من ارتفاع درجات الحرارة بداية من 13 يونيو، حيث سجلت درجات الحرارة أعلى من 40 درجة مئوية. وتعد هذه الموجة الأقوى التي تضرب الصين منذ عام 1961 وذلك وفقًا لإدارة الأرصاد الجوية الصينية(10).
منذ بداية شهر يوليو، شهدت معظم المقاطعات والمدن الصينية على طول نهر اليانغتسي موجة جفاف شديدة، ووفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة إدارة الطوارئ الصينية، فقد أثرت موجة الجفاف فى 5.527 مليون شخص وتسببت فى خسائر اقتصادية مباشرة قدرها 2.73 مليار يوان صيني(11)، فعلى سبيل المثال، أعلنت مقاطعة هوبي أن ما يقرب من 400 ألف هكتار (990 ألف فدان) من المحاصيل قد تضررت بسبب موجة الجفاف، وأن أكثر من 150 ألف شخص أصبح لديهم قدرة محدودة للوصول لمياه الشرب النظيفة(12).
كما أصدرت ثلاث إدارات حكومية (وزارة إدارة الطوارئ، وإدارة الدولة للغابات والمراعي، وإدارة الأرصاد الجوية الصينية) فى 22 أغسطس المنصرم أول تحذير بالغ الخطورة من ارتفاع خطر حرائق الغابات(13)، حيث وقعت حرائق واسعة النطاق فى منطقتا تشونكينغ وسيشوان بجنوب غرب الصين(14). وفى الوقت ذاته، شهدت أجزاء كبيرة من شمال الصين فيضانات وانهيارات أرضية مدمرة، راح ضحيتها ما يزيد على 16 قتيلا، بالإضافة إلى 18 شخصا فى عداد المفقودين(15).
رغم كل ذلك، فإن تلوث الهواء وندرة المياه يعدان من القضايا البيئية الأكثر إلحاحاً فى الصين. فقد شهدت بكين فى 13 يناير 2013 أسوأ موجة تلوث للهواء فى تاريخها، حيث سجل مقياس جودة الهواء ما يقرب من 933 درجة فى بعض مناطق بكين، فى حين أنه وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن المستوى المثالي لجودة الهواء هو «10 درجات»، ما يوضح حجم الكارثة التي عانتها الصين فى بداية عام 2013، والتي أدت إلى دخول ما يزيد على 7 آلاف طفل للمستشفى بسبب ضيق التنفس(16).
ورغم أن وزير البيئة الصيني (هوانغ رونكيو) قد أشاد فى أغسطس 2021، بإنجاز بكين فى تحسين جودة الهواء خلال السنوات القليلة الماضية، حيث انخفضت نسبة تلوث الهواء بنسبة 52.9٪ فى غضون خمس سنوات، من 80 درجة فى عام 2015 إلى 38 درجة فى عام 2020، وهو بالفعل إنجاز كبير للقيادة الصينية(17)، إلا أن التحدي الأكبر يتمثل فى خفض مستويات تلوث الهواء للتوافق مع معايير منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى عدم ارتفاع معدلات التلوث عن المعدل الحالي. أما بالنسبة لقضية ندرة المياه، فوفقًا لتقرير صدر عام 2018 من منظمة «حوار الصين»، وهي منظمة غير ربحية مهتمة برصد التحديات البيئية فى الصين، فإن الصين تعد موطنًا لنحو 20% من سكان العالم، إلا أنها تتمتع بإمكانية الوصول إلى 7% فقط من المياه العذبة فى العالم. فضلا عن أن نحو 80 % من المياه الموجودة فى الصين تتركز فى الجنوب، فى حين يعاني شمال الصين - الذي يضم 64 % من الأراضي الزراعية فى الصين وأكثر من 696 مليون شخص- إجهادا مائيا حادا (حيث ينخفض إجمالي استهلاك المياه لأغراض الزراعة والصناعة ومياه الشرب إلى أقل من 500 متر مكعب للفرد سنويًا)(18).
3- تعزيز شرعية الحزب الشيوعي: يمكن أن يؤدي تأثير تغير المناخ على النظام البيئي المتنوع فى الصين إلى الإمعان فى الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية فى الصين، ما قد يهدد الاستقرار الداخلي للصين، وهو ما يخشاه قادة الحزب الشيوعي، لاسيما فى المناطق التي تتميز بنزعة انفصالية، مثل إقليمي التبت وشينجيانج، أو المناطق التي تعاني من تهميش اقتصادي، خاصة المناطق الريفية فى الصين. فاقتران التباينات الاقتصادية والنزعات الانفصالية مع التدهور البيئي سيشكل تهديداً حقيقيا لسلطة الحزب الشيوعي الصيني(19).
وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة people daily فى فبراير ٢٠٢١، شمل ما يزيد على ٥ ملايين شخص، أن القضايا المناخية احتلت المرتبة الخامسة من حيث اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي الصيني، وهو ما يعد مؤشراً مهماً للتأكيد على الأهمية المتنامية التي تحتلها قضية التغير المناخي فى وعي الشعب الصيني(20). فى هذا السياق، اعتمدت الصين بشكل مكثف على تقنية زرع الغيوم لتوليد الأمطار والتقليل من نسب التلوث فى العاصمة بكين وذلك قبيل الاحتفال بالذكرى المئوية للحزب الشيوعي فى الأول من يوليو ٢٠٢١، ما يؤكد على أن الحزب الشيوعي الصيني أصبح يستشعر الخطر من التدهور البيئي(21).
4- الضغوط الدولية: منذ اعتماد اتفاقية باريس للمناخ فى أواخر عام 2015، تتعرض الصين لضغوط من قبل كل من الولايات المتحدة وأوروبا بشأن سياستها المناخية. ورغم أن القادة الصينيين كثيرا ما أكدوا أن الصين تقوم بتصميم مبادراتها الخاصة لمعالجة التحديات الناجمة عن تغير المناخ وليس وفقا لما يمليه عليها القادة الغربيون، إلا أن الرئيس الصيني نفسه لم ينف تأثير الضغط الدولي فى الصين، حيث صرح فى عام 2016 بأن «الظروف الدولية والمحلية لن تدعم تنمية الصين إذا اتبعنا مسار التنمية نفسه الذي تم اتباعه فى الماضي»، فى إشارة واضحة إلى أنه ليس هناك سبيل للحفاظ على المكتسبات التنموية الصينية سوى بذل مزيد من الجهود للحفاظ على البيئة(22).
ثانياً- استراتيجية الصين لإدارة أزمة تغير المناخ:
قبل عام 2010، كان يتم تضمين أهداف وسياسات العمل المناخي فى السياسات الخاصة باستهلاك الطاقة والتنمية الاقتصادية، ولكن بداية من عام 2011، بدأت الصين فى صياغة سياسات محددة للتخفيف والتكيف مع آثار المناخ. فعلى سبيل المثال، حددت الخطة الخمسية الثانية عشرة (للفترة من 2011 إلى 2015) لأول مرة أهدافًا وطنية متعلقة بالطاقة والمناخ، مثل خفض كثافة الطاقة (كمية الطاقة المستهلكة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي) بنسبة 16٪، وخفض كثافة الكربون (كمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي) بنسبة 17٪(23).
كما قدمت بكين مساهمتها المناخية المحددة وطنيا (NDC) فى عام 2016، التي تعهدت فيها بتحقيق ذروة انبعاثات الكربون بحلول عام 2030. وفى سبتمبر 2020، قامت بتحديث المساهمات المحددة وطنيا، ليتم إعلان أنه سيتم تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، مما منحها فترة زمنية تبلغ نحو 30 عامًا بين تحقيق الهدفين، وهو إطار زمني طموح للغاية مقارنة بالاطار الزمني الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي والذي يبلغ 71 عاما، فى حين أن الولايات المتحدة واليابان قد حددتا إطاراً زمنيا لتحقيق الحياد الكربوني خلال 43 و37 عاماً على التوالي. كما أعلنت الصين عام 2020 أيضاً أنها لن تمول بناء محطات الفحم فى الخارج(24).
وفى هذا الصدد، يمكن رصد أهم السمات التي تميز استراتيجية الصين لمواجهة تغير المناخ، كما يلي(25):
1- تكامل جهود الحكومة المركزية والأقاليم: تحتفظ الحكومة المركزية برقابة صارمة على معظم القرارات السياسية فى الصين، بما فى ذلك الاستراتيجيات المتبعة لمعالجة التحديات الناجمة عن تغير المناخ، حيث تحدد الحكومة المركزية الأهداف العامة لسياسات تغير المناخ، التي يتم تضمينها فى الخطط الخمسية، ثم يتم تصنيف وتوزيع هذه الأهداف على حكومات الأقاليم. تعد عملية تصنيف الأهداف من الناحية النظرية قرارًا من الحكومة المركزية، إلا أنه فى الواقع، تقوم حكومات الأقاليم بالتفاوض مع الحكومة المركزية من أجل اختيار الآليات التي سيتم الاعتماد عليها لتنفيذ الأهداف. وفى المقابل، تقوم الحكومة المركزية بتقييم أداء قادة المقاطعات بناء على مدى تحقيق الأهداف المتفق عليها(26).
2- توظيف أزمة المناخ لتوسيع نفوذ الصين: تعمل الصين على تعظيم استفادتها من التوجه العالمي نحو الاقتصاد الأخضر، وذلك من خلال تعزيز صورتها كقائد عالمي لمجابهة تغيرات المناخ، وقد ظهر ذلك جليا من خلال إنشاء الصين لصندوق التعاون المناخي بين بلدان الجنوب فى عام 2015 وتعهدت بنحو 20 مليار يوان صيني (3.1 مليار دولار أمريكي) لتعزيز التعاون الدولي فى مجال المناخ من خلال مبادرة «10-100-1000»، التي تهدف إلى دعم البلدان النامية للتصدي لتغير المناخ من خلال تطوير 10 مجمعات صناعية تجريبية منخفضة الكربون، و100 مشروع للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه وتنفيذ1000 نشاط لبناء القدرات المتعلقة بالمناخ(27).
علاوة على إعلان عن العديد من المبادرات حول تعميق التعاون بشأن تغير المناخ من خلال مشروعات البنية التحتية التي سيتم تنفيذها من خلال مبادرة الحزام والطريق. فعلى سبيل المثال، أعلنت الصين عام 2022 زيادة انخراطها فى جهود التحول الأخضر مع دول مبادرة الحزام والطريق، لاسيما فى المجالات المتعلقة بالبنية التحتية والطاقة، وتشير التقارير إلى أنه فى عام 2021 لم تقم الصين بتمويل أي مشروعات تعتمد على الفحم لتوليد الطاقة فى الدول الواقعة فى نطاق المبادرة. ومع ذلك، تجادل بعض الدراسات الأخرى بأن الصين يتعين عليها بذل مزيد من الجهود حيال تقييم الآثار البيئية لعدد من المشروعات الجاري تنفيذها بالفعل من خلال المبادرة ولم يتم إجراء دراسات مفصلة لتقييم الأثر البيئي الناتج عن تنفيذها(28).
3- التناقض بين الاستثمار الكثيف فى الطاقة المتجددة واستمرار الاعتماد على الفحم: تعد الصين هي المستثمر الرائد فى العالم فى مجال الطاقة المتجددة منذ عام 2013، حيث تولد الصين طاقة شمسية أكثر من أي دولة أخرى فى العالم. فضلا عن أن محطات توليد الكهرباء من طاقة الرياح الموجودة فى الصين تعد أكثر بثلاثة أضعاف من تلك الموجودة فى أي دولة أخرى. كما أن استخدام الصين للمركبات الكهربائية آخذ فى الازدياد، فبدءًا من عام 2019، قامت الصين بتشغيل ما يقرب من نصف الإنتاج العالمي للسيارات الكهربائية و98٪ من الحافلات الكهربائية فى جميع أنحاء البلاد(29).
لكن المثير للاندهاش هو أن التوجه نحو الطاقة المتجددة وإعلان الرئيس الصيني أن الصين سوف «تخفض تدريجياً» من استخدام الفحم اعتباراً من عام ٢٠٢٦، قد تزامن مع بناء محطات جديدة تعمل بالفحم فى أكثر من 60 موقعًا فى الصين، وهو ما يمثل تناقضا صارخا فى السياسات التي تعتمد عليها الصين لمواجهة التغير المناخي، وهو بدوره ما يدفع عددا كبيرا من الباحثين والمتخصصين فى شئون المناخ للتشكيك فى جدية نوايا الصين لخفض انبعاثاتها الحرارية(30).
ختامـــًا:
لا يمكن إنكار أن قضية التغير المناخي أصبحت من أهم القضايا التي تهتم بها الصين على الصعيدين الحكومي والشعبي، بل الدولي أيضا، وأن تغير المناخ أصبح فاعلاً هاماً على الساحة السياسية الصينية. إلا أن نجاح الصين فى خفض الانبعاثات الحرارية، ومن ثم تحسين الظروف البيئية لمواطنيها والوفاء بتعهداتها الدولية يقابله عدة تحديات يأتي على رأسها أن المركزية الشديدة التي يتسم بها النظام الصيني قد تعمل على عرقلة أو تحجيم دور الابتكار فى مجابهة التغير المناخي، علماً بأن دعم الابتكارات والتقنيات التكنولوجية التي تساهم فى التخفيف من آثار التغير المناخي، يعد أمرًا مهمًا لدعم جهود الصين وكافة دول العالم فى مواجهة تغير المناخ. ثمة تحدٍ آخر تواجهه الصين، يتمثل فى الفساد، فقد تضع الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات لوائح بيئية صارمة، إلا أن تنفيذها قد يشوبه القصور والعوار بسبب فساد بعض المسئولين التنفيذيين وتنامي النفوذ الذي تتمتع به الشركات الصينية المملوكة للدولة والذي أصبح أمراً يؤرق الحزب الشيوعي الصيني، حيث شرعت هذه الشركات فى السعي لتعظيم أرباحها دون الانصياع بشكل كامل لتوجيهات الحزب الشيوعي.
أما التحدي الثالث والأخير، فيتمثل فى كيفية تقليل الاعتماد على الفحم فى ظل أزمة الكهرباء التي تعانيها الصين حالياً، فضلا عن أن الانتقال الكامل للطاقة المتجددة فى بلد بحجم الصين يتطلب موارد مالية ضخمة، وعقودا طويلة لإتمامه. فى ظل هذه التحديات، يبدو أن الصين أمامها طريق طويل لتخفيض انبعاثاتها الحرارية، فضلا عن الوصول للحياد الكربوني، وأنه يتعين على الصين تخصيص مزيد من الموارد المالية للتحول نحو الاقتصاد الأخضر، وكذلك رفع القيود المفروضة على تناول قضايا تغير المناخ فى الصين، ما سينعكس إيجابياً على طريقة معالجة الحكومة الصينية لقضية تغير المناخ، من خلال خلق حوار مجتمعي، لكن تحقيق ذلك على الأرض يتطلب تغييرا فى إدراك ووعي القيادة الصينية، وهو أمر لا يلوح فى الأفق على المدى القصير.
المصادر:
-