تكثُر التساؤلات وتتردد.. عن دوافع الدولة ومؤسساتها في الاتجاه نحو هذه النوعية من السياسات النقدية العنيفة، وماذا لو لم تنتهج الدولة تحرير العملة بالأساس؟! وهل العائد على الأوضاع الاقتصادية حال اعتماد التعويم كسياسة إصلاحية يستحق هذه المجازفات؟ وما مدى تأثر المؤشرات الاقتصادية الجوهرية والمتمثلة فى: الاحتياطى النقدى، معدلات النمو، حجم الدين العام؟! والأهم، ما المدة المحددة واللازمة لاستبيان مؤشرات انفراجة الأوضاع؟!
اتجه البنك المركزي إلى سياسات التعويم الحر، بتحرير العملة الوطنية وتركها لآليات السوق؛ حيث قوى العرض والطلب دون أدنى تدخل من الدولة، فى استهداف لتعويم مرن، غير موجه من قبل البنوك المركزية، أو حتى عمليات الدفع والتقييد لحركات العملة الوطنية أوالأجنبية.
وربما استنفدت المجموعة الاقتصادية للدولة جميع الأساليب والآليات، قبيل التحرك نحو هذا الاتجاه، ولاسيما أن ثمة مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والمؤثرة أصبحت بحاجة إلى أطروحات غير تقليدية من أجل الدفع بها، وإعادتها إلى نقاط الاتزان، أضف إلى ذلك مجموعة من العوامل قد تدفع بالدولة إلى انتهاج سياسة نقدية بخلاف أخرى، وتأتى فى مقدمة هذه العوامل الأوضاع السياسية للدولة إلى جانب حجم اقتصادها وقوته، بالإضافة إلى المرونة والقدرة على مواجهة الأزمات سواء كان داخيا أم خارجيا.
وللعلم فإن نظريات التعويم ليست بالحديثة، فمنذ انهيار اتفاقية بريتون وودزالعالمية 1971، وإعلان الولايات المتحدة عدم قدرتها على تغطية عملتها بما يوازيها من أغطية الذهب، وانهيار الدولار، وقد بدأت معظم النظم الاقتصادية في انتهاج سياسات التعويم 1973، بدءا من الاقتصادات الكبرى كالولايات المتحدة وحتى النامية والمتراجعة، بعدما عجزت عن تثبيت سعر صرف عملتها مقابل الدولار.
بشكل عام يأتى تحرير سعر صرف الجنيه، بغرض صد الموجات التضخمية، وتحديد القيم العادلة للعملات الوطنية، مع السيطرة على الأسواق الموازية وإمكانية سحب العملات الأجنبية للسوق الرسمى، ومن ثم دعم الاحتياطى النقدى، أيضا استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وطمأنة المستثمر الأجنبى، والأهم خلق حالة من الاستقرار للسوق، وهو ما سيتحقق لكن عقب مجموعة من التذبذبات صعودا وهبوطا، كان من المتوقع حدوثها فى الفروق بين العملتين الوطنية والأجنبية، حتى تصل بنا السياسات الجديدة إلى مرحلة سيولة العملة الأجنبية، والقيمة العادلة للعملة الوطنية، والمستهدفة بالأساس من كل التحركات الاقتصادية للدولة.
يُعرف التعويم الذي نعاصره بالتعويم الحر، أي تحرير العملة وعدم تثبيتها مقابل العملة الأجنبية، ولعل سياسات هذا النوع من التعويم في حد ذاتها، أو اتخاذ القرار بالتعويم، لن تحمل أي انعكاسات إيجابية!! فإذا أردنا الانعكاسات الإيجابية الحقيقية، فلا بد من أن تأتى هذه القرارات في إطار إستراتيجية اقتصادية متكاملة بين سياسات مالية ونقدية وأيضا مصرفية، وإلا فستنحصر الآثار، فيما يستشعره المواطن من موجات تضخمية متدافعة فقط.
انتهاج السياسات الاقتصادية لا يستقيم أن يتم فى أطر منعزلة، بمعنى أن ننتهج سياسات مالية بعيدا عن سياسات نقدية أو سياسات مصرفية بعينها، فلا بد من أن تنتهج السياسات معا وفى التوقيت نفسه، من أجل تحقيق الإستراتيجية المستهدفة وبلورتها، ولعل قرارات الرئيس "عبد الفتاح السيسي" بمنح الرخصة الذهبية للمستثمرين بغرض تسريع وتسهيل إجراءات أنشطتهم الاستثمارية، مع توفير الطاقة بأسعار مقبولة، أيضا قبول الشراكة بنسب اقتربت من الـ 50% مع هؤلاء المستثمرين ورجال الأعمال في مشروعات صناعية، متعلقة بمستلزمات الإنتاج، ومنتجات تحتاج إليها الأسواق المصرية، جميعها خطوات من شأنها تحفيز الصادرات وتشجيع المنتج الوطني، والأهم تعزيز التنافسية، إضافة إلى تحركات البنوك بإصدار الشهادات الادخارية بعوائدها السنوية، عقب إجراءات المركزي وقرارات التعويم، جميعها تمت صياغتها في إطار الإستراتيجية المتكاملة.
ومن ثم يمكن القول إن التعويم يعد إجراءً، ضمن سلسلة من الإجراءات تهدف بالأساس إلى ضبط السوق وإعادته إلى حالة الاتزان، بعد موجات من التذبذب وعدم الاستقرار، وإن استبيان المؤشرات والانفراجات، سيتوالى تباعا مع انتهاج استراتيجية اقتصادية متكاملة ومتزامنة.