فى إطار الزخم الدولى المتزايد والتهافت الواضح على إفريقيا من جانب مختلف القوى والفعاليات الدولية وحتى الإقليمية، خاصة من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية كافة، والصين وروسيا والهند وغيرها، جاءت الجولات المتعاقبة الأخيرة من جانب وزيرى خارجية كل من: روسيا والولايات المتحدة إلى القارة الأم من أجل حشد الأنصار وتبنى استراتيجيات جديدة وتغيير البصمة أو "الباسورد الجديد" للتحالف مع إفريقيا، لاسيما فى ضوء ما يشهده الوضع الدولى من ارتباك بخصوص الصراع العسكرى المحتدم بين روسيا وأوكرانيا وتداعياته المحتملة، وتباين مواقف الأطراف المختلفة منه، وكذا التوتر الأخير فيما بين الولايات المتحدة والصين بشأن زيارة "نانسى بلوسى" لتايوان. وفى ضوء هذه التوترات والتشابكات، تبرز إفريقيا، خاصة أنها رغم أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية المتردية لكنها تمتلك كيانا دبلوماسيا متميزا على الساحة الدولية تحت راية الاتحاد الإفريقي، الذي يضم فى عضويته 54 دولة إفريقية أو نحو ثلث أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فى الوقت نفسه، وكما اتضح من الزيارتين الأخيرتين لوزيرى خارجية أمريكا وروسيا أنه لا يوجد اتفاق كامل أو اختلاف تام بين القوتين العظميين ودول القارة فى تأييد هذا أو ذاك، لكن الوضع برمته تحكمه التوازنات والمصالح ومدى الاستفادة المنظورة لدى كل من الجانبين. وفى الوقت نفسه، يرتبط السياق الاستراتيجي الأوسع بالمنافسة الدولية بين القوى الكبرى، والتي تجلت أبرز ملامحها في إطار الحرب الروسية-الأوكرانية؛ فبرزت إفريقيا كفاعل ومفعول به في آن واحد؛ إذ حضرت فاعلًا، حيث كان حضوره وسلوكه التصويتي في المنظمات، التي ترسخ قواعد النظام الدولي، ذا أهمية محورية بالنسبة للغرب الذي أراد تقويض الحضور الروسي وصورته على الساحة الدولية. لكن في محاولة للرفض الإفريقي للانحياز، امتنعت 35 دولة عن التصويت. كذلك رغم أهمية القارة الاستراتيجية، إلا أن هشاشة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وضعف التنمية واستمرار اعتمادها على الشركاء الاستراتيجيين في تمويل التنمية؛ جعلها عرضة لهزات الاقتصاد العالمي، وحاجتها المستمرة للمساعدة والدعم.
جدول أعمال زيارة الوزير الأمريكي، وأهميتها:
بنهاية ١١ أغسطس 2022، تكون جولة وزير الخارجية الأمريكى "أنتوني بلينكن" قد انتهت للتو في إفريقيا، حيث سعى وزير الخارجية لاستمالة الدول الإفريقية إلى جانب بلاده، مؤكدا أن أمريكا هي الشريك الأفضل لهذه الدول. لذا، قد يكون من المفيد دراسة نتائجها وآثارها ومستقبل العلاقات الأمريكية-الإفريقية ومدي تأثرها بالزيارة السابقة لوزير الخارجية الروسي "لافروف"، وإلى أى حد يعنى هذا تغيرا فى الموقف الإفريقي من الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا؟ خاصة أن هناك أيضا بعض الآثار التي انعكست من جراء تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على القارة الإفريقية، فالآثار تحكم المواقف والتحركات إلى حد كبير. كذلك يحكم الأمور مدى الثقة الإفريقية في سياسات كلا القطبين التي قد تتأثر أيضا بمواقف الأطراف الفاعلة الأخرى.
كان وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" قد واصل مسيرته إلى القارة الإفريقية في جولة التى ضمت كلًا من جنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا في الفترة من 7 إلى 12 أغسطس. وهذه الجولة تعد الثانية لأنتوني بلينكن إلى إفريقيا بعد الأولى التي أجراها في نوفمبر 2021، وشملت كلًا من: كينيا، نيجيريا، السنغال، وذلك في سياق التحديات التي شهدها الدور الأمريكي في منطقة القرن الإفريقي لتثبيت الأمن والاستقرار، وكذلك التراجع الديمقراطي الذي شهدته منطقة غرب إفريقيا. ولقد تزامنت تلك الزيارة الأخيرة مع جملة من الجولات المختلفة بما في ذلك جولة "سامانثا باور" مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في يوليو الماضى؛ حيث زارت كينيا والصومال، تزامنًا مع الأزمات الإنسانية والأمنية في المنطقة، وتعهدت بتقديم 470 مليون دولار إلى الصومال؛ للمساعدة في مواجهة الأزمات الناجمة عن الجفاف؛ فضلًا عن إعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة بمكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار في القرن الإفريقي. وتوجهت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة "ليندا توماس جرينفيلد" إلى أوغندا وغانا والرأس الأخضر، الماضي (4 إلى 8 أغسطس)؛ حيث تواجه تلك الدول أزمات تتعلق بحالة الأمن الغذائي؛ بسبب الارتفاع الكبير في تكلفة الغذاء والطاقة؛ وضرورة النظر في آليات دعم الإنتاج؛ لكون غانا صاحبة تجربة رائدة في التعامل مع الأمن الغذائي.
كما جاءت هذه الجولة في سياق تصاعد التنافس الروسي-الغربي من جهة والصيني-الغربي من جهة أخرى، بما ألقى بصداه على القارة الإفريقية، حيث باتت محط أنظار القوى الدولية التي تسعى إلى استقطابها في معارك التنافس الدولي كحليف يمكن أن يسهم انحيازه لطرف في ترجيح كفته، أو كساحة يسهم التحرك في إطارها فى تحجيم نفوذ الخصم الاستراتيجي؛ بدلًا من اعتبارها قوة لتشكيل المستقبل العالمي.
عودة إلى جدول أعمال الوزير الأمريكي، فقد التقى بلينكن في 8 أغسطس 2022 بوزيرة خارجية جنوب إفريقيا "ناليدي باندور" لإصدار عدّة إعلانات تتعلّق بالاستراتجية الإفريقية الجديدة للحكومة الأمريكية. حيث تناولت المحادثات التطورات الأخيرة والحالية في الوضع الجيوسياسي العالمي، وكذلك مدى تطوير نظام دولي منفتح ومستقر للحد من آثار التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي والجوائح العالمية.
وفى بريتوريا، ترأس الوزير الوفد الأمريكي فى إطار الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا؛ لتعزيز وتعميق التزام الولايات المتحدة بالتعاون الثنائي بشأن القضايا العالمية، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من الأولويات المشتركة بما في ذلك الصحة والبنية التحتية والتجارة والاستثمار والمناخ. هذا فضلًا عن الانضمام في جوهانسبرج للاحتفال باليوم الوطني للمرأة، وفقًا لجدول الزيارة. وصرح بلينكن من بريتوريا عاصمة جنوب إفريقيا بأن بلاده تريد "شراكة حقيقية" مع القارة الإفريقية، وأنها لا ترغب في "تجاوز" نفوذ القوى العالمية الأخرى فيها، فيما كشفت واشنطن النقاب عن وثيقة سياسية تنوي من خلالها تطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء. وقد التقى الوزير أيضا برئيس الجمهورية "سيريل رامافوزا"، حيث ناقش الجانبان سبل تعزيز العلاقات الدائمة بين البلدين، وتعزيز الأولويات العالمية المشتركة من خلال الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، إلى جانب بحث دور جنوب إفريقيا للتقدم العالمي بشأن مكافحة فيروس كوفيد-19، والمناخ، وغيرها.
وفي الكونغو الديمقراطية (9 إلى10 أغسطس)، ناقش بلينكن مجموعة واسعة من القضايا محل الاهتمام المشترك؛ حيث التقى مع كبار المسئولين الحكوميين وأعضاء المجتمع المدني؛ لمناقشة ضمان انتخابات حرة ونزيهة في عام 2023، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، وحماية الحقوق والحريات. هذا فضلًا عن مكافحة الفساد ودعم التجارة والاستثمار ومعالجة أزمة المناخ، وبناء المرونة الزراعية، ودعم الجهود الإقليمية الإفريقية لتعزيز السلام في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ومنطقة البحيرات العظمى. وبشكل أكثر تفصيلا بحث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال زيارته لكينشاسا، مع رئيس وزراء الكونغو الديمقراطية "جان ميشال سما لوكوندي"، التعاون الثنائي بين البلدين.وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية، على موقعها الرسمي، أن بلينكن ولوكوندي رحبا خلال اجتماعهما بمواصلة المناقشات الثنائية والتي بدأت فى اليوم السابق. وقال بلينكن "أعلم أن لدينا جدول أعمال مهم للغاية حول مواضيع مختلفة تضم الأمن الغذائي والمناخ، بالإضافة للعمل على تحقيق السلام والأمن في شرق الكونغو". وأكد وزير الخارجية الأمريكي أن جميع القضايا التي ستتم مناقشتها تعكس عمق العلاقات بين البلدين. كما أكد على أهمية العمل من أجل الاستقرار بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، داعيا رئيسي رواندا والكونغو لاحترام سيادة وسلام أراضي الغير.
وفي المحطة الأخيرة في رواندا (10 إلى 12 أغسطس)، التقى المسئولين الحكوميين وأعضاء المجتمع المدني، لمناقشة الأولويات المشتركة بما في ذلك حفظ السلام والدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومة الرواندية للحد من العنف المستمر في شرق الكونغو، فضلًا عن مناقشة المخاوف المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، بما في ذلك القمع العابر للحدود والحدّ من مساحة المعارضة السياسية بما في ذلك قضية اعتقال المعارض "بول روسسابجينا"، المقيم في الولايات المتحدة، والذي لعب دورًا مهمًا خلال الإبادة الجماعية 1994. وقال بلينكن، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الرواندي "فنسنت بيروتا"، أوردته قناة (الحرة) الأمريكية، إن "الولايات المتحدة ورواندا يعملان على اتفاقية لتحسين النظم الصحية في روندا وسلاسل الأغذية والاستثمار الفرص الاقتصادية لكي يتمكن الشباب الروانديون من المشاركة في اقتصادات المستقبل، مؤكدًا عزم بلاده تنمية الشراكة مع رواندا بشكل أكبر. وثمَّن وزير الخارجية الأمريكية شجاعة الشعب الرواندي على مدى العقود الماضية، معبرا عن أمل بلاده أن يتمتع الجميع بحرية التعبير من دون أي قمع.
وثمَّن أيضا الوزير الرواندى شراكة بلاده مع الولايات المتحدة في عدة قطاعات، مثل الدفاع والأمن والتجارة والاستثمار وحفظ السلام، كما ثمن الدعم الأمريكي في مكافحة كورونا في رواندا. كما التقى وزير الخارجية الأمريكي بالرئيس الرواندي "بول كيجامي". وقال بلينكن أن الولايات المتحدة قدمت أكثر من نصف مليون لقاح ضد فيروس كورونا و70% من الشعب الرواندي حصل على اللقاح. كما ساعدت في توفير الكهرباء لأكثر من 2.8 مليون شخص في رواندا خلال السنوات الماضية، مؤكدًا عمق العلاقات الأمريكية الرواندية على مختلف المستويات. وأشار بلينكن إلى أنه ناقش مع الرئيس الرواندي مخاوف بلاده من تقرير المجموعة المتمردة "إم 23" في جنوب الكونغو.. والجماعة المتمردة "إف دي إل ار" في شرق الكونغو.
هل تغيرت الاستراتيجية الأمريكية في إفريقيا:
يمكن القول إن زيارة "بلينكن" لإفريقيا مثلت جولة لإطلاق إستراتيجية إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة أن الدبلوماسية الأمريكية في إفريقيا كانت تتركّز قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، على المنافسة مع الصين التي وظفت استثمارات مهمة في البنى التحتية في القارة الإفريقية بدون أن ترفق استثماراتها بمطالب على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان كما تفعل الولايات المتحدة. في هذا السياق، مطلع العام الجاري، بدأ وزير الخارجية الصيني زياراته الخارجية بإفريقيا، في تقليد للخارجية الصينية منذ 32 عامًا؛ بوضع إفريقيا في مقدمة الوجهات التي يزورها أكبر دبلوماسي في البلاد كجزء من أجندته السنوية، وتوجه حينها إلى كلٍ من إريتريا وكينيا وجزر القُمر.
يذكر أنه وفقًا للاستراتيجية السابقة التي أصدرها مستشار الأمن القومي السابق "جون بولتون"، أعلن الرئيس الأمريكي السابق"ترامب"، تخفيض الانخراط العسكري الأمريكي في القارة بما في ذلك "الأفريكوم" و"الانخراط الأمريكي في الصومال"، للتفرغ لمواجهة الخصوم الاستراتيجيين، وانطلقت تلك الاستراتيجية من رؤية واقعية مفادها تعزيز مبدأ المعاملة بالمثل وتعزيز قدرات الشركاء الاقتصاديين الأفارقة في الاعتماد على أنفسهم، كذلك إعادة صياغة الجهود الأمنية والمساعدات التنموية بما يسمح لقيادة الأفارقة لجهود الأمن والتنمية بأنفسهم.
أما الحديث الآن فهو عن استعادة المكانة الاستراتيجية، وتنطلق تلك الواقعية من الإقرار بأهمية إفريقيا كشريك يمكن إقامة شراكات على قدم المساواة معه وليس فقط تقديم المنح والمساعدات، انطلاقًا من الاعتراف بالأهمية التجارية والاقتصادية لإفريقيا، وليس فقط لمنافسة الخصوم. وفي إطار التقديرات الواقعية لأهمية إعادة الانخراط في إفريقيا، أعاد الرئيس الحالي "بايدن" التأكيد على الالتزام الأمريكي حيال الشركاء الأفارقة، واتجه نحو تبني جملة من السياسات المنافية لسياسات سلفه بما في ذلك المُضي في إعادة النظر في الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها سلفه. وبعد تراجع الاهتمام في عهد "ترامب"، رفع الرئيس الحالي "بايدن" شعار "أمريكا عادت" خلال حملته الانتخابية. لكن رغم ذلك، لا تزال المقاربات المتبعة حيال قضايا الديمقراطية والسلام، في ظلّ التحديات الأمنية والسياسية التي تعاني من القارة؛ تعكس تشبث السياسية الأمريكية بمؤشرات الديمقراطية والحكم الرشيد، كشرط مسبق للتعاون، بما يفقدها فرصًا يقتنصها خصومها الاستراتيجيين. في ضوء ذلك، تم تعيين مبعوث أمريكيًا لمنطقة القرن الإفريقي العام الماضي، لمباشرة المصالح الأمريكية في تلك المنطقة الحيوية، وكذا تمت إعادة الانخراط العسكري مع الصومال، وتحاول الإدارة الأمريكية تكثيف النشاط الدبلوماسي حاليا مع القارة.
زيارة لافروف لإفريقيا:
تأتي زيارة بلينكن بعد وقت قصير من زيارة نظيره الروسي سيرغي لافروف إلى إفريقيا في نهاية يوليو الماضي، والتي شملت الكونغو وأوغندا ومصر وإثيوبيا، حيث يؤكد الخبراء أن الروس موجودون بالبعد الاقتصادي من خلال القوة الناعمة، كما أن علاقات روسيا مع دول شمال إفريقيا، كالجزائر، تمثل مرتكزا دائما اقتصاديا وتسليحيا، بالإضافة إلى مصر التي نوعت منظومة التسليح، موضحا أن موسكو تحاول تطوير هذا الحضور بأكثر من اتجاه في القارة. ولقد بدأ وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في 24 يوليو 2022، جولة إفريقية، هي الأولى للمنطقة منذ بداية الأزمة الأوكرانية نهاية فبراير 2022، بدأها بمصر، مروراً بالكونغو وأوغندا، واختتمها بزيارة إثيوبيا. وقد تزامنت هذه الزيارات مع الجولة الإفريقية الأولي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضا في فترة ولايته الثانية. وتمثل هذه الزيارة أهمية ذات أبعاد اقتصادية، ومحاولة اكتساب نفوذ جديد فى القارة، فضلا عن محاولة تعزيز الشراكة وتوسيع التعاون مع دول القارة.
ولقد عكست جولة لافروف للقارة وجود جملة من الأهداف التي تسعى موسكو لتحقيقها، أهمها تأكيد النفوذ الإقليمي مع كل من العرب والأفارقة، ومحاولة كسر العزلة الغربية ومواجهة اتهامات أزمة الغذاء المثارة من جراء الحرب والعمل على استبدال النفوذ الأمريكي والغربي عامة، وتحدى النظام "أحادى القطبية". ومن أبرز الرسائل التي عمد وزير الخارجية الروسي إلى بثها خلال جولته، سواء في المقال الذي نشره لافروف في العديد من الصحف الإفريقية، أو خلال لقاءاته فى أثناء الجولة، هو ما يتعلق بالوضع الجيوسياسي الراهن في النظام الدولي، وضرورة تغييره، حيث كرر الوزير الروسي انتقاداته للمساعي الغربية المكثفة للمحافظة على استمرارية النظام الدولي الأحادي القطبية، ومنع تشكيل نظام جديد قائم على التعددية القطبية.
وتتبع روسيا إستراتيجية واضحة في إفريقيا، تسعى من خلالها إلى تقديم نفسها كبديل أكثر موثوقية عن الغرب، وتستغل في ذلك حالة السخط لدى بعض الدول الإفريقية من الوجود الغربي مقابل تعاطف هذه الدول مع الموقف الروسي. وفي هذا الإطار، عمل لافروف خلال جولته الإفريقية على محاولة تخفيف حصة الدولار في التجارة البينية مع الدول الإفريقية، والعمل على استبداله العملات المحلية بالأخير.
مستقبل التنافس الدولى على إفريقيا:
من جانبها، تسعى واشنطن لاستضافة قمة الزعماء الأفارقة في ديسمبر 2022، والتي ستكون الأولى منذ القمة التي عقدها الرئيس الأسبق باراك أوباما في 2014، كما أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أنها ستقدم نحو 1.3 مليار دولار كمساعدات لدول القرن الإفريقي المتضررة من الجفاف، على غرار إثيوبيا والصومال وكينيا. أيضا، هناك تحركات أوروبية منفصلة: حيث تسعى الدول الأوروبية للتحرك بشكل فردي للبحث عن مصالحها في إفريقيا لإيجاد بدائل عن الغاز والنفط الروسي بعد الحرب الأوكرانية، فضلاً عن التمسك بدورها التقليدي في القارة. في هذا السياق، تأتي الجولة الإفريقية التي يقوم بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التي تتضمن بنين والكاميرون وغينيا بيساو، والتى جاءت بالتوازي مع جولة وزير الخارجية الروسي، حيث يسعى ماكرون لاستعادة النفوذ الفرنسي المتراجع في إفريقيا. فى السياق ذاته، بدأت إيطاليا تحركات مكثفة خلال الأشهر الأخيرة لإيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا، لتأمين إمداداتها من الطاقة، وهو ما ينطبق على الموقف الألماني أيضاً ولكن بوتيرة أقل، وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي تعمل على استعادة حضورها داخل القارة الإفريقية.
ويبدو أنه على الرغم من الجهود الأمريكية والأوروبية الحثيثة لعزل روسيا دولياً، فإن موسكو لا تزال تحظى بقبول لدى الكثير من الدول الإفريقية، وهو ما يعزى إلى العديد من المحددات، سواء العلاقات الإستراتيجية والاقتصادية التي تربط بعض هذه الدول بموسكو، أو بسبب القناعة بانتقائية التدخل الغربي في الأزمات الدولية، ومن ثم عدم الرغبة في الانخراط في استقطابات دولية لا جدوى منها. ولقد عبرت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا عما يجيش بصدور الأفارقة عندما انتقدت جوهانسبرج ازدواجية التعامل الغربى والأمريكى، خاصة مع فلسطين وأوكرانيا، مؤكدة "أنه يجب أن نهتم القدر بنفسه بما يحدث لشعب فلسطين، كما هو الحال مع ما يحدث لشعب أوكرانيا".
على أن الولايات المتحدة من جانبها قد أطلقت وثيقة توجيهية أمريكية جديدة حيال إفريقيا وتؤكد الوثيقة التوجيهية الجديدة التي تم الكشف عنها أخيرا أن "للولايات المتحدة مصلحة كبيرة في ضمان إبقاء المنطقة مفتوحة ومتاحة للجميع، وأن الحكومات والشعوب يمكنها بنفسها اتخاذ خياراتها السياسية.وأضافت الوثيقة "إن مجتمعات مفتوحة تميل عمومًا إلى العمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة وجذب المزيد من التبادلات التجارية والاستثمارات الأمريكية ومواجهة الأنشطة الضارة لجمهورية الصين الشعبية وروسيا والجهات الأجنبية الأخرى. وتعرض الوثيقة التي تحمل عنوان "استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء" بالتفصيل أربعة أهداف تمتد لخمس سنوات: دعم المجتمعات المفتوحة، وتقديم مكاسب ديمقراطية وأمنية، والعمل على الانتعاش بعد الجائحة، وإتاحة الفرص الاقتصادية، ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة. وتشير الوثيقة الأمريكية إلى ادعاءات البيت الأبيض ضد بكين وموسكو في إفريقيا، والتي تعتبر أن بكين تتصرف فيها كأنها "ساحة لتحدي النظام الدولي القائم على قواعد ولتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الخالصة ولإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الإفريقية". وتقترح الوثيقة بذل جهود متزايدة "لوقف الموجة الأخيرة من الاستبداد والانقلابات العسكرية من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء في المنطقة للرد على التراجع الديمقراطي، وعلى انتهاكات حقوق الإنسان". وأضافت أن الولايات المتحدة ستستخدم "قدراتها الأحادية"، أي العسكرية، ضد أهداف إرهابية "فقط عندما يكون ذلك قانونيًا، وحيث يكون التهديد أكثر حدة".
رؤية ختامية:
ولعل السؤال الذى يطرح نفسه هو هل أفسدت زيارة بلنكين ما سبق وقام به لافروف مؤخرا؟ وما الدلائل على ذلك؟ هل تم توقيع معاهدات أو اتفاقيات ملزمة تؤكد على انحياز واضح للموقف الأمريكى الداعم لأوكرانيا فى مواجهة روسيا؟ والإجابة أنه قد صدرت تصريحات تعبر عن تجاوب إفريقى مع الأيادى الممتدة للتعاون أيا كان صاحبها. لكن لم يلاحظ المراقبون انحيازا واضحا لأى طرف فى مواجهة الآخر، بل على العكس صدرت، على سبيل المثال، انتقادات من وزيرة خارجية جنوب إفريقيا تدين السياسة الأمريكية في مواجهة القضية الفلسطينية مقارنة بمواقفها من أوكرانيا.
ولعل الأمر برمته يعود إلى خصائص السياستين الخارجيتين: الروسية والأمريكية، فالأولى بعيدة المدى وقد تكون سياسة منظمة ومخططة، فيما الثانية قد تكون قصيرة المدى وتنظر إلى المصلحة الآنية فى الأجل القريب.. وفى النهاية يحكم الأمر السياسة الإفريقية التي يتبناها الاتحاد الإفريقى مثلا فى مواجهة الصراع الروسي-الأوكراني وكذلك موقف أقطاب القارة وتجمعاتهم الإقليمية من ذات الصراع، ناهيك عن الارتباك الموجود أصلا فى الموقف الدولى الراهن وما مدى الآثار السلبية الناتجة عن هذا الصراع على دول القارة الأشد فقرا.
ولعل التفاؤل الأمريكي السائد حاليا يعود إلى الاعتقاد بأن إدارة بايدن تدرك أهمية أن تكون شريكا قوياً وموثوقاً به لدى الأفارقة في ظل التنافس الدولي المحتدم على النفوذ في القارة الإفريقية. ومن ثم، فقد يكون هناك قدر أكبر من الاهتمام بتعزيز العلاقات الدبلوماسية وإعادة تقديم المساعدات الإنمائية للدول الإفريقية خلال الفترة المقبلة. كما تجدر الإشارة إلى أن التطورات التي تشهدها الساحة العالمية والإفريقية تفرض قضايا جديدة تنال اهتماما واسعا على رأس أولويات أجندة بايدن تجاه إفريقيا مثل ملفات التغير المناخي، ومكافحة جائحة كوفيد-19، وريادة الأعمال في إفريقيا، بالإضافة إلى ثوابت السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا التي في مقدمتها مكافحة الإرهاب، والتعامل مع المناطق التي تعاني مخاطر الصراعات، والتحولات الديمقراطية.
في ظل هذه المؤشرات الإيجابية، يُتوقع أن تشمل التغييرات المحتملة على مستوى سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة التركيز على زيادة التعاون الاقتصادي والتجاري مع القارة الإفريقية، بما في ذلك انخراط واشنطن في تعزيز التنمية الاقتصادية في دول القارة؛ وهو ما يمكن أن يتمثل في دعم أمريكي لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وتمديد العمل بقانون النمو والفرص في إفريقيا لما بعد عام 2025. وقد تسارع واشنطن أيضا إلى الانخراط في بعض القضايا العاجلة في القارة، مثل التوترات الإثنية في إثيوبيا، وتطورات الأوضاع في إقليم تيجراي وتأثيراته فى أمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي، ودعم التحول الديمقراطي والاقتصادي في السودان، ومواجهة التهديدات الإرهابية والأمنية في الصومال بعد قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من هذا البلد، بالإضافة إلى الأزمة الليبية وتطوراتها المتلاحقة، والموقف من تحديث الإستراتيجية الأمريكية بشأن التمركز في منطقة الساحل والصحراء.
واستمراراً لنهج يقوم على تبني كل رئيس أمريكي جديدة لمبادرة تجاه إفريقيا، فإن المتوقع أن يطرح بايدن مبادرة خاصة به، ويمكن أن تركز مبادرة بايدن على مواجهة الأوبئة في القارة، لاسيما في ظل تفشي جائحة كوفيد-19. وتشير بعض التوقعات إلى أن واشنطن ستتجه على الأرجح تعزيز علاقتها مع بعض الدول الإفريقية التي تمثل مراكز اقتصادية محورية في القارة مثل نيجيريا وكينيا وأنجولا وجنوب إفريقيا وإثيوبيا والسنغال لتصبح أسواق ذات أولوية لإدارة بايدن الجديدة. ويتطلب هذا التوجه تحسين العلاقات السياسية والدبلوماسية معها من أجل تعظيم التعاون التجاري. وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية إيلاء واشنطن اهتماما كبيرا بجمهورية الكونغو الديمقراطية كونها تمتلك اقتصادا غنيا بالموارد وفرص محتملة لإعادة دعم سلاسل التوريد المعدنية، وتحويل السيطرة على الإنتاج بعيدا عن شرق وجنوب شرق آسيا. كما ستستكمل واشنطن المفاوضات مع كينيا لتصبح أول دولة إفريقية لديها اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
لن تتراجع واشنطن أيضا عن لعب دور رئيسي في تأمين المناطق الجيواستراتيجية الرئيسية في القارة الإفريقية، فهناك أكثر من 6 آلاف جندي أمريكي في حوالي 12 موقعا عسكريا في أنحاء القارة، مما قد يدفع نحو المزيد من الانخراط الأمريكي في دعم الأمن الإفريقي، خاصة أن تلك التهديدات ما تزال قائمة، حتى لو تحول تركيز بايدن على التهديدات الأمنية الأخرى بما في ذلك الأوبئة والتهديدات السيبرانية وتغير المناخ، فيما يتوقع أن تركز واشنطن بشكل أكبر على استراتيجية مكافحة الإرهاب التي تعتمد على العمليات الخاصة وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الدول الإفريقية والأوروبية، والغارات الجوية بدلًا من نشر قوات برية كما الحال في الصومال. وستعزز واشنطن، على الأرجح، علاقاتها وشراكاتها مع بعض الدول الإفريقية المتضررة بشكل كبير من الإرهاب مثل نيجيريا التي تعاني إرهاب بوكو حرام، ودولة مالي التي تحتل أهمية خاصة في منطقة الساحل والصحراء. وربما تستعيد واشنطن الاهتمام بالشراكة القوية مع فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي لمحاربة الإرهاب على غرار اهتمام إدارة أوباما بدعم فرنسا في منطقة الساحل كأولوية مهمة، وذلك على عكس ما قامت به إدارة ترامب التي قلصت من حجم هذه الشراكة حينما قللت حجم التمويل الذي تقدمه وهذا الأمر قد يمثل رسالة طمأنة من جانب بايدن إلى حلفاء واشنطن في إفريقيا بأنه لن يقطع الدعم الأمني الأمريكي من جانب واحد عن منطقة الساحل والصحراء.
وثمة مؤشرات أولية إيجابية على إمكانية إحداث نقلة نوعية في مستقبل العلاقات الأمريكية-الإفريقية خلال الفترة المقبلة، والتعاون في العديد من الملفات والقضايا المتشابكة ذات الاهتمام المشترك، بهدف ضمان وتعزيز المصالح الإستراتيجية للطرفين، إلا أنه يجب عدم إغفال تغير طبيعة البيئة الدولية خلال الفترة الراهنة مقارنة بما كانت عليه في عهد إدارة الرئيس أوباما، خاصة في ما يتعلق بتنامي النفوذ الدولي في قارة إفريقيا، لاسيما النفوذ الصيني، والتأثيرات الاقتصادية العالمية بسبب انتشار جائحة كوفيد-19، ما قد يستدعي عدم التعجل بشأن إقدام إدارة بايدن على تعزيز توجهاتها الإفريقية.