قامت رئيس مجلس النواب الأمريكي "نانسي بيلوسي" بزيارة جزيرة تايوان يوم 2 أغسطس 2022 ضمن جولتها الآسيوية رغم التحذيرات الصينية من تداعيات تلك الزيارة إلى حد التهديد باستخدام القوة المسلحة للرد عليها، حيث ترى بكين أن الزيارة تتناقض مع مبدأ "الصين الواحدة" وتقدم دعما لانفصال تايوان. في المقابل سعت الإدارة الأمريكية لإحتواء الغضب الصيني تجاه الزيارة والتأكيد على أن موقف واشنطن لم يتغير من القضية التايوانية، الأمر الذي صعد من التوتر القائم بالفعل بين واشنطن وبكين على عدد من القضايا في جنوب شرق آسيا، والمرشح للمزيد من التصعيد خلال المرحلة المقبلة، وهو ما سيؤثر فى الأمن والاستقرار بمنطقة جنوب شرق آسيا، وسيكون له تداعياته الدولية على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
*أبعاد زيارة "بيلوسي" لتايوان:
- أهمية زيارة "بيلوسي": حظيت زيارة رئيس مجلس النواب "نانسي بيلوسي" (82 عاما) لتايوان ضمن جولتها الآسيوية التي تضم (سنغافورة، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، واليابان)، بأهمية بالغة حيث إنها تعد ثاني رئيس لمجلس النواب الأمريكي يزور تايوان في تاريخها بعد زيارة "نيوت جينجريتش" (ينتمى للحزب الجمهوري) عام 1997 ولم تعترض الصين آنذاك على الزيارة، نظرا لانشغالها في ترتيبات استعادة هونج كونج من بريطانيا، كما أن "بيلوسي" تنتمي للحزب الديمقراطي، وهو حزب الإدارة الأمريكية الحالية، وتعد من حلفاء الرئيس الحالي "جون بايدن"، وهي الثالثة في تولى الرئاسة الأمريكية بعد الرئيس ونائبه وأرفع مسؤول أمريكي زار تايوان منذ ربع قرن، هذا فضلا عن أهمية الزمان والمكان، فتوقيت الزيارة يأتي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي المقررة في نوفمبر المقبل، والتي ستعقد في ظل تراجع حاد في شعبية "بايدن" ولذا ترغب "بيلوسي" في حشد أكبر عدد من حلفاء الحزب الديمقراطي للفوز بها. وبالنسبة لبكين فإن التوقيت مهم للغاية حيث إن الزيارة تتزامن مع ذكرى تأسيس الجيش الصيني بالأول من أغسطس، وتأتي قبل عقد المؤتمر العام العشرين للحزب الشيوعي الحاكم بنهاية العام الحالي، والذي سيطرح فيه الرئيس الصيني "شي جين بينغ" لتولى فترة رئاسية ثالثة، ولذا اتخذ الأخير منهج التصعيد تجاه تلك الزيارة لاستقطاب القيادات القومية الصينية، والتذكير بأهمية المكان الذييمثل الحلم الاستراتيجي الصيني باستعادة الجزيرة الانفصالية (تايوان24 مليون نسمة) التي تبعد 161 كم عن سواحل الوطن الأم وتطالب بالاستقلال منذ عام 1949 وتصنف بكين الدعم الأمريكي لتايوان على أنه تحريض ضدها واستهداف لسيادتها واستقلالها.
- مراوحة أمريكية حول تايوان: تتبع واشنطن سياستين في التعامل مع قضية تايوان، الأولى هي سياسة "الصين الواحدة"، والتي تنص على الاعتراف بالجمهورية الشعبية الصينية كممثل للشعب الصيني منذ عام 1979 فرغم الدعم السياسي والعسكري الأمريكي لتايوان لم تعترف بها واشنطن كدولة ولم تنضم تايبيه لأي منظمة دولية، والثانية "الغموض الاستراتيجي" حيث ترفض واشنطن الإفصاح عن موقفها حال شنت بكين حرب شاملة لإستعادة تايوان، وترغب واشنطن في الإبقاء علي الوضع الراهن لتايوان كورقة ضغط على الصين دون الإعلان عن استقلال الجزيرة أو إعادتها لبكين، وقد برز ذلك خلال تصريحات "بيلوسي" في تايوان بعد وصولها مطار "سونغشان" في تايبيه واستقبلها وزير الخارجية التايواني "جوزيف وو"، حيث أكدت في بيانها "إن زيارتها تكرس التزام واشنطن الثابت بدعم الديمقراطية النابضة في تايوان"، بينما أكد بيان البيت الأبيض حول الزيارة على التزام واشنطن بسياسة "الصين الواحدة" أي رفض الاعتراف بانفصال واستقلال تايوان.
- تصعيد صيني: اتسم الموقف الصيني من زيارة "بيلوسي" لتايوان بتشدد الخطاب السياسي قبل بدء الزيارة والتصعيد العسكري بالتزامن معها، حيث حذّر الرئيس الصيني "شي جينبينغ" نظيره الأمريكي خلال مهاتفته يوم 29 يوليو 2022 من "أن الذين يلعبون بالنار يحرقون أنفسهم في نهاية المطاف" ووصفت بكين الزيارة "بالاستفزازية" ويعد هذا أكثر الخطابات السياسية الصينية حدة تجاه واشنطن. كما أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية "وو تسيان" بعد وصول "بيلوسي" تايبيه أن "جيش التحرير الشعبي الصيني في حالة تأهب قصوى، وسيشن عمليات عسكرية محددة الهدف للرد على ذلك، وللدفاع بحزم عن السيادة الوطنية ووحدة الأراضي، وإحباط التدخل الخارجي ومحاولات (استقلال تايوان) الانفصالية". وبالفعل، أعلنت بكين عن تنفيذ تدريبات عسكرية "بالذخيرة الحية" قبالة سواحل جزيرة "بينغتان"بإقليم فوجيان شرق الصين وهي تبعد نحو 120 كم من السواحل التايوانية، كما عبرت 21 مقاتلة صينية منطقة تمييز الهوية لأغراض الدفاع الجوي لتايوان (أديز) وهي مختلفة عن المجال الجوي الإقليمي لتايوان وتشمل منطقة أكبر منها. في المقابل، أعلن الأسطول الأمريكي السابع قيام حاملة الطائرات (يو إس إس رونالد ريجان) بالتوجه لبحر الفلبين جنوب تايوان، ويرجع رد الفعل الصيني الحاد من زيارة "بيلوسي" لتايوان لرغبة "بينغ" في جذب تأييد الرأي العام الصيني الداخلي له في ظل تراجع معدل النمو الاقتصادي الصيني لأول مرة منذ ثلاث عقود، ولتعزيز مكانته السياسية قبل عقدالمؤتمر الحزبي العشرين للحزب الشيوعي الصيني الحاكم الذي سيرشح "بينغ" فيه لتولى فترة رئاسية ثالثة.
-دعم دولي للموقف الصيني: رفضت الأمم المتحدة زيارة "بيلوسي" لتايوان، حيث أعلنت أن موقفها يتمثل في الاعتراف بحكومة جمهورية الصين الشعبية ببكين كممثل شرعي وحيد للصين، وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (2758 ) بشأن الصين لعام 1971. وينص القرار المذكور على أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تعترف بالصين الشعبية كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، كما أن الموقف الدولي العام يدعم الموقف الصيني حيث إن هناك 181 تعترف بجمهورية الصين الشعبية وتقيم معها علاقات دبلوماسية مقابل 40 دولة بالعالم تعترف بدولة تايوان.
*الخلاف الأمريكي الصيني حول تايوان:
تمر العلاقات الأمريكية الصينية بمرحلة تصعيد وتوتر منذ تولى الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترمب" منصبه في 2017 وبدء حرب اقتصادية ضد بكين، فضلا عن تفاقم التنافس بين واشنطن وبكين في منطقة الاندوباسيفيك وبحر الصين الجنوبي، والخلافات في قضايا السياسة الخارجية لكل منهم، والمخاوف الأمريكية من الصعود الصيني كقطب دولي، وكذلك تكثيف الدعم الأمريكي لتايوان، وقد استمر هذا التوتر وتصاعد خلال رئاسة الرئيس الأمريكي الحالي "جون بايدن"، ويمكن تلخيص أبرز عوامل الخلاف بين واشنطن وبكين حول تايوان تحديدا فيما يلي:
- تكثيف الدعم الأمريكي لتايوان: قدم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي "بوب مينينديز" والجمهوري "ليندسي غراهام" مؤخرا مشروع قانون "لتعزيز الدعم لتايوان لعام 2022" ينص على تصنيف تايوان "حليفاً رئيساً من خارج الناتو" وفرض عقوبات على بكين حال شنت حرب لاستعادة تايوان، وتخصيص 4.5 مليار دولار كمساعدات عسكرية لتايبيه على مدى السنوات الأربع المقبلة، ولم يتم بحث القانون حتى اليوم، وحال الموافقة عليه وتمريره فإنه سيمثل مرحلة جديدة في العلاقات بين تايبيه وواشنطن كحليف رئيس لها.كما قدمت واشنطن دعما مستمرا لتايبيه وأبرمت صفقات تسليح متطورة معها تقدر بقيمة 95 مليون دولار العام الماضي، ومنذ عام 2016 الذي شهد تغيرا في القيادة السياسية بتايوان، حيث تولت الرئيسة التايوانية الحالية "تساي إينغوين" منصبها وفاز حزبها التقدمي الديمقراطي بانتخابات البرلمان، وهو يتخذ مواقف متشددة تجاه الصين، وقامت "وين" بزيارة واشنطن وجددت عزمها الإعلان عن استقلال تايوان، وأكدت أن "تايوان مستقلة بحكم الأمر الواقع"، ورفضت تلبية مطلب الصين الأساسي بالاعتراف بتايوان كجزء من الأمة الصينية، مما دفع بكين لرفض إجراء أي اتصالات مع تايبيه.
- تطبيق سياسة "التحول" الصينية: تتبع الصين منذ فترة سياسة "التحوّل"، وهي استخدام الحوافز الاقتصادية للضغط على دول منطقة المحيط الهادىء لإلغاء اعترافها بتايوان وقطع علاقاتها مع تايبيه، وهو ما أدى لتقليص عدد الدول التي تعترف بتايوان. ففي عام 2019 ألغت دولة جزر سليمان ودولة كيريباتي اعترافهما بتايوان وعززا علاقاتهما بالصين مقابل مساعدات تنموية ومشورعات البنية التحتية التي تنفذها بكين في تلك الدول، مما سيؤدي لتعزيز النفوذ الصيني في المنطقة وتصاعد حدة التنافس مع واشنطن بالإندوباسيفيك.
- تصعيد عسكري متبادل: بالتزامن مع زيارة "بيلوسي" قامت كل من واشنطن وتايبيه بالتصعيد العسكري ضد بكين، حيث أرسلت واشنطن أسلحة ووحدات تدريب عسكرية خاصة ووفوداً من المسؤولين السابقين لدعم تايبيه. بينما نفذت تايوان مناورات "هان كوانغ" السنوية وأطلقت 20 سفينة حربية، بينها فرقاطات ومدمرات، قذائف لاعتراض ومهاجمة قوة غازية محتملة قبالة الساحل الشمالي الشرقي المقابل للصين، وقامت رئيسة تايوان "تساي إينغوين" بالصعود على متن مدمرة صواريخ أمريكية من طراز "كيد"شاركت بالمناورات في تحدي واضح للصين، وأشادت باستعداد الجنود ومستوى تدريبهم المرتفع، مما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "تشاو ليجيان" تحذير تايوان من تنفيذ أي تحركات عسكرية منفردة. في المقابل، تنفذ الصين مناورات مستمرة في مضيق تايوان وقبالة السواحل التايوانية، وتقوم بعسكرة بحر الصين الجنوبي وتتوسع في بناء قدراتها العسكرية.
*السيناريوهات المقبلة:
مما سبق نجد أن زيارة "بيلوسي" لتايوان ستمثل نقطة تحول في العلاقات الصينية – الأمريكية، لأن واشنطن تعمدت "استفزاز" بكين بتلك الزيارة، لاسيما في توقيتها قبل المؤتمر العام للحزب الحاكم، ولذا فإن هناك ثلاثة سيناريوهات تحكم مستقبل العلاقات بين واشنطن وبكين، هي:
- تصعيد عسكري: وهذا السيناريو يقضي باستمرار التصعيد العسكري الصيني والأمريكي بذريعة دعم تايوان، بيد أن هدف واشنطن الرئيسي هو استنزاف القوة الاقتصادية والعسكرية لبكين لمنع صعودها كقطب دولي، وربما يستمر التصعيد حتى اشعال حرب صينية لاستعادة تايوان، وهنا ستقوم واشنطن بفرض عقوبات مشددة على بكين مما سيؤدي لأزمات اقتصادية عالمية، لاسيما أن بكين هي الشريك الاقتصادي الأول لنصف دول العالم، ومنطقة جنوب شرق آٍسيا تمثل المعبر الرئيسي للتجارة والنفط على المستوى الدولي.
- احتواء الأزمة سياسيًا: وهذا هو السيناريو المرجح، نظرا لحجم الخسائر الاقتصادية التي ستلحق بواشنطن وبكين حال اندلعت حرب عسكرية فعلية بين الصين وتايوان. بيد أن هذا السيناريو لن يحدث قبل نهاية العام الحالي أي يعد انتهاء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي وبعد المؤتمر العام للحزب الحاكم بالصين، لأن واشنطن وبكين تستخدمان الأزمة حول تايوان لرفع شعبيتهم في الداخل، ولذا فإن تصعيد الخطاب السياسي حاليا سيحقق لهم مكاسب سياسية، وللتدليل على ذلك أكد "بايدن" ونظيره الصيني "شي جينبينغ" خلال محادثتهما الهاتفية عزمهم عقد أول قمة مباشرة حضورية بينهما خلال الشهور المقبلة.
- استمرار التوترات الراهنة: يعد هذا اكثر السيناريوهات المرجحة وتسعى له كافة الأطراف، بكين وواشنطن وتايبيه، لأن التصعيد الخارجي ضد عدو محتمل يرفع من شعبية الحزب الحاكم في أي دولة وذلك في ظل تراجع تلك الشعبية ببكين وواشنطن إثر الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، ولذا ربما يتم احتواء أزمة زيارة "بيلوسي" لتايوان جزئيا. بيد أن التوتر سيتصاعد في العلاقات الأمريكية الصينية، نظرا لكثرة وتنوع الملفات الخلافية بين البلدين، والتي تشمل التنافس لبسط النفوذ بمنطقة الإندوباسيفيك وبحر الصين الجنوبي، والدعم الصيني لروسيا وإيران في خلافاتهما مع واشنطن، وهو ما يؤكد أنه في حال تم احتواء أزمة تايوان، فإن الملفات الخلافية الأخرى بين واشنطن وبكين لن تلقى نفس المصير.
خلاصة القول، إن التشدد الصيني في التعامل مع زيارة "بيلوسي" لتايوان يأتي في ظل التنافس بين بكين وواشنطن، ورغبة الصين في الصعود كقطب دولي وردع أي محاولة أمريكية لدعم استقلال تايوان، ولذا سيكون هناك المزيد من الجولات الخلافية بين واشنطن وبكين حول تايوان في الأشهر المقبلة.