ربما تكون الحرب الأوكرانية السبب الأخير لما يواجهه العالم من تداعيات اقتصادية، ولكنها ليست السبب الوحيد أو الأقوى لتلك التداعيات التي نحتاج لتجاوزها إلى حلول تراعي اعتبارات تعدد وتنوع أسباب تلك الأزمة.
يواجه الاقتصاد العالمي أزمة اقتصادية كبرى منذ بدأ انتشار فيروس كورنا في مطلع عام 2020وفي مطلع عام 2022اشتعلت الأجواء الاقتصادية في العالم تأثراً بالحرب الأوكرانية، والأمر هنا ليس بمعزل عن سلسلة أزمات يواجها الاقتصاد العالمي منذ أزمة الرهن العقاري بالولايات المتحدة الأمريكية بنهاية عام 2007، ولكي يتم التصدي للوضع الاقتصادي المشتعل حاليا ووضع حلول للمستقبل يجب أن نبحث عن السبب الحقيقي للأزمة، حتى يتم التعامل معه.
والمؤكد هو أن الحرب الأوكرانية هي السبب الأخير للأزمة الحالية، فبمجرد اشتعال الحرب في 24فبراير 2022حدثت صدمة في الأسواق وارتفاعات أسعار كبيره للغذاء، والطاقة باعتبار أن روسيا وأوكرانيا من أكبر الموردين لهما، ومع امتداد الحرب والتوسع في تطبيق العقوبات على روسيا امتدت ارتفاعات الأسعار لتشمل كل شيء ويطول التضخم كل دول العالم ويدخل الاقتصاد في النفق المظلم.
ولكن بالنظر لما قبل الحرب الأوكرانية، يمكن أن نرصد أن الاقتصاد العالمي كان قد دخل النفق المظلم بالفعل قبل الحرب الأوكرانية ارتباطاً بحالة التوقف والارتباك التي واكبت ظهور فيروس كورونا الذي سبب نسب متفاوتة من التوقف والتراجع للعديد من القطاعات الاقتصادية في العالم، وهو ما دفع الحكومات إلى ضخ حزم مساندة للقطاعات المتضررة تجاوزت عند بعض التقديرات حاجز الـ 27تريليون دولار، وهو ما يقارب ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تم ضخ ثلاثة حزم مُساندة مُتتالية للقطاعات المتضررة، الأولى في مارس 2020بقيمة 2تريليون دولار، والثانية قبل مغادرة الرئيس ترامب للحكم بقيمة 900مليون دولار، والثالثة قررها الرئيس بايدن بنحو 1,9تريليون دولار لتصل إجمالي حزم المساندة نحو 4,8تريليون دولار، وهو ما يعبر عن ارتفاع حجم السيولة في السوق الأمريكية، مما يُعد المثال الأوضح لارتفاع سيولة كبير في كل دول العالم، فبينما ارتفعت مديونيات الحكومات نجد ارتفاع في نسبة السيولة لدى الأفراد الذين تراجع استهلاكهم لاستقرارهم معظم الوقت بالمنازل، كما ارتفعت السيولة لدى من استغل التوجه العالمي لخفض أسعار الفائدة للحصول على ائتمان بنكي، ومع تخفيف القيود الاحترازية للفيروس في منتصف عام2021،انطلق الجميع نحو الاستهلاك بدافع مما يمتلكوا من سيولة، وهو الأمر الذي رفع معدلات الطلب عن مُخرجات الجهاز الإنتاجي العالمي الذي كانت قد توقفت مخططاته التوسعية، مما سبب فجوة بين الطلب المتزايد، والعرض المُحدد والمثقل بقيود ارتفاع التكاليف، سيما تلك المتعلقة بارتفاع تكلفة الإجراءات الاحترازية للنشاط، وارتفاع أسعار الطاقة بعد زيادة الطلب عليها، وكذا تكلفة التطلع لأن يكون التعافي أخضر يعتمد على الطاقة المتجددة الأكثر كلفة وأقل فاعلية، كل ذلك وغيرة كان المحرك لموجة تضخمية بدأت بالفعل في النصف الثاني لعام 2021، وكان هناك توقع لاستمرارها ومخاوف من أن تتحول إلى ركود عالمي، وقد تفاوت تأثير تلك الموجه حسب حجم حزم المساندة التي قدمتها كل دولة وما طبعته من عملاتها المحلية، وتعد الولايات المتحدة هي الأكثر في ذلك الشأن والأكثر عُرضه للتضخم المنتظر، وهو ما رصدته روسيا التي استغلت الظرف العالمي الذي لا يحتمل المغامرة بالإمدادات الروسية من الطاقة والغذاء والمعادن، لتقوم بعملياتها في أوكرانيا، بينما لم تتراجع الولايات المتحدة التي دفعت تلك الحرب إلى أن يتشارك معها العالم في تضخم كانت ستتحمل الجانب الأكبر منه حال عدم اشتعال الحرب الأوكرانية، وهنا نجد أن الحرب الأوكرانية كشفت عن أزمة سببتها تداعيات كورونا ولم تكن الحرب سبباً لها.
وإذا رجعنا للخلف أكثر، نجد أن النظام الاقتصادي العالمي الحالي وبعد أن حقق الكثير من النجاحات منذ سيطرت علية أفكار الليبرالية الجديدة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلا أنه ومع بعض الصعوبات في التسعينات أتت أزمة الرهن العقاري الأمريكي مع نهاية عام 2007لتعلن بداية مرحلة الأزمات الكبرى لنموذج الليبرالية الجديدة، تلك الأزمات التي تم تمويلها وتجاوزها من خلال خلق أنشطة توسع من حجم النشاط الاقتصادي العالمي ارتباطا بحروب، وعمليات إعادة، وأنشطة مُكافحة أوبئة، ومخططات تحول نحو الطاقة المتجددة، وهي الأمور التي تجعل من تداعيات كورونا والحرب الأوكرانية أحداثاً ليست مُنشئة لأزمة بقدر ما تمثل مرحلة جديدة من الأحداث الكاشفة لأزمة نموذج الليبرالية الجديدة وأدوات للهروب إلى الأمام دون مواجهة واقع حاجة النظام الاقتصادي العالمي للتطوير وإعادة الصياغة.
وإذا كان العلاج الحقيقي للأزمة الاقتصادية الحالية هو تجديد النظام الاقتصادي العالمي بصورة أكثر عدالة تضمن تنمية حقيقية للجميع، وليست تنمية منتقاة لشعوب بعينها، إلا أن انتظار مثل هذا التغيير يعد أملا مثاليا يتعارض مع ما نعيشه من واقع مخاض عسير لمستقبل اقتصاد عالمي ربما لا يرقى للأحلام والآمال. وهو ما يحتم على الدول القومية البحث عن حلول محلية وإقليمية تُعالج ثغرات العولمة دون تصادم معها، حيث لا تزال الليبرالية تُمثل عقيدة الكثير من المؤسسات والقوى دولية التي تمتلك زمام المبادرة، والقدرة على التمويل.
والبداية تكون من اتخاذ سياسات نقدية لامتصاص السيولة من الأسواق، وخفض الاعتماد على المال الساخن، ثُم يتم التركيز على تحفيز القطاعين الخاص المحلي والإقليمي لخلق نشاط اقتصادي يُقصر من طول سلاسل الإمداد ويدعم ابتكار صناعات تعتمد على خامات وعناصر إنتاج محلية وإقليمية تخلق نشاطا اقتصاديا توسعيا يرفع من معدلات النمو ويخلق فرص العمل دون التعارض أو التصادم مع آليات العولمة، وإنما السير إلى جوارها والتفاعل مع آلياتها، حتى يمكن جذبها إلى مسار جديد.