أسفرت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية، التي جرت يوم 17 مايو الجاري، وأعلن وزير الداخلية «بسام المولوي» الدفعة الأخيرة منها الثلاثاء الماضي،عن خسارة حزب الله وحلفائه أغلبية المقاعد التي تمتعوا بها في البرلمان السابق، حيث كان حزب الله يقود تحالفاً نيابياً من 71 نائباً يمثلون أغلبية البرلمان. واحتفظ الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) بالمقاعد المخصّصة للطائفة البالغة 27 مقعداً؛ لكن -في المقابل- مُنِيَ حلفاء الحزب من الطوائف الأخرى بهزائم كبيرة، حيث سقط كبار رموزهم، فيما يبدو أنّها ضربة قوية وجهها الناخبون لحلفاء حزب الله. أمّا حزب القوات اللبنانية، بزعامة سمير جعجع، فقد فاز بـ20 مقعداً، لينتزع بذلك الزعامة المسيحية من حزب التيار الوطني الحرّ بقيادة جبران باسيل، صهر الرئيس الحالي ميشيل عون. وفي ظاهرة جديدة من نوعها، فازت مجموعة صغيرة من الإصلاحيين المنبثقين من الحركة الاحتجاجية ضد الطبقة السياسية بـ13 مقعداً، وهم غير منتسبين إلى الأحزاب السياسية القائمة غالبيتها على أساس طائفي.جاء ذلك في الوقت الذي شهدت فيه الساحة السُنِيّة تفتتاً وتشرذماً واضحاً بسبب مقاطعة تيار المستقبل بزعامة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري.
وبلغت نسبة الاقتراع 49.68% في الدوائر الانتخابية الـ15، في تراجع للإقبال عن انتخابات 2018. وتنافس ما مجموعه 718 مرشحا على 128 مقعداً في البرلمان، كل مقعد محدد بطائفة معينة حسب القانون الانتخابي اللُّبناني. ورغم أن النتيجة كانت متوقعة، لكنها تقدم بصيص أمل في بلد يعانى فيه الأمل من "أنيميا حادّة" طوال سنوات. فهل ينجح البرلمان بتركيبته الجديدة في تأكيد هذا الأمل وإخراج البلاد من نفق الانقسام المظلم؟
الانهيار الاقتصادي وسوء الإدارة:
جاء هذا الاستحقاق الانتخابي الأول منذ اشتعال الاحتجاجات الشعبية ضد الطبقة السياسية عام 2019 وسط ظروف شديدة الصعوبة، حيث تدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لغالبية اللبنانيين من جراء انهيار الليرة لأكثر من 90% من قيمتها وتراكم الدين المحلّي بما يقرب من خمسة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي للبنان. كما شهدت البلاد هروبًا هائلاً لرءوس الأموال وانخفاضًا حادًا في كل من الاستثمار الأجنبي وتحويلات المغتربين من خارج البلاد. وقد أدت هذه الأوضاع الغارقة في التردّي والتدهور إلى إصرار المحتجين على رفضهم لكامل مكونات تشكيلة السلطة وتركيبتها الطائفية المستمرة منذ مطلع التسعينيات، وانعكس هذا الرفض في شعارهم المرفوع "كلن يعني كلن"!
ظلّ الشعب اللبناني على مدى ثلاث سنوات يراقب سياسييه وهم يتشاجرون حول من يقع اللوم على وضعهم الاقتصادي المزري. وساد تبادل الاتهامات داخل البرلمان أكثر من طرح رؤى حول سبل العلاج للوضع الاقتصادي السيئ. كما شكّلَ تخلّفُ لبنان عن سداد ديونه فيمارس 2020 لأول مرة في تاريخه نقطة تحول حزينة أخرى في التدهور الاقتصادي للبلاد. واعتقد الكثير من اللبنانيين أن السياسيين أنفسهم هم الذين ارتبطوا بالنخبة المصرفية المتواطئين في هجرة أموال لبنان. وبدا أن مطالبة البرلمان بإصلاح نظام مصرفي ساهموا هم أنفسهم في تشكيله وفشله تبدو غير مجدية. وعندما اعتقد اللبنانيون أن الأمور لا يمكن أن تزداد سوءًا أكثر من معاناتهم، أدى انفجار أغسطس 2020 في مرفأ بيروت إلى مقتل نحو 200 شخص وإصابة 7000 شخص وتشريد 300 ألف آخرين. ومازالت هذه الجريمة بلا حساب. وكان الانفجار تذكيرًا آخر بسوء الإدارة السياسية والانهيار الاقتصادي. وقد شهد البلد الذي يعيش فيه عدد أقل من مواطنيه الذين يعيشون خارجه هجرة جماعية أخرى. في عام2021، تضاعف عدد المغادرين للبنان أربع مرات بعد أن أصبحت احتجاجات الشوارع سمة شبه يومية في الحياة اللبنانية. وبعد عامين من استمرار تلك الاحتجاجات لعزل السياسيين، أتيحت الفرصة للبنانيين أخيرًا لمعاقبة المؤسسة السياسية على عدم كفاءتها. ذهب الشعب اللبناني إلى صناديق الاقتراع وأحجموا عن إعطاء أصواتهم للعديد من الزعامات الطائفية المعروفة في البرلمانات السابقة وأعطوا أصواتهم هذه المرة للعديد من المرشحين الجدد مدفوعين بالأمل في قدرتهم على المساعدة في إصلاح النظام من الداخل.
وصوّت عدد أكبر بكثير من المغتربين اللبنانيين في انتخابات عام 2022 مقارنة بالانتخابات السابقة. في مدن مثل دبي، كانت الطوابير الطويلة من اللبنانيين المنتظرين للتصويت علامة تبعث على الأمل في أن هذه الجاليات المهمة التي غالبًا ما يتم تجاهلها ستجعل أصواتها مسموعة هذه المرة. بدون ثقة اللبنانيين المغتربين، لا يمكن للبنان التعافي من ضائقة اقتصادية مستعصية، وستعود من خلالهم العملة الصعبة والودائع إلى النظام المصرفي داخل الدولة.
خسائر "حزب الله" وحلفائه:
حافظ حزب الله وحركة أمل على المقاعد المخصصة للطائفة الشيعية في البرلمان، وهي 27 مقعداً، وفرضا بذلك سيطرتهما على الدوائر التابعة لهما تقليدياً مثل بعلبك والهرمل. لكن زعيم حزب الله، حسن نصر الله، كان قد أوضح في خطاباته السابقة أن هدف الحزب في هذه الانتخابات هو التأكد من أن حلفاءه في الدوائر الأخرى يؤدون دوراً جيداً. وجاءت النتيجة لتوضح العكس وأن حلفاءه قد فشلوا، وفي مقدمتهم التيار الوطني الحر الذي تراجع إلى مكانة الأقلية أمام حزب القوات اللبنانية الذي فاز بـ 20 مقعداً، لينتزع بذلك رئيسه، سمير جعجع، الزعامة المسيحية من التيار الوطني الحرّ بعد أن تراجع الأخير وخسر زعيمه، جبران باسيل، صهر الرئيس الحالي ميشال عون أمام مرشح حزب القوات اللبنانية غياث يزبك، ما يراه المراقبون فوزاً مهماً للفصيل الذي يعارض بشدة حزب الله وتحالفه.
بذلك، يفقد حزب الله غطاءً مسيحياً قوياً، خاصة بعد انتهاء ولاية الرئيس عون في آخر أكتوبر المقبل. كما فقد حزب الله حلفاء رئيسيين في الطوائف الدرزية والسنية،إذْ سقط كبار رموزهم على غرار القيادي الدرزي والوزير السابق، طلال أرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني، وكذلك القيادي الدرزي وئام وهاب، رئيس حزب التوحيد العربي، وزعيم تيار الكرامة السني فيصل عمر كرامي. وعلى المنوال نفسه خسر الروم الأرثوذوكس مقعده ممتمثلاً في موإيلي فرزلي، نائب رئيس البرلمان، كما خسر أسعد حردان ممثل الحزب القومي السوري الاجتماعي والطائفة الأرثوذكسية. وفقد بذلك حزب الله الأغلبية التي كان يعتمد عليها سابقاً في البرلمان.
وعلّق سمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية على تقدم حزبه في الانتخابات بأنه "أصبح الحزب المسيحي الأول في لبنان" وتوّقعت أنطوانيت جعجع، رئيسة المكتب الصحافي بعد فوز حزبها بـ20 مقعداً متجاوزاً الانتخابات الماضية في 2018 بـ5 مقاعد، أن هذا العدد سيرتفع أكثر مع وجود حلفاء من الطوائف والأحزاب الدينية الأخرى التي يمكنها أن تشكّل مع الجبهة اللبنانية "أكبر كتلة برلمانية" في المجلس النيابي. وكان حزب القوات اللبنانية قد تأسّس خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما، وطالب مجددا حزب الله بالتخلي عن ترسانته من الأسلحة.
غياب "المستقبل" وتفتت أصوات السُنة:
غاب سنة لبنان عن المشهد الانتخابيّ نظراً لمقاطعة تيار المستقبل الذي ظل الممثل الرئيسي للطائفة السنيّة لفترة طويلة، بينما كان حضورهم وازناً في البرلمان المنتهية ولايته بـ20 مقعدا. لكن لم ينجح في البرلمان الحالي سوى 6 من الرموز السنية من تيار المستقبل سابقاً، تحت مسمى"قدامى المحاربين". وقد رفضوا الاستجابة لدعوات المقاطعة التي أعلنها زعيم التيار سعد الحريري بعد أن استقال من رئاسة الوزراء للمرة الثانية في أكتوبر 2019 على خلفية الاحتجاجات الشعبية وانسداد الأفق السياسي مع تصاعد الأزمة في الواقع اللبناني وتوتر العلاقات بحليفه المملكة العربية السعودية. وقد ضاع بذلك صوت غربي الاتجاه وتشتتت جهود المحاولات الأخيرة للمرشحين السُنّة دون أن يتمكن أي طرف من تحويل رصيد الشهيد رفيق الحريري الشعبي لحسابه، وإن كانت بعض الزعامات السنيّة الأخرى قد حاولت أن تملأ الفراغ الذي خلفته مقاطعة الحريري وحزبه، مثل السنّة المتحالفين مع جعجع، وكذلك وزير العدل الأسبق اللواء أشرف ريفي. كما ارتفعت أسهم رئيس التنظيم الشعبي الناصري، أسامة سعد، الذي تردّدَ أن تيار المستقبل طلب من أنصاره التصويت له وهو ما نفاه التيار في بيان بهذا الخصوص. ويرجِّحُ مراقبون احتمال تولي أسامة سعد رئاسة الوزراء- التي يشغلها تقليديّاً السُنّة- ويشيرون إلى كونه قريباً من شباب الثورة، وقد يحظى بمباركة أصوات أعضاء في كتلة التغيير، كما أنّه يحظى بقبول إقليمي ودولي، والأهمّ أنه لا يقف على النقيض من حزب الله.
الإصلاحيون والمستقلون "رمانة الميزان":
على الرغم من انخفاض إقبال الناخبين مقارنة بالانتخابات الأخيرة في 2018،وعلى الرغم أيضاً من الانقسام بين صفوف المجتمع المدني الذي فشل في تشكيل حركة موحدة أو قوائم وطنية، فإن المرشحين الإصلاحيين الجدد أو المصنفين على أنهم مرشحي "ثورة 17 تشرين"، بنى الكثير منهم رأسمالهم السياسي على زخم حركات الاحتجاج في الشوارع وشعاراتها وحققوا اختراقات أكثر من مرشحي القائمة. إضافة إلى هذه الفئة، فاز 15 مرشحا آخرين ينضوون تحت مظلة ما سُمّي "المستقلين"، في إشارة إلى ترشحهم خارج لوائح الأحزاب السياسية. ويقول مراقبون أن نجاحهم يعكس أنّ التغيير ممكن وقادر على اجتذاب أصوات عدد كبير من الناخبين إذا تم منحهم بديلاً قابلاً للتطبيق، وأن الأحزاب التقليدية القائمة على الطائفية وزعاماتها معرضون للخطر إذا استمروا في النهج نفسه. وربما من الإنصاف الاعتراف بمدى أهمية الانتخابات ومقدار التعبئة السياسية والتصويت التي يمكن أن تحدث التغيير المأمول، حتى في بلد تسيطر على مقاليده الطائفية والميليشيات مثل لبنان. لذلك، ينظر كثير من المراقبين لهذه الفئة الآن بوصفها الأكثر استقلالية وشراسة ضد جميع الأحزاب التقليدية. ويحظى الإصلاحيون والمستقلون بدعم المجتمع المدني، حيث إنهم ضد نظام يحدد توزيع المناصب السياسية، بما في ذلك رئيس الوزراء والرئيس، للأفراد على أساس هويتهم الطائفية. لن يكون من السهل على الإصلاحيين والمستقلين تغيير الأمور في يسرٍ، لكنهم سيساعدون في كشف الفساد. كما أنهم سيجبرون الأحزاب السياسية الأخرى على العمل معهم، حيث لم يحقق أي تحالف الأغلبية، وبالتالي يستطيع هؤلاء الأعضاء إذا اتحدوا أن يكونوا رمانة الميزان في البرلمان الجديد. لكنَّ بعض اللبنانيين لا يخفون قلقهم من احتمال اصطفاف أفراد من هؤلاء إلى جانب جهة سياسية معينة ضد أخرى بدلاً من أن يبقوا من معارضي السلطة بجميع أحزابها. وتتعزز هذه الشكوك، خاصة في ضوء غياب برنامج موحد يجتمع حوله هذه الشخصيات.
نظرة على المستقبل والأمل في التغيير:
فى مواجهة "فسيفساء" تطغى على التركيبة البرلمانية الجديدة وتضيف تحدياتٍ للواقع السياسي والاقتصادي المتأزم، يرجح مراقبون أنَّ شكل التحالفات داخل البرلمان قد تؤدي إلى معادلة "لا غالب ولا مغلوب". وهي معادلة لا تنقذَ اللبنانيين من معاناتهم، بل تعود بهم إلى المربع القديم نفسه، حيث المواجهات والاقتتال وشلل الحياة السياسية والاقتصادية. في حين أن لبنان يحتاج على العكس من ذلك اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى دفع البلاد إلى الأمام وإعطاء المؤسسات المالية الدولية والمانحين بعض الثقة من خلال بوادر الاستقرار من أجل إعادة هيكلة ديونه وتنظيم بيته المالي وتنفيذ خطة إصلاح اقتصادي مدعومة بالمانحين الدوليين. وتوجد الآن اتفاقية قرض بقيمة 3 مليارات دولار في المراحل النهائية للموافقة عليها في صندوق النقد الدولي، لكن الحكومة اللبنانية ستكون مطالبة أولاً بتنفيذ بعض الشروط المسبقة الصعبة. وعند التفاوض على إعادة جدولة الديون، سيكون الإصلاحيون عيونَ وآذانَ الحركة الاحتجاجية في لبنان. ويأمل الكثير من اللبنانيين الذين لم يفقدوا الأمل بعدُ أن ينجح التغيير هذه المرة.ولعلهم يدركون أيضاً أن عليهم الانتظار بعد أن انتقلت المعركة من الشوارع والساحات والنقابات والجامعات إلى داخل المجلس. وسيتضح حينئذ ما إذا كان لبنان يتّجه نحو المزيد من الانقسام أو الوحدة بحسب مواقف الأعضاء الإصلاحيين والمستقلين الذين لا يبدو عليهم التجانس تجاه عدد من القضايا التي تمثل تحديات حقيقية، في مقدمتها حزب الله وسلاحه،واصطفافات لبنان الخارجية، واتفاق الطائف، إضافة إلى كيفية التعامل مع كتلة حزب القوات اللبنانية التي تتألف من 22 نائبا، وتسعى لتتزعّمَ المعارضة داخل البرلمان.