أعادت الأزمة الروسية-الأوكرانية إحياء ما كان يُعرف بـ "الأمن الأوروبي"، وتقييم سياسات "الحياد الأوروبي"، وبروز ما يُعرف بإشكالية "التماسك الأوروبي"، بالنظر إلى مآلات الأزمة القائمة التى أثبتت فشل الفرضية الغربية المتعلقة بـ "تلاشى التهديد التقليدي للكتلة الشرقية مع انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي"، إذ عزز ذلك الأمر عدد من الشواهد، أبرزها:
- الرسائل الروسية المتتالية حول إعادة تموضع "روسيا العظمى" بمجالها الحيوى، فضلا عما تضمنه خطاب الرئيس "فلاديمير بوتين" بذكرى عيد النصر الـ77- فى 9 مايو الجارى- من إشارات متباينة حول عدد من النقاط، أبرزها: استعراض التطور والكفاءة بالمنظومة العسكرية الروسية، تحميل الغرب مسئولية التصعيد فى أوكرانيا، والتحفيز وشحذ الهمم على استكمال التحرك من أجل أمن روسيا، وتوظيف "ذكرى الانتصار على النازية" فى سياق التصعيد بأوكرانيا، بالإضافة إلى التأكيد على مساعِى موسكو نحو منظومة "الأمن الجماعى".
- ما أضفاه الاجتماع الأول لقمة رؤساء منظمة معاهدة الأمن الجماعي فى 16 مايو الجارى، من دلالات حول محاولة روسيا وبيلاروسيا من حشد الشركاء الرئيسين للحقبة السوفيتية السابقة في إطار دعم مواقف موسكو ومينسك في ملف أوكرانيا، فضلا عن استنهاض تطويع "المنظمة" كذراع أمنية وعسكرية لمحاصرة المواجهة القائمة والمتفاقمة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، رداً على مواصلة الحلف سياسة التوسع شرقاً والاقتراب من ضم فنلندا والسويد إلى صفوفه، فى إشارة نحو إعادة إنتاج "حلف وارسو" .
- الخروج الأوروبي عن ثوابت ما بعد الحرب العالمية الثانية والمتمثلة فى تحجيم الإنفاق العسكرى. فعلى سبيل المثال: أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز إنشاء صندوق خاص لتعزيز المنظومة الدفاعية للجيش الألمانى برأس مال قدره 100مليار يورو، بجانب زيادة حجم الإنفاق العسكري إلى أكثر من 2٪ من الناتج المحلى الإجمالي بدلا من 1.5٪.
تأسيسا على ذلك، ثمة تغير في الرؤى الأمنية لدى الكتلة الأوروبية يُفترض معه إعادة التصور الخاص بـ "سياسات الحياد"، وطرح نقاشات سياسية وأمنية للسياقات الداعمة لـ "سياسات الناتو نحو الباب المفتوح"، فضلا عن دراسة أطر تعميق الشراكة الأوروبية عبر الأطلسي، وهو ما يمكن تناوله بالنظر إلى النقاط التالية:
أولا - دوافع التوسع :
استدعى التصعيد الروسى بالأراضي الأوكرانية، فضلا عن المناورات العسكرية التي أجرتها روسيا وبيلاروسيا، واستعراض المُقدرات العسكرية على حدود روسيا مع حلف شمال الأطلسي؛ دعم الخطوات الجادة نحو توسيع عدد أعضاء الحلف، وتقييم آليات الدفاع الأمني بالكتلة الأوروبية، وذلك بالنظر إلى:
فشل سياسات الحياد الأوروبي: حيث اختبرت الأزمة الأوكرانية مدى التمسك بسياسات الحياد التى تبنتها الكتلة الأوروبية فيما بعد الحرب العالمية الثانية التى أثبت فشلها بالنظر إلى حالة الانقسام حول تقديم المساعدات العسكرية إلى كييف لموازنة التفوق الروسى. فعلى سبيل المثال، فى إطار التصعيد الروسي بالأراضي الأوكرانية، تم رصد تدفق السلاح الفنلندي إلى كييف، فضلا عن إغلاق هلسنكي المجال الجوي لها أمام الطائرات الروسية.
التغيير فى الأولويات الأمنية: إذ يُشكل تاريخ حلف شمال الأطلسي "الناتو" منعطفات أمنية، ففى البداية كان يهدف إلى تدشين آليات للتدخل المشترك في أوروبا فيما بعد الحرب الباردة لتقوية وإصلاح القوات العسكرية في أوروبا الوسطى تمهيدًا لانضمامها في نهاية المطاف إلى الناتو والاتحاد الأوروبي. بيد أن أجندة التدخل الأمريكي عمدت إلى تغيير المسار عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتتجه نحو تعزيز قدرة تلك الدول على المشاركة في عمليات القتال الدائرة خارج منطقتها بصفتها أعضاء في ائتلافات أمريكية، بينما حاليا، تم إعادة إنتاج التوترات الأمنية على خلفية التحرك الروسى نحو إعادة التموضع بمجاله الحيوي، وهو ما يلزم معه صياغات أمنية جديدة تتوافق وتهديدات المرحلة.
تعزيز الاستقطاب الجيوسياسي: وذلك بالنظر إلى مآلات التصعيد الروسى بالأراضى الأوكرانية، ومستقبل التهديدات الجيوسياسية للأراضى الأوروبية والتخوف من احتمالات التطور نحو منطقة البلطيق، نظراً لوجود أسلحة روسية دفاعية وهجومية متطورة على الحدود المشتركة، مثل منطقة "كالينينجراد أوبلاست" مقارنة بالقدرات الدفاعية المحدودة لدى دول البلطيق، إذ تطرح تلك الإشكالية تحديات كبيرة أمام حلف الناتو.
ثانيا - شراكات مُدرجة:
آثار الإعلان عن رغبة كل من السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" الكثير من التساؤلات حول مستقبل جغرافية الحلف، في ظل تنامي التهديدات الروسية لأمن الكتلة الأوروبية، إلا أنه فى المقابل تلاحظ ردود أفعال أوروبية متفاوتة نوعا ما حول فكرة الانضمام لحلف الناتو. فعلى سبيل المثال، هناك توجه محدود نحو الشراكة بالنظر إلى دول مجموعة فيسجراد “Visegrad”التى تشمل دول "التشيك، سلوفاكيا، هنغاريا"، وذلك لعدد من الأسباب السياسية والاقتصادية المحلية، فضلا عن افتقارها إلى الموارد العسكرية والدفاعية. فى المقابل، هناك دول أخرى لديها توجه قوى نحو إقامة "شراكات أطلسية"، مثل بولندا والسويد وفنلندا ودول البلطيق. وعزز من تلك الفرضية ما يلى:
دوافع دولة بولندا:
أضفى التصعيد الروسى الأخير بالأراضي الأوكرانية التخوف البولندي من اتباع موسكو لنظرية الدومينو بتحركاتها الميدانية بمجالها الحيوى، ومن ثم، فقد تُبدى بولندا اهتماما نحو تعزيز الشراكة بالمجالات الدفاعية المختلفة مع حلف شمال الأطلسي.
الجدير بالذكر، أن بولندا تمتلك درجة عالية من الجاهزية بالمجال الدفاعي، خاصة أنها تطمح لأن تكون قوة عسكرية كبيرة في المنطقة توازي قوى أوروبا الغربية كفرنسا، كما أنها وضعت خطة طموح لتحديث قطاعها العسكري، فضلا عن امتلاكها قاعدة اقتصادية واسعة تمكنها من خدمة طموحاتها بالمجال الدفاعى ودعم آلية الردع الأوروبى بالمنطقة، ما ينقلنا إلى تساؤل حول مدى إمكانية تأييد بولندا للاستراتيجيات الجنوبية التي ينتهجها الناتو والاتحاد الأوروبي مقابل كسب دعمهما الكامل في الجناح الشرقي!.
دوافع دولتي السويد وفنلندا:
تتطابق الدوافع السويدية والفنلندية مع البولندية وأغلب الدول بالشمال الأوروبي حول التخوف من التحركات الميدانية الروسية وتنامي تهديدات موسكو للمنطقة، وهو ما يدفع كلتا الدولتين نحو توطيد علاقاتهم مع حلف شمال الأطلسي، ويُعزز انضمامهم تعميق الترتيبات الأمنية للكتلة الأوروبية بالنظر لامتلاك كلتا الدولتين "السويدية والفنلندية" قاعدة اقتصادية أقوى من القاعدة البولندية وبوسعها الإسهام بتعزيز الدفاع والردع في المنطقة، إذ إن كلتا الدولتين تمتلك قواعد صناعية وتكنولوجية فى المجالات العسكرية المتطورة.
دوافع دول البلطيق:
تُعتبر دول البلطيق "إستونيا ولاتفيا وليتوانيا"، دولاً ضعيفة نسبيا أمام التهديدات الروسية، ما قد يدفعها نحو الشراكة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" لعدد من الاعتبارات، أبرزها، أولا: صغر حجم تلك الدول جغرافيا. ثانيا: يوجد ضمن سكان تلك الدول ناطقين باللغة الروسية "مثل إستونيا ولاتفيا" هو ما يمكن تطويعهما واستخدامهما من جانب موسكو فى إطار نمط "الحرب الهجينة". ثالثا: التخوف من الحدود المتاخمة لروسيا، مثل ليتوانيا ذات الحدود المشتركة مع مقاطعة كالينينجراد الروسية. رابعا: محدودية الموارد الدفاعية بكافة مجالاتها لدى دول البلطيق وعجزها عن صد أى عدوان مُحتمل دون مساعدة خارجية.
ثالثا- دعائم قائمة:
ثمة عدد من الترجيحات التى تُعدم مسارات التحرك الأوروبي نحو توسع الناتو، على نحو ما بات يُعرف بـ "ديناميكات الحراك الأمنى"، وذلك بالنظر إلى المؤشرات التالية:
تعزيز سياسات الباب المفتوح: إحدى أهم الدعائم نحو التمدد الجغرافي لحلف شمال الأطلسى، وذلك بالاستناد إلى المادة "10" من ميثاق الحلف، إذ إن عضوية الناتو متاحة لأي دولة أوروبية تسهم في تعزيز مبادئ الحِلف والالتزام بمتطلباته التى تتمثل فى: "التمسك بقيم الديمقراطية والتسامح والتنوع، والمعاملة العادلة للأقليات، وأن تكون القوات العسكرية تحت سيطرة مدنية، وأن يتوافق النظام السياسي للدولة مع اقتصاد السوق". كما تمنح المادة "13" من ميثاق الناتو الأعضاء حق مغادرة الحلف.
الخبرة الأوكرانية: إذ إن عدم انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي، ساهم فى تراجع الحلف عن تقديم الدعم المباشر بالرغم من العلاقات العسكرية بين الناتو وأوكرانيا، ما يدفع دول الشمال والشرق الأوروبى نحو إعادة النظر فى مسألة "الحياد" والتوجه نحو تفعيل مسار "الأمن الجماعى" ضد موسكو بموجب المادة "5" من ميثاق حلف الناتو الذى ينص على اعتبار أي هجوم على أي عضو في الحلف بمثابة هجوم على جميع الأعضاء.
تأمين "سوالكى": وذلك عبر تأمين الحدود البولندية الليتوانية " ثغرة سوالكى - Suwalki" بمنطقة البلطيق، إذ يُنظر إليها على أنها واحدة من أكثر النقاط ضعفًا وقابلة للتصدع فى ظل تنامى التهديدات الأمنية الروسية بالشرق الأوروبي، حيث يقع بغرب تلك المنطقة مقاطعة كالينينجراد الروسية المسلحة، والتي تُعد نقطة الارتكاز الروسية في مواجهة الناتو.
تصاعد الدعم الشعبى: وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي الحديثة بدول الشمال والشرق الأوروبي من دعم شعبي واضح لمسار "الشراكة الأطلسية" مقابل التخلي عن سياسات "حياد ما بعد الحرب الباردة"، إذ إن التصعيد الروسي بالأراضي الأوكرانية فرض حالة من الترقب والقلق الأوروبي حول احتمالات تحرك موسكو في إطار "نظرية الدومينو" بمجالها الحيوي، في إطار الرسائل المباشرة وغير المباشرة للرئيس "فلاديمير بوتين" حول "روسيا العظمى".
تعميق التشبيك الأمني: إذ إن توسع الشراكات الأطلسية، لتشتمل على الجناح الشمالي والشرقي لأوروبا، من شأنه تعزيز "العمق الاستراتيجي" لمنظومة الدفاع الجماعي بمختلف المجالات الفنية، والآليات والأدوات العسكرية البرية والجوية.
رابعا - انعكاسات مُحتملة:
بالنظر إلى تحركات عدد من الدول الأوروبية نحو تفعيل خاصية الانضمام إلى الناتو، وسعى الحلف للتوسع نحو الجناح الشمال والشرقي، فثمة عدد من الانعكاسات المُحتملة على الترتيبات الأمنية للكتلة الأوروبية، أبرزها:
تحركات موسمية: إذ إن حالة الهلع من التصعيد الروسى المستمر بالأراضي الأوكرانية، ورسائل استعراض القوة بذكرى عيد النصر الـ77، أضفت المزيد من التخوف لدى الكتلة الأوروبية، وهو ما دفع بالعديد نحو التحرك بالحديث عن تفعيل خاصية "الشراكات الأطلسية" بحلف الناتو. وبالرغم من ذلك، فإن التوسع بخرائط الانضمام لحلف الناتو قد لا يضفى التغيير المأمول بموازين وحسابات القوى العسكرية للحلف، لكن المسألة تبدو أقرب للدعم السياسي الغربي، ومحاصرة الطموحات الروسية بالمنطقة.
ترتيبات مؤجلة: وذلك بالنظر إلى التحركات الفعلية من جانب الجناحين الشمالى والشرقي نحو الانضمام لحلف الناتو، إذ إنه على الرغم من إعلان البعض الرغبة فى "الشراكة الأطلسية"، إلا أنه يُنظر إليها كأنها أوراق تفاوضية، سواء للداخل أو للخارج ، وذلك بالنظر إلى عدة اعتبارات، أبرزها، أولا: عدم تطابق الرؤى الأوروبية تجاه "ماهية الشراكة الأطلسية"، وذلك بالنظر إلى الاختلاف فى درجة التهديدات الأمنية المباشرة. فعلى سبيل المثال، فنلندا ترتبط بحدود مباشرة مع روسيا تجعلها أكثر جاهزية لإنجاز متطلبات العضوية خلافا لدول أخرى تُبدى رغبتها في الانضمام. ثانيا: التفاوض حول "المقاربة النرويجية"، وذلك عبر تفعيل العضوية شريطة عدم وجود قواعد عسكرية على أراضى الدولة العضو ولا رءوس نووية. ثالثا: بروباجندا داخلية عبر استخدام ورقة "الشراكة الأطلسية" في خدمة الأجندات الداخلية. فعلى سبيل المثال، بالنظر إلى حالة الانتخابات التشريعية السويدية والمقرر انعقادها في سبتمبر 2022، يتم استخدام ورقة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ببروباجندا الحملات الانتخابية بين التيارات اليمينية واليسارية السويدية، فضلا عما تسفر عنه نتائج الانتخابات من تكوينات سياسية قد تُدعم عملية البت بعضوية السويد من عدمه.
ردع مُحتمل: وذلك بالنظر إلى التغير في سياسات موسكو الخارجية نحو إعادة التموضع بمجالها الحيوى، إذ من المُحتمل أن يكون هناك "ردع روسي" ردا على الترتيبات الأمنية الأوروبية بحلف شمال الأطلسي، حيث سيكون هناك في الأغلب رد ضد دول البلطيق وفنلندا، ما ينقلنا إلى الخيارات المتاحة لدى الرئيس بوتين، ومنها على سبيل المثال: احتمالية تفعيل "خيار الردع النووي"، والضغط بورقة اللاجئين والهجرة، والمقايضة بورقة العقوبات الاقتصادية.