نعتقد أن ظاهرة انتشار سلوكيات وجرائم التنمر تعود في أغلبها إلى مكونات وشكل الثقافة الإنسانية العامة التي تتنامى عبر الأزمان، لتشكل وعي وعادات وتقاليد الناس، وهي المثل المميزة، العابرة للأقاليم والأعراق والأديان، وهي السلوكيات التي تجد مرجعيتها في الفطرة الإنسانية ذاتها، فهي ثقافة لا جغرافية لها، ولا انتماء عرقي.
حول تفشي ظاهرة " التنمر" لا أتفق مع من يرون فقط أن ورائها الرياح المغبرة بفكر الجدب الصحراوي المتشدد المتعصب إلى حد التطرف المناديًة والمطالبة بالالتزام القهري بتعاليم الجهل الظلامي الذي غمر البلاد والعباد مع نهايات القرن الماضي، فقالوا أن تلك الرياح هي التي حملت معها اللبنات الأولى لإنشاء ونشر مفاهيم التنمر وتسفيه واحتقار الآخر، وأن الظاهرة إقليمية وعربية في الأغلب الأعم.
ففي بدايات القرن الماضي، وحين عُين طه حسين عميد الادب العربي وزيرًا للمعارف عن حزب الوفد، خرجت تظاهرة تضم غوغاء من الطلبة والمتزمتين يهتفون للجهل والتخلف بعد إعلان مبدئه الشهير الذي لم يفارق كرسي الوزارة ألا بعد أن أصبح قانونا تشريعيا في مصر بأن التعليم حاجة أساسية للإنسان كمثل حاجته للهواء والماء. كانوا يهتفون وهو جالس في مكتبه بالوزارة يسمعهم: (اخرجوا الأعمى من الوزارة.. اطردوا الزنديق!!) فقال لسكرتيره الخاص فريد شحاته خذ يدي إلى الشرفة (البلكونة) المطلة على جمع المتظاهرين... خرج إليهم فسكتوا وانصتوا لما سيقول، فبادرهم بهدوء: (ليس لدي ما اناقش به جهلة متخلفين لكني أحمد الله الذي جعلني أعمى كي لا أرى وجوهكم القبيحة ).
"السخرية مش خفة دم.. والقوة مش شطارة ”.. لا بد من ترسيخ هذه المفاهيم في آذان أطفالنا... ذلك ما خلصت إليه ندوة حاضرت فيها الكاتبة " مروة عطية "، وحدثتنا فيها عن ظاهرة التنمر، وأشارت إلى أن المتنمر أحيانًا قد يمارس عده أشكال للتنمر ولا يكتفي فقط بالإيذاء البدني، إنما قد يتعدى الأمر إلى التوبيخ والتهديد والإغاظة والسباب، ويتعمد فعل ذلك باستمرار، فيُبيت النية ويحدد فريسته ممن هو أضعف منه بدنيًا، ويختار من يجلس دائمًا بمفرده الذي لا يستطيع تكوين صداقات، يتعرض للضرب المتكرر ولا يقاوم من يعنفه ولا يستطيع أن يحصل على حقه، يضربه من يضربه ويركله من يركله وهو يصمت دون جدوى.. هكذا يكون الضحية كالطائر مكسور الجناح لا يستطيع فعل شيء.
وتقول " مروة " إنه وفي جلسة "السيكودراما " التي كانت من ضمن فعاليات الندوة التفاعلية مع أحد المتنمرين، فرَّغ المتنمر نفسيًا عن انفعالاته، وباح بالأسباب التي جعلته كذلك، وهي القسوة في البيت ... أب شديد وأم لا تحن عليه، وكان عند متنمر آخر أسباب مختلفة كالغرور بقوته البدنية وأنه يشعر بذاته عندما يرى ضعف من حوله. وهناك آخر يتلقَّى العنف ممن حوله داخل بيته، فيسخرون منه وينعتونه بالفاشل الغبي، لا يسمع كلمة طيبة ويتمنى أن يتلقى جرعة من الحب والحنان. وآخر يتنمر بدافع الغيرة، فيتنمر على من يتفوق عليه دراسيًا إذا كان أضعف منه. وآخرون يقلدون المشاهد الدرامية العنيفة التي غزت كل المنازل من خلال المسلسلات والأفلام، فيحاكي الطفل ما يشاهده، ويكون بطل هذه الأعمال قدوة ومثلاً أعلى لهم، ويأخذون من عباراته الشهيرة نموذجا في حواراتهم، بالإضافة إلى برامج المقالب التي أصبحت شيئًا أساسيًا كل عام في رمضان، وبعد انتهاء الحلقات يحاول الصغار وأحيانًا الكبار تقليدها وتكرارها، ولا يدري من يفعل ذلك أنه قد يتنمر على غيره.. فهذه بعض دوافع التنمر، وعندما نقف على السبب، يسهل علينا وضع خطة لمواجهة التنمر والقضاء عليه.
وعبر العالم نتذكر كم كانت كثيرة الصعوبات والمحطات القاسية التي مر بها وتجاوزها النجم الفرنسي فرانك ريبيري مهاجم فيورنتينا في حياته، ولكن بعضها ترك جروحا غائرة في نفسية اللاعب الذي كان قاب قوسين من الفوز بالكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم عام 2013.
هكذا، وصفت الحدوتة صفحات الإعلام الرياضي العالمية، وذكرت أن أقسى هذه المحطات كانت في طفولته، حيث كان يطلق عليه الأطفال لقب "كوازيمودو"، وهي الشخصية الرئيسية في فيلم شركة والت ديزني " أحدب نوتردام " (فيلم 1996)، وهو شاب مشوه وظهره مقوس وكان يخافه أهل قريته، لأنهم كانوا يظنون أنه "وحش".. فعندما كان فرانك يبلغ من العمر عامين تركه والداه وتعرض لحادث سير نجا منه بأعجوبة لكنه ترك ندبا كبيرا في وجهه.
وعن هذه المرحلة، يصرح ريبيري لإحدى الصحف الفرنسية عام 2014 بأنه "عندما كنت صغيرا، كانوا ينادونني كوازيمودو، كان هذا يؤلمني كثيرا". لكن ريبيري لم يسمح لهذا التنمر أن يؤثر عليه أو يهزمه، ويؤكد أنه لم يهرب يوما ويبك في زاوية. وبدلا من ذلك انصب تركيزه على كرة القدم، وقد "راكمت كل هذا الغضب وفجرته في المباريات" بحسب قوله.
وتصف الصحيفة بدايات اللاعب النجم بأنها كانت متواضعة، فبعد تنقله بين عدة فرق فرنسية انتقل عام 2005 إلى جلطة سراي التركي لموسم واحد ثم عاد إلى مرسيليا، ثم تفجرت موهبته الكروية في بايرن ميونيخ الذي أمضى معه 12 موسما (2007-2019) واستدعي بشكل مفاجئ لمنتخب بلاده لأول مرة بمونديال 2006 في ألمانيا، وكان الاستدعاء مفاجئا ووصل معه إلى المباراة النهائية التي خسرها أمام إيطاليا. وخلال مسيرته الكروية حظي بعدة ألقاب أبرزها "سكار فيس" (الوجه ذو ندبة) وهو فيلم شهير أنتج عام 1983 وقام ببطولته "آل باتشينو" و"فيرارايبيري" بسبب سرعته وانطلاقته الصاروخية بالكرة.
ومع الوقت، تأقلم ريبيري مع شكله الجديد ورفض عمليات التجميل لترميم وجهه ودافع عن هذا الندب، قائلا "من دون هذا الندب سأكون رجلا عاديا.. الآن لدي شخصية قوية وإرادة صلبة.. فخور بكل شيء واجهته وتخطيته لم يكن الأمر سهلا، اليوم أحب وجهي وحياتي".
ويواصل الإعلام العالمي الحديث عن الطاقة الإيجابية التي خرجت من رحم معاناة طفل كان يلقب “بالمشوه”؛ ظهرت فوق المستطيل الأخضر وإصرار لاعب بلغ 36 ربيعاً من العمر ولا يزال يلعب مع فيورنتينا بدوري الأبطال أحد أقوى الدوريات بأوروبا.
وبعد مغادرته البايرن، رفض ريبيري ملايين الدولارات من الدوري الصيني والأمريكي للانتقال لإحدى فرقهما، وأصر على البقاء في أوروبا وانتقل إلى فيورنتينا الذي يقدم معه مستويات مميزة، وظل يصنع ويسجل الأهدف ويفتك ويشن الهجمات، وظفر مع الفريق بجائزة أفضل لاعب بالدوري الإيطالي ..
قصة معاناة لاعب تمرد على واقعه وطفولته القاسية ومعاناته من جراء تنمر مجتمعي رذيل.