جاءت الدعوة لإقامة حوار سياسي وطني لانطلاق مرحلة جديدة لرسم ملامح "خطة طريق" لتطوير والاستفادة، وبناء على ما سبق من جهود إصلاحية ووطنية للتغيير كأمر متميز ومهم وفي توقيت صائب.
من المؤكد أننا عانينا ولازلنا نعاني من تراكمات سلبية تشكلت في الحقب الأخيرة عبر إحداث تكلسات كونتها آثار حروب خضناها ومواجهات عسكرية دامية مع أعداء في الخارج والداخل، ومعارك أمنية مع أهل الشر عبر حقب كثيرة، وإعادة بناء الحجر والبشر، وإصلاح اقتصادي، والتعامل مع حالة تراجع حضارية وثقافية تتعلق بحالة من تراجع الوعي العام، وجهود إعادة القراءة الرشيدة لتفاصيل الماضي القريب، والذهاب إلى صياغة واقع جديد نأمله يستجيب في أغلب الأحوال لاستضاءات التنوير والتفاعل والاستفادة بمستحدثات العصر من التقنيات الإلكترونية لتطوير نظم الإدارة، وتفعيل نظم الرقابة والمتابعة والحوكمة والشفافية، وتحديث وسائط التعليم، وتأمين المناخ الصالح لأداء منظومة صحية بمواصفات عالمية.
في مقابلة مع د. أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية الأسبق، والشهير بنجاحاته الرائعة في وضع أسس تفعيل نظم وآليات الحكومة الإلكترونية، سألته: كيف يمكن كسر حلقات توارث نظم وثقافات الفساد بين أجيال على وشك أن تغادر الدواوين الحكومية وأخرى تبدأ حياتها الوظيفية.. فكان الرد أنه ليس بمقدور الوزارة والحكومة تأهيل وتدريب صغار الموظفين، لأنه أمر مكلف مادياً، نظراً لأعدادهم الهائلة، ونحن نعتمد على تغيير ثقافة القيادات ليقوموا بدورهم في نقل تلك الخبرات الجديدة لشباب الموظفين. إلا أن ما كان يحدث على أرض الواقع هو نقل الخبرات السيئة التي تنشر مفاهيم التواكل والسلبية والتربح واستغلال النفوذ وغيرها من ملفات التراث الوظيفي الحكومي السلبي التليد، حتى وصل الأمر أن يصرح د. درويش ذاته في مرحلة تالية قائلاً "إن 55% يدفعون الرشوة لإنهاء مصالحهم، وإن 19% يرون أن الموظف لا يستحق عقوبة الرشوة، نظراً لحالته المالية السيئة.." أيضاً لا يمكن تصور أن الفساد وآليات التخلف الإداري يمكن مكافحتها عبر كتيبات دينية عن الرشوة والهدية في الوظيفة العمومية أو دورات تدريبية لتعليم فنون الابتسامة كما اقترحها رئيس سابق للجهاز المركزي للتنظيم والإدارة!
أرى أنه ليس من دواء ناجع سوى العمل بشكل متسارع لخلق مناخ جيد للموظف لأداء عمله عبر نظم تتمتع بشفافية ووفرة في المعلومات والتعريف بمعايير تولي المناصب للأكفاء وأصحاب الإسهامات الناجحة، ويأتي في مقدمة سبل مواجهة كل ألوان الفساد المزيد من نشر أجواء تحفز على الإبداع والتجويد، والإثابة للمجدين، ونشر التجارب الناجحة للاستفادة بتطبيقاتها والتعريف بآليات تحقيقها.. وقد ترتفع أصوات تسأل ما جدوى وجود آليات تحقيق الشفافية وتفعيل آليات الديمقراطية في الإدارة دون إعمال القانون وتطبيق مواده وبنوده بحسم ومساواة وعدالة معصوبة العينين، وهنا تجب الإشارة إلى أن التزيد في الحديث عن القانون في كل تفصيلة من تفصيلات العمل الإداري يمكن أن يعوق حركة تدفق العمل وسيولته.. ويحكون في بعض ما جاء في تاريخ دواوين الحكومة عن حالة مدير عام قام بمجرد توليه مهام منصبه بتعظيم شأن إدارة الشئون القانونية حتى إنه حولها إلى إدارة عامة تتبعها إدارات فرعية لمتابعة التحقيقات وأخرى للتسويات القضائية وثالثة لمراقبة المناقصات والمزايدات ورابعة لشكاوى الموظفين وخامسة للرد على العملاء ... الخ. وعليه تكن النتيجة المتوقعة لازدياد نفوذ تلك الإدارة أن صارت كل الخلافات مهما كانت بسيطة لا يمكن حلها إلا عبر المحاكم فكان إهدار الوقت والمال وتراجع آليات النمو نتيجة طبيعية لتكدس كل أوراق الإدارة على مكاتب الشئون القانونية للبت في صلاحية كل القرارات، حتى في تعيين العمال وتصليح دورات المياه!
لقد استطاع هذا المدير تحقيق أقصى درجات الفشل لإحداثه حالة من الجمود وإهدار عشرات الفرص لتحقيق إدارته المكاسب المالية والإدارية، ولم تحدث الانفراجة إلا بإقصاء ذلك المدير القانوني جداً الذي كان يردد مباهياً أنه لا يمكن لأي متابع لأعمال إدارته أن يجد ورقة واحدة غير قانونية!
الآن، ورغم الأداء الطيب والمتواصل والمتطور من جانب أجهزتنا الرقابية الكثيرة والواعية حاليًا والمتنوعة الآليات والأهداف والتخصصات والخبرات، وما يعلن عنها من حصاد هائل لأعمالها يكاد يكون بشكل يومي من نتائج لملاحقة عصابات المتاجرة بكل مكتسبات الوطن والمواطن ورزقه وصحته وحياته، وحتى أعضاء جسده حيًا وميتًا، إلا أن بعض مظاهر الفساد باتت غريبة لتزايدها بنقلات نوعية إجرامية جبانة باتت تفتقد أقل سمات ومشاعر الإنسانية بشكل لم نعرفه من قبل مجتمعيًا في أزمنة الشدائد والأزمات الصعبة.. لم يكن من المعقول ولا المقبول متاجرة البعض منا –للأسف- في المستلزمات الصحية والدوائية الوقائية والعلاجية مع بدايات غزو فيروس "كورونا" المخيف في بداياته وتداعياته المتسارعة وسقوط ضحاياه بين مصاب وراحل دون أي واعز من ضمير أخلاقي في ظروف قاسية! يحدث هذا وفرق وعناصر الجيش الأبيض العظيم المنتشرة بطول البلاد وعرضها يقدمون ويبذلون جهودًا إنسانية وملاحم في العطاء الفدائي في مستشفيات العزل وفي كل موقع تطلب وجودهم فيه، ويتساقط العديد منهم بين مصاب وراحل شهداء للمهنة وبعطاء نبيل، وسيحكي لنا التاريخ فيما بعد العديد من قصص وحواديت الفداء المصرية العظيمة.. ويبقى للأسف في المقابل السؤال ووضع كل علامات الاستفهام والاندهاش: أين ذهبت روح ثورة 30 يونيو العبقرية التي دفعت بنا جميعًا إلى ميادين الاعتزاز بالوطن والهوية والفخار بحالة اندماج وطنية تحت علم وراية واحدة عند البعض منا الذين استثمروا بشكل سلبي نكبات وأزمات مرت بالوطن والمواطن ليزيدوا من وطأة وقعها الصعب على الناس؟! لعل الدعوة لتفعيل حوار سياسي وطني نجد فيه الإجابة، ونعرف من خلاله السبيل لإعادة نسمات روح ثورة 30 يونيو الرائعة للشارع الوطني المصري.. لا شك فى أن فتح النوافذ ليدخل منها هواء الحرية ليتنفس الناس هواء متجددا، أمر يبعث على الأمل في أن تتقلص مساحات العفونة وتختفي بالتدريج الروائح الكريهة التي باتت تزكم الأنوف وتمنع عن الناس حلم أن يحيوا في سكينة وهدوء وسعادة وانتصارًا على أهل الفساد والمفسدين الطغاة، والانطلاق نحو جمهورية جديدة في ظل قيادة وطنية عظيمة، فهل نقتنص الفرصة؟