أثارت الحرب الروسية-الأوكرانية العديد من الإشكاليات الجدلية المتعلقة بمقاربات تحليل السياسة الخارجية للدول. كثير من التحليلات ذهبت إلى أن العلاقات الدولية وقرارات السياسة الخارجية الآن محكومة بواقع نظرية الواقعية الكلاسيكية القائمة على المبادئ الستة التي أوردها هانز مورجنثاو في كتابه "السياسة بين الأمم"، باعتبارها الدعامات الرئيسية في التحليل الواقعي للسياسة الدولية، والتي من أبرزها مبدأي المصلحة والقوة،والقوة السياسيةPower Political اللتان يعتبران بمثابة دعامتا التحليل في النظرية الواقعية لمورجنثاو.

يبرز الجانب الأهم لتأثير النظرية الواقعية في مدى الدور الذي يلعبه القائد السياسي على عملية صنع قرارات السياسة الخارجية؛ حيث يشير مورجنثاو في كتابه إلى الاتصال بين مفهوم القوة،  ودورها في تحريك سلوك الإنسان. وكيف أن الطبيعة البشرية هي صلب رؤيته النظرية في السياسة الدولية، أو على حد قوله: "في الطبيعة البشرية تجد القوانين الحاكمة للسياسة الدولية جذورها"، وأن "العالم هو نتاج للقوى الكامنة في الطبيعة البشرية". وتتبلور الطبيعة البشرية  لديه بالرغبة الجامحة في القوة إلى حد الشهوة، كما أن جوانب الفجور المتأصلة في النفس الإنسانية تهيمن على كل أعمال الإنسان، أو على حد قول مورجنثاو: "إن الرغبة الخالدة في القوة تجعل من الشر مسيطراً على كل السلوك الإنساني".

استناداً إلى ذلك؛ ترفض النظرية الواقعية السياسية فكرة التزام الدول في علاقاتها بالقواعد الأخلاقية التي أقرها العالم عبر حضاراته المختلفة، ذلك بأنها قد تعلم ما هو خير وما هو شر في السياسة الدولية، لكنها تظل دائمة ملتزمة بتحقيق مصلحتها المتمثلة في بلوغ القوة بمنأى عن أي تزيد أخلاقي أو حماقة سياسية.

يمتلئ تاريخ العلاقات الدولية بالعديد من النماذج والحالات التي كان لصانع السياسة الخارجية فيها التأثير والدور الأبرز في صياغة وصنع قرارات وتوجهات السياسة الخارجية؛ كان النموذج الأبرز لدور وتأثير صانع القرار على صنع السياسة الخارجية في تطبيق للواقعية السياسية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والأشهر ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان دائم التأكيد على صراع النفس البشرية بطبيعتها، وأن السبيل الوحيد لفهم السياسة العالمية هو فهم توزيع القوة في العالم. كما أنه كان قد أكد في خطاب ألقاه بزيوريخ عام 1946 على ضرورة تأسيس الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق التوازن في توزيع القوة على مستوى العلاقات الدولية. أيضاً، جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا، إبان مؤتمر فرساي غداة الحرب العالمية الأولى والملقب بالنمر؛ والمعروف بتشدده، ذهب إلى أن الحياة هي حالة صراع دائم سواء في حال الحرب أو حتى في حال السلم. أما النموذج الأبرز حديثاً، فيتمثل في وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والآن كما تحاول أن تروج العديد من التحليلات الغربية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

شخصية القادة وصنع القرار السياسي:

يتضح هنا أهمية عملية صنع القرار السياسي، وإذا ما كانت تتأثر بشخصية القادة، خاصة في السياسة الخارجية للدول، وهو الركيزة الأساسية التي يدور حولها مفهوم السياسة. والسياسة الخارجية هي خطة وسلوك الدولة تجاه محيطها الخارجي، والتي ترسم العلاقات الخارجية مع غيرها من الدول، وهي  المــرآة العاكســة للنظــام السياســي لأي دولــة مــن الــدول، لكنها ليست مجرد محصلة لمخرجات عوامل موضوعية ثابتة؛ فالسياسة الخارجية في النهاية يقوم على صياغتها، واتخاذ القرارات بشأنها، فرد أو مجموعة أفراد، وهو في ذلك يتأثر بدوافعه الذاتية وخصائص شخصيته وبتصوراته الذهنية لطبيعة العوامل الموضوعية.

في هذا السياق؛ تتعدد الرؤى والاقترابات التحليلية المفسرة للسياسات الخارجية للدول، لكن لا يوجد اتفاق عام فيما بينها حول إشكالية تأثير العوامل النفسية والدوافع والسمات الشخصية للقادة في صنع قرارات السياسة الخارجية. فهناك فريق يرى أن لها تأثيرًا كبيرًا، وأن القائد السياسي أو متخذ القرار ليس آلة منفذة للقرارات والسلوكيات التي تنتجها مؤسسات صنع السياسة الخارجية، وأن القائد له دور أساسي ومهم في صنع السياسة الخارجية، حيث تعد المؤسسة الرئاسية (النخبة الأساسية) هي الصانع الحقيقي للسياسة الخارجية لتلك البلدان، وذلك من خلال: التخطيط والتطوير والتكيف. ووفقاً لأصحاب هذا الرأي؛ فالقائد الناجح هو من يستطيع كسب التأييد الداخلي لتنفيذ قرارات السياسة الخارجية، وأن يعرف إلى أي مدى يستطيع المضي في تنفيذ الأهداف مع الاحتفاظ بتأييد الرأي العام.

في المقابل؛ هناك مدرسة أخرى تذهب إلى أن العوامل الموضوعية هي الأهم في صياغة السياسة الخارجية، وأن الدور الذي يقوم به القائد السياسي يفرض عليه عزل قناعاته الشخصية عن السياسة الخارجية لدولته، وأن يلتزم بالسلوكيات التي تفرضها متطلبات دوره كقائد للدولة، حتى لو كانت تختلف عما يعتقد.

إذن، هي قضية شائكة ومتعددة الأوجه؛ لكن على أية حال لا يمكن إهمال الدور الذي تلعبه شخصيات وقناعات وأيديولوجيات القادة السياسيين في التأثير فى السياسات الخارجية لدولهم أو إغفاله، خاصة في وقت الأزمات الدولية، وتاريخ العلاقات الدولية يذخر بالعديد الأمثلة على ذلك. لكن، تبقى حكمة القيادة وبراعتها في مدى القدرة على الاستفادة من الأزمات، وما تحمله من مخاطر، وتحويلها إلى فرص لتعزيز مصالح ومكانة الدولة الوطنية على الصعيد الخارجي.

زلات لسان أمريكية:

قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن تصريحاته الخاصة بأنه لا يمكن للرئيس الروسي فلاديمر بوتين "البقاء في السلطة"، كانت تعبر عن "غضب شخصي"، ولا تمثل تحولاً بالسياسة الأمريكية. بايدن أضاف خلال تصريحات في البيت الأبيض: "لن أتراجع عن أي شيء.. أريد أن أوضح أنني لم أكن حينها ولا الآن أتحدث عن تغيير في السياسة.. كنت أعبّر عن غضب أشعر به من الناحية الأخلاقية.. ولم أقدم اعتذارات عن مشاعري الشخصية".

هذه ليست المرة الأولى التي يخطئ فيها بايدن؛ تعليقات بايدن كان قد سبقها بساعات وصفه لبوتين بأنه "جزّار"، التى أثارت غضب موسكو، ودهشة الدول الحليفة، وجعلت مستشاريه في حال تأهب قصوى لتهدئة الانتقادات. وبلغ الأمر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذّر من أن عبارات كهذه يمكن أن "تُصعّد" النزاع الذي تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي لاحتوائه.

تصريحات الرئيس الأمريكي لا يمكن أن تمر مرور الكرام، وهو رئيس لدولة دائماً ما وصفت بأنها "دولة مؤسسات"، والسؤال المهم الذي تخلفه التصريحات؛ هل يمكن الفصل بين المواقف والدوافع والسمات الشخصية للقادة، ومواقف الدول الخارجية إزاء قضايا السياسة الخارجية، خاصة في وقت الأزمات؟!

فالعلاقات الدولية في الوقت والوضع الراهن تتسم بالحساسية والتعقيد والترابط الشديدين؛ نتيجة للتطورات والتشابكات المتزايدة والمتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، والتي قد تؤدي إلى تغيير كلي في خصائص النظام الدولي المستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

قراءة فى الدوافع الشخصية لقرارات الرئيس الروسي:

عملت وسائل الإعلام الغربية، خاصة الأمريكية منها، على الربط الكبير بين الطبيعة الشخصية والخلفيات النفسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقرار الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث أصبحت شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي جوهر تغطية حرب أوكرانيا، خاصة في ضوء الخطاب المطول الذي ألقاه الرئيس الروسي فجر اليوم الأول للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والذي أسس فيه لقراره للتدخل في أوكرانيا، لكنه أيضاً من وجهة نظر الإعلام الأمريكي قد أفصح بوضوح عن طموحه الشخصي لإعادة القيصيرية الروسية، وأن أوكرانيا هي جزء من تلك القيصيرية مؤكداً على ذلك بقوله: "أوكرانيا جزء من روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا. ويشعر بعض السكان الناطقين بالروسية شرقي أوكرانيا بالشيء نفسه". كذلك، في مقال مطول كتبه الرئيس الروسي في يوليو 2021، أشار بوتين إلى أن الروس والأوكرانيين هم "شعب واحد"، وأشار إلى أن الغرب أفسد أوكرانيا وأخرجها من فلك روسيا من خلال "تغيير قسري للهوية".

يتفق بوتين هنا مع أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأمريكية، البروفيسور جون ميرشايمر John Mearsheimer؛ الذي أشار إلى أن "صناع السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا هم من أثاروا الأزمة في أوكرانيا وعلى عاتقهم تقع مسئولية حدوثها". وفي تحليل نشرته مجلة الإيكونوميست البريطانية، قال ميرشايمر: إن صانعي القرار في واشنطن وأوروبا يتحملون مسئولية حدوث الأزمة في أوكرانيا من خلال محاولتهم دمج هذا البلد في الغرب وتجاهلهم المستمر لمخاوف روسيا الأمنية.

ووصف ميرشايمر الأزمة في أوكرانيا بأنها واحد من أخطر الصراعات الدولية، حيث يعمل الغرب على زيادة مساعداته المالية والعسكرية لسلطات كييف من جهة، وتشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا من جهة أخرى في تصعيد واضح يمكن أن يؤدي بحسب رأيه إلى كارثة متمثلة باندلاع حرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.

ديفيد إجناتيوسDavid Ignatius، الكاتب المخضرم في صحيفة "واشنطن بوست"، أشار  إلى كون بوتين "مسيحيًا مولودًا من جديد". وأن ذلك عكس حياته السابقة، خاصة وظائفه في مجالات التجسس، والاستخبارات. ركز إجناتيوس على أن بوتين صار يكرر أهمية العودة إلى الأخلاق المسيحية، ليس فقط في روسيا، ولكن، أيضا، في بقية الغرب.

في السياق ذاته، أكد جيمس كرابفل، أستاذ التاريخ في جامعة ماكجيل (في مونتريال- كندا) على المساعي القيصيرية لبوتين، مشيراً بأن دافع بوتين الأول هو السير على خطى الإمبراطورة كاترين العظيمة (توفيت عام 1796) التي وسعت روسيا، وجعلتها واحدة من أقوى دول أوروبا.

في المقابل، تبنت التقديرات الروسية نهجاً مخالفاً للتحليلات الغربية والأمريكية لقرار التدخل في أوكرانيا قائم على تعظيم مصفوفة المصالح الروسية، وإعادة صياغة حدود الدور الروسي بعد توغل حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث انضمت إليه معظم دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن النطاق الشيوعي للاتحاد السوفيتي. وفي عام 2004، أضاف الناتو جمهوريات البلطيق السوفيتية السابقة إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا. وبعد 4 سنوات، أعلن الحلف عن نيته عرض عضويته على أوكرانيا في يوم من الأيام في المستقبل البعيد، وهو ما اعتبره بوتين تهديدًا وجوديًا لروسيا، و"عملاً عدائيًا".