الموازنة العامة هي تقديرات مُستقبلية لإيرادات ومصروفات الدولة التي من خلالها تُمارس سياسات مالية مُتعددة الأهداف، ومع تغير الظروف، فإن عملية إعداد الموازنة وإدارتها المالية دائما ما تحتاج لعملية إعادة هيكلة يتم من خلالها إعادة النظر في توازناتها المالية بصورة تُحقق المُستهدفات من خلال إجراءات لزيادة الإيرادات، وإعادة توجيه المصروفات بالزيادة أو النقصان أو إعادة التخصيص لبنود أكثر أولوية دون الإخلال بالتوازن ونسبة العجز المُستهدفة. وقد فرضت طبيعة المُتغيرات الاقتصادية أن يتجه تصميم الموازنة العامة لمصر 2023/2022 إلى تبني سياسة مالية تتسم بالتوسع المُنضبط المُقترن بإجراءات انكماشية.
يتم إعداد الموازنة العامة 2023/2022 في ظل استمرار المخاطر التي تواجه التجارة الخارجية تأثراً بفيروس كورونا ومخاطر الحرب الأوكرانية التي دفعت نحو نسب تضخم تاريخية في الاقتصاد العالمي في وقت تتزايد فيه مخاطر تدبير التمويل اللازم لاستمرار تنفيذ مُخططات التنمية التي تضررت، من جراء ارتفاع أسعار البترول والقمح والسلع الأساسية، حيث قُدرت الموازنة الحالية 2022/2021 متوسط سعر البترول بين 60 و65 دولارا للبرميل، وهو الذي تجاوز حاجز الـ 100 دولار عند إعداد موازنة 2023/2022، والقمح الذي قُدر بنحو 255 دولارا للطن بينما تجاوز سعرة لأكثر من 1000 دولار، مع ضبابية المشهد المحدد للأسعار في المُستقبل، فضلاً عن انخفاض قيمة الجنية وارتفاع سعر الفائدة بما يحمِّل الموازنة بأعباء استثنائية.
وتأتي توجهات سياسات الإنفاق في موازنة 2023/2022 مُرتكزة على العمل لتعزيز مُخصصات تحسين مُستوى دخول ومعيشة المصريين، ومُساندة النشاط الاقتصادي، خاصة لقطاعات الصناعة والزراعة والأنشطة التصديرية، وتطوير مجالات التنمية البشرية، سيما في قطاعي الصحة والتعليم، وزيادة الاستثمارات الحكومية لقيادة النمو، واستكمال المشروعات القومية، وتشجيع القطاع الخاص. ومع ارتفاع تكلفة تلك النفقات، نرصد تصميما على ضمان الانضباط المالي والسيطرة على الدين باستهداف معدل نمو نحو 5.5% بعد أن كان 5.4% في الموازنة الحالية، وتحقيق عجز كلي 6.1% بعد أن كان 6.7% في الموازنة الحالية، مع التمسك بتحقيق فائض أولى بنحو 1.5% لضمان اتخاذ الدين لمسار تنازلي، وهكذا يُمكن أن نُطلق على تلك الموازنة موازنة التوسع المنضبط المُقترن بإجراءات انكماشية. فمصر لديها توجه استراتيجي بتبني سياسات التوسع وزيادة الإنفاق، ومع صعوبة تحقيق ذلك نجد أن هناك تصميم، على الاتجاه نحو التوسع، ولكن بصورة منضبطة تتركز على التوسع المُنضبط في مُخصصات الاستثمارات الحكومية، والرواتب والحماية الاجتماعية، بينما يتم اتخاذ إجراءات تقشفية لا تؤثر على مُكتسبات المواطن ومُخصصات المُساندة الاجتماعية من خلال تبني سياسات مالية تحقق زيادة الإيرادات دون فرض ضرائب كقاعدة عامة.
ويُمكن أن نرصد مظاهر التوسع المُنضبط، من خلال زيادة الإيرادات بنسبة أكبر من زيادة المصروفات بموازنة 2023/2022، حيث ستتم زيادة المصروفات بنحو 16% من 1.837.723 مليون جنيه بالموازنة الحالية إلى نحو تريليونى و7 مليارات جنيه بالموازنة القادمة، وزيادة الإيرادات بنحو 17% من 1.365.159 مليون جنيه بالموازنة الحالية إلى نحو تريليون و447 مليار جنيه في الموازنة القادمة. على أن يتم التوسع في مُخصصات القطاعات التي تدعم النمو وتراعي اعتبارات العدالة الاجتماعية بوتيرة أقل مما تم في السنوات الماضية، من خلال زيادة مُخصصات الرواتب من 361 مليار جنيه إلى 400، وزيادة مُخصصات الاستثمار الحكومي من 358 مليار جنيه إلى 365، وزيادة مُخصصات منظومة الدعم من 321 مليار جنيه إلى 332، مع التأكيد على الاستمرار في دعم القطاعات الإنتاجية، خاصة أنشطة الصناعة والزراعة والتصدير ودفع جهود الحماية الاجتماعية ورفع مُستوى الخدمات العامة، سيما في قطاعات الصحة والتعليم وغير ذلك من أوجه التوسع اللازم لتحقيق النمو والحد من البطالة، من خلال موازنة البرامج والأداء بمُبادرات مُحددة وبأهداف واضحة يُمكن قياسها لضمان كفاءة وجودة الإنفاق، بينما يتم التقشف في كل ما هو غير مؤثر بصورة كبيرة على استدامة الاقتصاد ليتم إعادة هيكلة للموازنة بصبغة تقشفية في مجال المُخصصات غير المؤثرة بالضرر على الأداء العام أو الشرائح الأولى بالرعاية.
والمؤكد أن زيادة الإيرادات هي ضمانة نجاح توجه التوسع المُنضبط. فالوقع الاقتصادي الحالي بما يتضمنه من زيادة في مُعدلات التضخم وانخفاض للقوة الشرائية لدخول المواطنين يفرض بأن تتم زيادة الإيرادات دون فرض ضرائب جديدة، أو تحميل التزامات حكومية على الشرائح الأقل دخلاً، من خلال إجراءات، أهمها تطوير المنظومة الضريبية، خاصةً ما يتعلق بالتوسع في المُجتمع الضريبي بضم الاقتصاد غير الرسمي، والتوسع في نظام الفاتورة الإلكترونية، وميكنة وتطوير الإجراءات الضريبية، ومكافحة التهرب، وتجديد العمل بقانون إنهاء النزاعات لسرعة الانتهاء منها، وتخفيف العبء على مصلحة الضرائب في إطار العمل على ميكنتها وتطويرها، وتوفير حافز للأشخاص لطلب الفواتير والإيصالات الإلكترونية، مع إلزام مجتمع الأعمال بالفواتير الإلكترونية اعتباراً من عام 2023، فضلاً عن ضم المعاملة الضريبية المبسطة إلى قانون الضرائب على الدخل لتستفيد منها جميع الشركات دون إلزامها بالتسجيل في جهاز المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، واستكمال وتعزيز برنامج الطروحات الحكومية مع دعم وتشجيع الاستثمار في البورصة، وإعفاء صناديق الاستثمار والأوعية التي تستثمر في البورصة من الضريبة واستبدالها بضريبة قطعية على عائد الوثائق، وذلك بهدف تشجيع الاستثمار المؤسسي ودعم الشركات الناشئة وتجنب الازدواج الضريبي وتحقيق العدالة الضريبية، فضلاً عن تطوير المنظومة الجمركية، وتفعيل نظام الإلزام بتطابق السلع المستوردة مع المعايير الدولية، واستكمال تطبيق نظام التسجيل المسبق للشحنات، وكذا الاستمرار في تعظيم العائد من أصول الدولة، من خلال تبني سياسات اقتصادية سليمة، مثل التسعير الذي يغطي تكلفة إتاحة السلع والخدمات ومُدخلات الإنتاج، وإعادة هيكلة الأصول المالية للدولة لتعظيم إيراداتها، وتحفيز التوسع في برامج الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في مجالات الاستثمار وإدارة أصول الدولة، مع إصلاح الهياكل المالية للهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال بما يضمن تحقيق عائدات مُناسبة عن السلع والخدمات التي تُقدمها.
وهكذا، ننتهي إلى أن الظرف العالمي والواقع المحلي يشكل حتمية توجه الموازنة المصرية نحو منحى يتسم بالتوسع المُنضبط الذي يتركز على الحفاظ على قدر مناسب من زيادة المُخصصات في مجالات الأجور، والدعم، والاستثمار الحكومي، بينما يتم خفض وإلغاء المُخصصات التي لا تؤثر بصورة كبيرة على المواطن أو النشاط الاقتصادي، مع اتخاذ كل ما يلزم لزيادة الإيرادات دون تحميل أعباء جديدة مؤثرة على المجتمع، وصولاً لموازنة تُحافظ على مُكتسبات الإصلاح الاقتصادي وتؤهله لمزيد من الانطلاق مع تحسن الظروف العالمية.