في السادس والعشرين من يناير 2011، نشرت صحيفة Jerusalem post الإسرائيلية تغطيات مراسيلها عن الاحتجاجات العنيفة التي اندلعت في عدة مدن مصرية ضد نظام الرئيس مبارك، ووصفتها بأنها الأعنف منذ توليه الحكم عام 1981، وأشارت الصحيفة ذاتها إلي اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بالرئيس الجديد للمخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) الجنرال أفيف كوهافي، والذي ذكر لنتانياهو أنه "لا يوجد ما يشير إلي أن نظام مبارك يواجه تهديدا كبيرا".
ويمكن القول إن الحكومة الإسرائيلية قد ظلت حتي سقوط مبارك في الحادي عشر من فبراير تحاول جاهدة تفادي المجهول الذي يمكن أن تواجهه بالإصرار علي إنقاذ النظام المصري السابق، عبر إرسالها تعليمات إلي عشرة سفراء لها في العواصم المركزية في العالم، مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وكندا، واليابان، والدول الكبري في الاتحاد الأوروبي لإقناع زعماء هذه البلدان بضرورة الوقوف خلف مبارك بقوة، وإلا واجه الغرب ردود فعل مدمرة لمصالحه، خاصة في منطقة الخليج الغنية بالنفط. وسرعان ما أبدت "تل أبيب" غضبها من المواقف الغربية المؤيدة للثورة علي نظام مبارك (هآرتس 31 يناير). وبدورها، فشلت هذه المحاولة لتجد إسرائيل نفسها في مواجهة فشل مزدوج، حيث كان أحد مداخل إدراك قادتها أنهم أصبحوا في أتون شرق أوسط جديد يصعب سبر أغواره ورسم مسار التغيرات التي ستلحق به وتؤثر في الثوابت الاستراتيجية الإسرائيلية التي وضعت في العقود الثلاثة المنصرمة.
إسرائيل في مواجهة شرق أوسط مضطرب:
عكست تحليلات الخبراء والمسئولين الإسرائيليين للأوضاع في المنطقة العربية، عقب سقوط الرئيس مبارك في مصر، واندلاع المواجهات في ليبيا بين القذافي ومعارضيه، وتفاقم الأزمات في اليمن والبحرين وسوريا، أمارات الاضطراب الواضح، ولكنها اتفقت جميعا علي أن الشرق الأوسط القديم قد اهتز، وأن الوضع المترتب علي ذلك سيكون خليطا بين القديم والجديد، وأنه في الأغلب لا يمد إسرائيل بعنصر للاطمئنان فيما يتعلق بمصالحها الكبري المتمثلة في:
1- ضمان بقاء اتفاقات السلام الموقعة بينها وبين كل من مصر والأردن.
2- الحفاظ علي توازن القوي الذي كان قائما في الشرق الأوسط بين معسكر المعتدلين الذي كانت تقوده مصر والسعودية والأردن، ومعسكر المتطرفين بقيادة إيران وسوريا المتحالفتين مع حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة.
3- ضمان التنسيق الأمني الذي كان قائما بين مصر وإسرائيل فيما يتعلق بإدارة المعابر علي الحدود مع غزة، وكذلك مراقبة عمليات التهريب من سيناء داخل القطاع بما تشمله من أسلحة وأفراد مطلوبين أمنيا لدي إسرائيل.
4- مواصلة الضغط علي حركة حماس ومنعها من استغلال العمق المصري سياسيا وأمنيا وشعبيا.
5- عدم التعرض لضغوط أوروبية وأمريكية لاستئناف مسيرة التسوية مع الفلسطينيين بشروط لا تقبلها إسرائيل.
6- استمرار حشد التأييد من جانب معسكر الاعتدال العربي لتشديد الحظر علي إيران لمنعها من الوصول للعتبة النووية.
7- الحفاظ علي العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وتفادي أية أزمات معها قد تنتج عن تزايد إصرار إدارة الرئيس أوباما بعد الثورات العربية علي إحداث اختراق كبير في مسار التسوية مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة.
8- عدم تشكل محاور إقليمية جديدة تعتمد علي تنسيق واسع بين قوي إقليمية كبري، توجه جهدها لممارسة ضغوط سياسية وأمنية عالية علي إسرائيل، وبالتحديد المحور الذي تسعي إليه إيران وتركيا بإضافة مصر إليه مستقبلا.
مصر وتأثيرها في الشرق الأوسط الجديد :
في ظل المحددات السابقة، أولت إسرائيل الرسمية ومراكز البحوث بها اهتماما كبيرا برصد مؤشرات الثبات والتغير في البيئة الشرق أوسطية، ودارت الخلافات بين النخبة هناك حول تقييم تلك المؤشرات ومدي قربها أو ابتعادها عن التغيرات ذات الطبيعة الاستراتيجية أو التكتيكية، وحازت مصر جل الاهتمام، بدءا من سماح المجلس العسكري الحاكم الذي تولي السلطة بعد رحيل مبارك لباخرتين حربيتين إيرانيتين بالمرور في قناة السويس في فبراير 2011، مرورا بتصريحات وزير الخارجية المصري نبيل العربي عن استعداد مصر لاستئناف علاقتها مع إيران، وعودة جهود مصر لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وتوج ذلك بتوقيع اتفاق المصالحة في القاهرة، وعدم دعوة وسائل الإعلام الإسرائيلية للمشاركة في تغطيته، وأخيرا السماح بفتح معبر رفح بين مصر وغزة بشكل دائم دون الالتزام بشروط اتفاقية تشغيل المعابر الموقعة عام 2005، بالإضافة أيضا إلي رصد تصريحات المرشحين المحتملين للرئاسة في مصر وموقف كل منهم من معاهدة السلام، ومدي تعاطف الشعب مع المظاهرات التي طالبت بقطع العلاقات مع إسرائيل، وعدم بيع الغاز المصري لها، أو الجهات التي نظمت العديد من الاحتجاجات أمام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة وحاولت اقتحامها في مايو 2011 .
ثمة إجماع بين النخبة الإسرائيلية علي أن العلاقات المصرية - الإسرائيلية، التي وصفت علي مدي العقود الماضية بأنها "سلام بارد"، سوف تتعرض لمزيد من "البرودة" في السنوات المقبلة، وأن الأزمات العنيفة سوف تلاحقها، وقد يصل إلي موقع الرئاسة أو الأغلبية البرلمانية في مصر حزب يطرح استفتاء شعبيا علي معاهدة السلام، سواء لتعديلها أو إلغائها. غير أن النخبة الإسرائيلية أو أغلبيتها الساحقة لا تتوقع أن تندلع حرب بين مصر وإسرائيل علي المدي المنظور (من 5 إلي 10 سنوات). وتبقي مسألة الأمن في سيناء هي الشاغل الأكبر لإسرائيل، خاصة مع الخوف من تزايد عمليات التسلل منها أو تهريب السلاح عبرها. لأجل ذلك، بادرت الحكومة الإسرائيلية إلي تسريع وتيرة العمل في الجدار الذي كانت قد شرعت في بنائه العام الماضي علي الحدود المشتركة مع مصر. وقال المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية "أودي سني" في مطلع شهر يونيو 2010 إن الحكومة الإسرائيلية قررت الانتهاء من إقامة الجدار (215كم) قبل الموعد المحدد بعام كامل أي عام 2102. علي الجانب الآخر، توجد عدة عناصر تطمئن إسرائيل نسبيا علي أن ثمة قيودا تحول دون تحول مصر في المدي المنظور إلي طرف مناوئ لها، أو أن تؤدي أية أزمات مقبلة معها إلي حالة عداء كامل، وذلك لأسباب عدة، منها:
أولا- إن احتمالات انشغال مصر بشئونها الداخلية ستتزايد تحت ضغط المشكلات الاقتصادية - الاجتماعية، إلي جانب محاولات استعادة الأمن في الداخل، ومعالجة العلاقة بين المؤسسة العسكرية ونظام الحكم الذي سيقوم في المستقبل، وسيؤدي ذلك حتما لمحاولة التقليل من الاشتباك في علاقات صراعية في الخارج.
ثانيا- ليس من المرجح أن تنجح محاولات تحسين العلاقات المصرية - الإيرانية لأسباب عدة، منها الاختلاف المذهبي بينهما، وثقافة المؤسسات الأمنية التي لن تتأثر بشكل سريع -بحكم تكوينها وطبيعة عملها- بالتغيرات الراهنة، كما أن مصر لن تغامر بخسارة دول الخليج العربي لأسباب عميقة اقتصادية وثقافية يصعب تجاهلها. وقد بينت تصريحات المسئولين المصريين ذلك بوضوح عقب شعور دول الخليج بالقلق من إبداء وزير الخارجية المصري، نبيل العربي، رغبة مصر في تحسين علاقتها مع إيران، حيث جاء الرد سريعا بأن مصر تري أمن الخليج خطا أحمر. كذلك من الصعب أن تغامر المؤسسة العسكرية المصرية الآن، أو حتي في المدي المنظور، بعلاقتها المتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل اعتمادها علي واردات السلاح والمعونات العسكرية الأمريكية. وأخيرا، فإن مصر لا تنظر بترحاب لجهود إيران للحصول علي سلاح نووي، ولن تساعد في تخفيف الضغوط الدولية عليها في هذا الشأن، لكونها تتبني سياسة متماسكة تنهض علي إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وليس من مصلحة مصر في الأمد المنظور أو البعيد الدخول في سباق تسلح نووي في المنطقة، أو السماح لإيران بحيازة سلاح نووي يؤثر في أمن واستقرار المنطقة بشكل عام، ويضع مصر بين شقي الرحي النووي الإسرائيلي -الإيراني.
ثالثا- قد يمثل الظهور القوي لحركة الإخوان المسلمين علي المسرح السياسي المصري في الوقت الراهن نوعا من القلق لإسرائيل، سواء لجهة أيديولوجيتها المعادية لليهود، أو لمدي استعدادها للتغاضي عن الفروق المذهبية بينها وبين ملالي إيران، وأيضا لكون حركة حماس جزءا من حركة الإخوان المسلمين العالمية. غير أن ذلك يرتبط بمدي قدرة الإخوان علي الوصول إلي السلطة في مصر، ومدي استعدادهم للدخول في تحالفات قد تورط مصر في مواجهات صعبة مع الغرب وإسرائيل. ويري الكثير من الخبراء والباحثين الإسرائيليين أن الإخوان المسلمين في مصر سيكونون في أحسن الأحوال جزءا من سلطة متعددة الرءوس لا تسمح لهم بإحداث تغيرات حادة في السياسة الخارجية المصرية، وفي أسوئها (بالنسبة للإخوان بالطبع) ألا يحصلوا علي نصيب معتبر من السلطة، فيبقوا قوة هامشية بلا تأثير في الخيارات الاستراتيجية لمصر، وقد تتدهور قوتهم سريعا إذا ما تمكنت مصر من صياغة نظام ديمقراطي حداثي ناجح أو قادر علي معالجة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية الصعبة.
رابعا- إن إسهام مصر في المصالحة الفلسطينية لا يشكل خروجا علي النهج الذي اتبعه نظام مبارك السابق، ومن ثم لا يمثل هذا الإسهام قلقا بالنسبة لإسرائيل، خاصة أن طرفي المصالحة الفلسطينية يعانيان فقدان الثقة فيما بينهما بما قد يؤدي في النهاية إلي انهيارها (أي المصالحة) وعودة الاقتتال بين حماس وفتح. كما لم تنظر إسرائيل لمسألة فتح معبر رفح بشكل دائم من جانب مصر علي أنه تحول خطير في السياسة الخارجية المصرية التي كانت تسعي إبان حكم مبارك لتخفيف القيود علي الفلسطينيين في غزة، حتي لا تستغل سياسة الحصار في إحراج النظام المصري أمام شعبه، وأن الدواعي الأمنية المصرية الصرفة وحدها كفيلة بترشيد عملية إدارة المعبر، دون اضطرار من جانب إسرائيل للتدخل فيها لدواعي أمنها الخاص. فمصر في النهاية دولة ذات سيادة، ولن تسمح بأية سياسات تؤثر في سيادتها وأمنها الخاص من لدن أي طرف.
ورغم ذلك، بدت النخبة الإسرائيلية مهتمة أيضا بالتأثيرات المتبادلة بين ثورة مصر والثورات العربية في سوريا واليمن وليبيا، وحاولت وضع تصور للنتائج التي يمكن أن تترتب علي هذا التأثير في كل من تركيا وإيران الطموحتين لإقامة نظام إقليمي جديد يقصي إسرائيل ويهمشها، إن لم يسع لتصفيتها نهائيا، كما يصرح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد دائما.
إسرائيل والثورات العربية :
نظرت إسرائيل إلي ما يحدث في تونس وليبيا واليمن بشكل مختلف عما يحدث في سوريا، فالدول الثلاث الأولي لا تحمل فيها الأحداث مخاطر مباشرة علي المصالح الإسرائيلية، كما أن تأثير هذه الدول في تشكيل الشرق الأوسط مستقبلا يبقي محدودا. أما تطورات الأوضاع في سوريا، فكان ينبغي لها أن تجذب اهتمام إسرائيل، لكونها جبهة قتال معها، ولكونها جزءا من المحور الراديكالي المعادي لإسرائيل في المنطقة، والمكون من إيران وحزب الله وحركة حماس.
وتعتقد معظم النخبة الإسرائيلية أن الولايات المتحدة والقوي الأوروبية الكبري قادرة علي ضبط الأوضاع في البلدان الثلاثة المذكورة، بحيث يمكن لإسرائيل أن تطمئن إلي أن أية مخاطر غير مباشرة قد تأتي من هذه البلدان ستتولي الدول الغربية، بما لها من مصالح حيوية فيها، مواجهتها دون أن تكلف إسرائيل عبء المشاركة في هذه السياسات. غير أن ما يحدث في سوريا قد تكون له تداعياته الخطيرة علي أمن إسرائيل، خاصة أن عمليات اندفاع آلاف السوريين واللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في سوريا نحو خطوط وقف إطلاق النار علي الجبهة السورية - الإسرائيلية - والتي بدأت في منتصف مايو 2011، وتكررت في الرابع من يونيو 2011، علي خلفية إحياء ذكري النكبة الفلسطينية وحرب يونيو 1967 - أصبحت بمثابة تهديد خطير للأمن الإسرائيلي، بعد أن تمكن عدد من المتظاهرين من الوصول إلي داخل قري هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل، رافعين شعار "تطبيق حق العودة للفلسطينيين دون انتظار الحلول الرسمية".
وتنقسم النخبة الإسرائيلية حول الموقف الأكثر ملاءمة لإسرائيل، هل سيكون بسقوط نظام الأسد أم بقائه، حيث يعتقد البعض أنه رغم كون نظام الأسد يدعم حزب الله وحركة حماس، فإنه حافظ علي هدوء الحدود بين البلدين، ولم يحاول استعادة الجولان المحتل منذ عام 1967 بالقوة. كما أن بديل الأسد لن يكون سوي الإخوان المسلمين الأكثر راديكالية والأشد عداء لإسرائيل، وهو التيار الذي يعبر عنه نائب وزير الدفاع السابق "إفرايم سينيه". وفي المقابل، هناك من يعتقدون، مثل رئيس الموساد السابق "مئير داجان"، أن مصلحة إسرائيل تكمن في سقوط الأسد ونظامه لقطع طريق الإمدادت عن حزب الله، وكسر المحور الإيراني - السوري. فيما يري "ألون لئيل"، مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية السابق وأحد أهم الباحثين في الشئون العربية، أنه بغض النظر عن النتائج التي قد تسفر عنها الثورات العربية، فإن إسرائيل ستواجه عزلة شديدة في المنطقة في السنوات المقبلة، بسبب أن الحكومات الجديدة المنتظر تشكيلها في مصر وسوريا والأردن لن تجرؤ علي إقامة علاقات صداقة قوية مع إسرائيل، بغض النظر عن ميولها الأيديولوجية. والتقدير النهائي الإسرائيلي أن الوضع في سوريا لا يمكن التنبؤ بمساراته، وبالتالي لا يمكن التيقن من النتائج المترتبة علي كل من السيناريوهات الثلاثة التالية:
1- تمكن الأسد من قمع الانتفاضة الشعبية والبقاء في السلطة.
2- الإطاحة بالأسد دون تغيير النظام (انقلاب قصر).
3- رحيل الأسد والنظام معا وصعود بديل إسلامي - سني.
وتكمن المشكلة الأكبر في أن كل سيناريو من السيناريوهات الثلاثة يحمل فرصا ومخاطر بالنسبة لإسرائيل، سواء فيما يتعلق بأمن حدودها مع سوريا، أو التأثيرات الإقليمية المترتبة عليها. ولكن تبقي القضية الأكثر إلحاحا هي قضية المحاور الإقليمية المحتمل تشكلها لاحقا.
إسرائيل واحتمالات تشكل محاور إقليمية جديدة :
شغلت قضية إعادة رسم المحاور الإقليمية في الشرق الأوسط صانع القرار الإسرائيلي قبل اندلاع الثورات العربية بفترة طويلة، وبالتحديد منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وصعود حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا في نوفمبر عام 2002 . حيث أدي الحدث الأول إلي زيادة النفوذ الإيراني في العراق، وأدي التطور الثاني تدريجيا إلي تراجع العلاقات الإسرائيلية - التركية ودخولها في أزمات عنيفة، بعد أن كانت توصف -في إسرائيل - في بعض الفترات بأنها علاقات استراتيجية. ثم جاء عجز إسرائيل عن إقناع الولايات المتحدة بضرورة توجيه ضربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني، ثم اندلاع الثورات العربية أخيرا، ليطرح أسئلة كبري علي إسرائيل فيما يتعلق بأنماط التحول في التحالفات الإقليمية وتأثيرها في أمن ومكانة إسرائيل في الشرق الأوسط. وترصد التقديرات الإسرائيلية التغيرات التالية، وتحاول سبر أغوارها لمعرفة نوع المحاور الإقليمية قيد التشكل، ومدي خطورة كل منها علي أمنها ووجودها:
1- غرق الولايات المتحدة في مشاكلها الداخلية وتراجع تأثيرها في الشرق الأوسط.
2- سعي تركيا لفك روابطها مع الغرب، وتوسيع نطاق تأثيرها في الخليج وسوريا، مع مقاومة فكرة عزل إيران عن الشرق الأوسط.
فعلي الجانب الأول، لم تبذل الولايات المتحدة الأمريكية أي جهد من وجهة نظر إسرائيل لحماية نظام مبارك، وهو أمر رأت فيه تل أبيب مؤشرا علي عجز واشنطن عن الوقوف في مواجهة تغيرات قد تأتي في صالح محور ما يسمي بالمقاومة، الذي تقوده إيران، ويضم سوريا وحزب الله وحركة حماس، وأن تأثيرات ذلك علي المدي البعيد ستتبدي في مزيد من تضعضع قوة معسكر الاعتدال، خاصة إذا ما عجزت السعودية عن درء مخاطر الطموحات الإيرانية في البحرين واليمن، واضطرت إلي الرهان علي تركيا كعنصر توازن، بعد خروج مصر مؤقتا من معسكر الاعتدال حسب بعض الشواهد التي ذكرناها سابقا (وفقا للرؤية الإسرائيلية). بطبيعة الحال، سينعكس ضعف مكانة وتأثير الولايات المتحدة في التفاعلات الجارية في الشرق الأوسط سلبا علي المصالح الإسرائيلية، ويزيد من الأعباء والتكاليف الدفاعية الواقعة عليها.
علي الجانب الثاني، لا تخفي إسرائيل قلقها من التحولات الحادة في السياسة الخارجية التركية، والتي تسعي لتهميش إسرائيل في المنطقة، وإقناع الغرب بقدرتها علي تشكيل محور إقليمي بقيادتها لا يؤدي بالضرورة إلي الإضرار بالمصالح الاستراتيجية له، ولا يعتمد علي إسرائيل أيضا. وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قد صرح - بعد زيارة قام بها لطهران في ديسمبر عام 2009 - قائلا "إن التعاون التركي - الإيراني قادر علي أن يملأ الفراغ في المنطقة، ويظل هذا الجهد غير كاف، ما لم تنضم مصر إليه لتصبح الضلع الثالث في مثلث القوة في الشرق الأوسط". ووفقا لبعض السيناريوهات الإسرائيلية عن توجهات السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير، قد يكون ما قاله أردوغان حلما ليس بعيد المنال، وعندها تجد إسرائيل نفسها ليس في حالة عزلة فقط، بل في مواجهة تهديد امني ووجودي شديد.
غير أن ما يقلص هذه المخاوف أن الثورات العربية لم تفرز حتي الآن نتائج واضحة يمكن البناء عليها، كما أن كافة المحاور الإقليمية المحتمل التفكير في تكوينها ستعاني ضعفا وتوترات، نتيجة عدم التجانس الثقافي والمذهبي، وحتي العرقي والقومي بين أطرافها. كما أن ما يحدث في سوريا الآن لا يقود بالضرورة إلي تقوية المعسكر الذي تقوده إيران، بل قد يؤدي إلي العكس. وفي كل الأحوال، تري إسرائيل أن الموقف الوحيد الذي يمكن أن تتحلي به الآن، وفي الأمد المنظور في ظل عدم قدرتها علي التأثير في مجريات الأحداث الراهنة، هو حراسة حدودها بقوتها الذاتية، ثم العمل علي ضرب محاولات تشكيل محاور إقليمية ضارة بتحركات معاكسة علي تخوم تلك المحاور الافتراضية. وفي هذا الصدد، أفصحت إسرائيل عن استعدادها لاستخدام أقصي درجات العنف ضد محاولات انتهاك حدودها، كما ترددت أنباء عن تكليفها للجيش الإسرائيلي بحراسة حدودها مع مصر بدلا من حرس الحدود التقليديين. وفي الجانب الآخر، تحاول الضغط علي تركيا وإيران لإفساد تحركاتهما الهادفة لبناء محاور إقليمية تحت قيادتيهما، بالعمل علي تقوية العلاقات الإسرائيلية مع اليونان، وبلغاريا، وقبرص، وأذربيجان، أو بدعم التحركات الانفصالية للأكراد في تركيا وإيران وسوريا. وربما تمتد محاولات إسرائيل للتضييق علي فرص إقامة محاور معادية لها بواسطة تركيا وإيران إلي ضرب طموحات البلدين لتوسيع أنشطتهما التجارية في إفريقيا أيضا.
برج المراقبة
لدي اليمين، بشقيه العلماني والديني في إسرائيل، قناعة تاريخية منذ حرب السويس عام 1956 بأن الأزمات الدولية، التي تنشأ عن صراع إقليمي في الشرق الأوسط، لابد أن تجبرها علي الانكفاء علي نفسها بدون إرادة منها، وهي متلازمة syndrome تتماهي مع أحد مكونات الشخصية اليهودية تاريخيا، والقائمة علي أن العالم غالبا ما ينقسم إلي معسكرين: اليهود والجوئيم (الأغيار). ويكون الانقسام واضحا، ولا يوجد أمام اليهود في هذا الوضع سوي مراقبة ما يجري والاستعداد لما هو أسوأ: خيار "الماتسادا" الفلكلوري الانتحاري، أو الخيار شمشون التدميري الحداثي. وما بين الخيارين، ليس هناك سوي البقاء علي الحدود ببندقية للدفاع وببرج للمراقبة. إنها الرموز الأقوي لحركة الاستيطان التي تأسست عليها الدولة.
أزمة السويس 1956
جرت اتصالات سرية بين مصر وإسرائيل في فترات متقطعة بين عام 1949 و1954، وكان الهدف منها تبين مدي إمكانية توقيع مصر اتفاق تسوية نهائية مع إسرائيل ليحل محل اتفاق الهدنة الموقع بين البلدين عام 1949. وأدرك الإسرائيليون أن النظام الذي يقوده الضباط الأحرار في مصر آنذاك لا يزال يتمسك بما كان يطرحه سلفه بضرورة أن تكون هذه التسوية علي أساس الحدود الواردة في قرار التقسيم (القرار 181 لعام 1947)، وهي الحدود التي لا تحقق الأمن الإسرائيلي من ناحية، كما تؤدي إلي تطبيق القرار 194 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلي أراضيهم من ناحية أخري. أيضا، خشيت إسرائيل من أن تقبل مصر الانضمام إلي الحلف الدفاعي الذي كانت بريطانيا والولايات المتحدة تسعيان لإقامته في الشرق الأوسط، استنادا إلي إمكانية أن تقوم مصر فيه بدور مركزي لحشد تأييد الدول العربية للانضمام لهذا الحلف، مما يشكل تهميشا لإسرائيل، ويضع عليها ضغوطا دولية كبري للعودة لحدود قرار التقسيم. لهذه الأسباب، سعت إسرائيل لإيقاع الخلاف بين مصر والغرب. وكانت عملية لافون عام 1954، ومن بعدها غارة غزة في فبراير عام 1955 إحدي الوسائل التي اعتمدتها إسرائيل لبذر الشكوك بين مصر والغرب من ناحية،ودفع مصر دفعا نحو المعسكر الشرقي والمحور الراديكالي العربي من ناحية أخري. وأتت مشاركة إسرائيل في حملة السويس مع بريطانيا وفرنسا عام 1956 تتويجا لهذا التوجه، ولكنها انتهت بالدرس الذي وعته إسرائيل جيدا بعد إجبارها -نتيجة الضغوط الأمريكية- علي الانسحاب من سيناء وغزة، وهو أن الأزمات الدولية التي تنجم عن صراع في الشرق الأوسط لا تمنحها الفرصة في تحقيق أهداف مستقلة عن الترتيبات التي تجريها القوي العظمي في المنطقة. كما أدركت إسرائيل أيضا أهمية إقامة منظومة ردع عسكرية مستقلة لحماية نفسها، والتمكن في الوقت ذاته من مقاومة أية ترتيبات إقليمية ليست في مصلحتها، فسعت لامتلاك الخيار النووي ونجحت في ذلك.
حرب الخليج 1991
مع احتلال العراق للكويت في أغسطس 1990، وقيام الولايات المتحدة بتشكيل تحالف دولي لإخراج صدام حسين من الكويت، يرتكز علي دور محوري لمصر والسعودية، رأت واشنطن إبعاد إسرائيل عن هذا التحالف، حتي لا يعطل إشراكها فيه جهود حشد الدول العربية والإسلامية إلي جانبه. ورغم تهديدات صدام حسين بقصف إسرائيل، وقناعتها بشرعية أن تكون جزءا من التحالف، في ظل التهديدات العراقية لها، أجبرت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إسرائيل علي عدم الرد علي الضربات الصاروخية التي تلقتها من العراق. وتعمقت لدي القادة الإسرائيليين في حينها قناعتهم بأن الأزمات الإقليمية التي تدفع بتدخلات دولية واسعة لا تمنح إسرائيل الفرصة لاستغلال مكانتها الاستراتيجية في الغرب، كما أنها تحيد سلاح الردع النووي الذي ظنت أنه قادر علي حمايتها من الضغوط الدولية. ومن هنا، بقي الإسرائيليون علي يقينهم بأن الوقوف في أعلي برج المراقبة والإمساك بالبندقية هما خيارهم الوحيد في الأزمات العاصفة المشتبكة إقليميا ودوليا، علي الأقل حتي تنجلي الأحداث، وتبدأ المساومات.