أثار بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا الذي أعقب الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونتيسك ولوجانسك في منطقة دونباس الأوكرانية، حالة من التوتر والارتباك والاستنكار والغضب الدولي من الهجوم الروسي غير المبرر علي أوكرانيا، وسط تأكيدات من الرئيس الروسي بوتين أن تحركات روسيا إنما هي للدفاع عن النفس، محذراً أنه في حالة حدوث أي تدخل أجنبي فإن روسيا سترد علي الفور، وهو ما يطرح التساؤل حول السيناريوهات المحتملة للتدخل الروسي في أوكرانيا، وما العقوبات الغربية المحتملة علي روسيا؟
أدي انعدام الثقة المتبادل بين روسيا والدول الغربية وصراع المصالح إلي تصاعد الأزمة بين روسيا وأوكرانيا في ظل عدم الاستجابة الغربية للمطالب الأمنية الروسية التي تتمحور حول وضع ضمانات أمنية مكتوبة، لضمان أمنها القومي الراهن والمستقبلي؛ بعدم توسع حلف الناتو شرقاً وسحب ما يسمي بصيغة بوخاريست التي تنص علي أن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الناتو، وضمان عدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو للحيلولة دون امتلاك الناتو لقواعد عسكرية وقوات في أوكرانيا علي الحدود الروسية، مما يهدد الأمن القومي الروسي، وتخلي حلف الناتو عن أي نشاط عسكري أو تدريبات في أوكرانيا أو الأراضي التي كانت تدخل سابقاً ضمن الاتحاد السوفيتي، وعدم نشر صواريخ متوسطة أو قصيرة المدي تهدد الأمن القومي الروسي، مما أسفر عن المزيد من الاستفزاز للجانب الروسي وتصاعد مخاوفه، خاصة مع تصاعد التوتر الدائر في منطقة دونباس واحتمالية التدخل العسكري الأوكراني في الإقليم الانفصالي "دونباس"، هذا إلي جانب اتهامات أوكرانيا والغرب لروسيا بدعم الانفصاليين في إقليم دونباس، وإدانة ضم روسيا لشبة جزيرة القرم منذ عام 2014.
هذا الأمر أسفر عن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الساعات الأولي من صباح يوم 24 فبراير عن عملية عسكرية خاصة في دونباس الأوكرانية، قائلاً "إن روسيا لا يمكنها القبول بالتهديدات الآتية من أوكرانيا، محذراً من أنه في حالة حدوث تدخل أجنبي، فإن روسيا سترد علي الفور"، وأضاف بوتين "محاولات روسيا الاتفاق على عدم توسيع الناتو باءت بالفشل والوضع بشأن توسع الحلف أصبح أكثر خطورة ولم يعد بإمكاننا الصمت.. ولا يمكن لروسيا أن تشعر بالأمان، وتستمر في الوجود والتطور في ظل تهديد دائم من أوكرانيا"، وهو ما أصاب العالم بحالة من الارتباك في ظل تضارب التقارير ما بين أن تحركات روسيا هي حرب علي نطاق واسع أو أنها حرب خاطفة لروسيا في أوكرانيا لإرسال رسالة قوة للعالم وتكبيل تحركات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومع ذلك تظل التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا حتي الآن محدودة بهدف السيطرة علي منطقة إقليم دونباس لتعزيز الأرباح في منطقة الدونباس التي دخلتها القوات الروسية منذ يومين، هذا إلي جانب استهداف البنية التحتية العسكرية الأوكرانية لإضعاف وتحييد قوات الدفاع الجوي والقوات الجوية الأوكرانية وعناصر القيادة والسيطرة العسكرية بمراكز القيادة الأوكرانية، لإفقاد أوكرانيا السيطرة علي قواتها المسلحة.
وأمام هذا المشهد المتضارب خلال الساعات الأولي من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واتباع روسيا لسياسة أكثر واقعية، واستخدام القوة والتصعيد العسكري للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي "الناتو" للاستجابة للهواجس الأمنية الروسية، خاصة فيما يتعلق بوقف تمدد الحلف باتجاه الحدود الروسية، أو منع أوكرانيا من الانضمام إليه، خاصة بعد وقوع الغرب في خطأ استراتيجي بتجاهل المطالب الأمنية الروسية، أمام كل ذلك نددت الأمم المتحدة بالغزو الروسي لأوكرانيا لانتهاكه القانون الدولي، وناشدت الرئيس الروسي بوقف الحرب، لأن عواقبها مدمرة لأوكرانيا والاقتصاد العالمي، كما جاء الرد البريطاني بخطاب شديد اللهجة، حيث وصف رئيس الوزراء البريطاني الرئيس الروسي "بالدكتاتور" في مخالفة واضحة للأعراف الدبلوماسية، كما أعلن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ومجموعة السبع عزمها علي فرض عقوبات اقتصادية شديدة ومؤلمة ضد روسيا بسبب تصعيدها وغزوها لأوكرانيا.
في هذا الإطار، فإن العقوبات الاقتصادية المتوقعة، من أبرزها: "قطع وصول لروسيا لنظام “سويفت” للتحويلات؛ وهو أمر قد يُحدث تأثيراً سلبياً ويشل الاقتصاد الروسي، خاصةً في ظل تسوية مُعظم المعاملات التجارية ومبيعات النفط والغاز الروسية من خلال هذا النظام، بالإضافة إلي منع وصول روسيا لأسواق الدين والأسهم، مما سيؤدي لمزيد من تراجع الروبل الروسي وارتفاع تكلفة الاقتراض المحلي، مما يهدد الاستقرار المالي والنقدي الروسي، فضلاً عن احتمالية وضع عقوبات علي الرئيس الروسي وفريقه، منع دخول المسئولين الروس للأراضي الأمريكية والأوروبية، وإدراج البنوك الروسية بالقائمة الأمريكية السوداء، ومنع تصدير أو استيراد أي سلع من روسيا، وحرمان شركات النفط والغاز الروسية من التعامل مع دول الناتو، وحرمان روسيا من التكنولوجيا الأمريكية، ومحاصرة الروبل الروسي، وفرض عقوبات ضد قطاعات الصناعة والدفاع والطيران الروسي، وغيرها".
وتجدر الإشارة هنا إلي أن العقوبات الاقتصادية علي روسيا هي سلاح ذو حدين، حيث ستؤدي لتداعيات سلبية علي الاقتصاد العالمي، وستنعكس سلباً أيضاً علي مئات من الشركات الأمريكية والأوروبية العاملة داخل روسيا، وكل من أمريكا وأوروبا وكذلك روسيا تدرك الآثار والأضرار السلبية التي قد تنشأ عن إجراءات فرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا. ولكن تظل العقوبات الاقتصادية هي الحل المتاح حالياً لردع روسيا، لأن حلف الناتو لن يتدخل عسكرياً في هذه الحرب، وسيقتصر دوره في تقديم الدعم الاقتصادي والسياسي والدعم بالمعدات العسكرية لأوكرانيا، وتعزيز وجوده العسكري في دول شرق أوروبا "بولندا ورومانيا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا".
في هذا الإطار، نلاحظ أنه علي الرغم من التلويح بفرض عقوبات اقتصادية صارمة ومؤلمة علي روسيا، توضح تصريحات للخارجية الروسية علي احتمالية فرض هذه العقوبات، رؤية روسيا بأنها "قادرة علي تقليص الأضرار الناجمة من العقوبات الخارجية، وأن هذه العقوبات لن تؤثر علي عزم روسيا الدفاع عن مصالحها بحزم، وأن هذه العقوبات أدوات تقليدية غير فعالة وغير بناءة من وجهة نظر المصالح الأمريكية نفسها". كما أشار رئيس مجلس الدوما الروسي إلي أن "نزع السلاح من أوكرانيا هو السبيل الوحيد لتفادي الحرب في أوروبا"، وهو ما يوضح أن روسيا تسعى لإثبات نفسها بوصفها لاعباً جيوسياسياً وجيواستراتيجياً في منطقة، وأنها قوة تعديلة في النظام الدولي وان النظام الحالي بات نظام متعدد الأقطاب لا مجال فيه لسيطرة واحدة لقوي عظمي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وأن عصر القطبية الأحادية قد انتهي، وأن تهديد المصالح الروسية بشكل فعلي، سيقابله استخدام روسيا للقوة لإجهاض المحاولات، بما فيها غزو أوكرانيا والتلويح باستخدام القوة تجاه أي تدخل أجنبي في الأزمة.
وعليه، تجدر الإشارة هنا إلي أن روسيا أصبحت أكثر قدرة علي التعامل مع العقوبات الاقتصادية، وكانت تتوقع فرض عقوبات صارمة عليها، ولعل هذا مما دفع روسيا لتوطيد علاقاتها أكثر مع الصين والتشاور مع الصين لتوقيع عدد من الاتفاقيات، من بينها اتفاقية تتعلق بالغاز ودراسة إنشاء بنية تحتية مالية تهدف لتأمين التعاون الروسي الصيني من ضغوط العقوبات المفروضة من قبل دول ثالثة، ومع ذلك لازالت الصين تقف علي الحياد من هذه الأزمة لكن احتمالية تعاونها مع روسيا قد يعمل علي إضعاف الموقف الأمريكي والأوروبي عالمياً، في ظل احتدام التنافس الأمريكي الصيني، مما قد يسفر عن تغير متسارع في بنية النظام الدولي الحالي.
سيناريوهات الغزو الروسي لأوكرانيا:
احتلال منطقة الدونباس بالكامل؛ وتوسيع هذه المنطقة للوصول إلي شبة جزيرة القرم، وإنشاء منطقة عازلة حولها لإحكام السيطرة علي هذه المنطقة، وفي هذه الحالة ربما سيترك الرئيس الروسي حرية الخيار لمواطنين هذه المنطقة للانضمام إلي روسيا أو إعلان الاستقلال، مما يعني تقسيم أوكرانيا، وربما تذهب لأبعد من ذلك في حال إسقاط حكومة نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بتغيير النظام بنظام موالي لروسيا.
التوغل داخل الأراضي الأوكرانية، والاجتياح الروسي الكامل لأوكرانيا، عبر التحرك من الجهة الشمالية بالقوات الروسية الموجوده في بيلاروسيا وتطويق العاصمة الأوكرانية كييف في غضون ساعات قليلة، والتوسع بشكل أكبر علي طول ساحل البحر الأسود علي طول طريق أوديسا في جنوب أوكرانيا ونشر الأسطول البحري الروسي، وإغلاق البحر الأسود والسيطرة علي كل الساحل، وعرقلة مرور السفن في بحر آزوف وعزل أوكرانيا عن البحر الأسود؛ هذا إلي جانب تعطيل الحياة العامة في أوكرانيا عبر هجمات سيبرانية، وربما تصعيد الأمر بوقوع هجمات سيبرانية أخري قد تطول دول أوروبية وأمريكا، وهنا علي الرغم من أن التفاوت العسكري بين روسيا وأوكرانيا وافتقاد القوات الأوكرانية إلى القدرات العسكرية والجاهزية القتالية المطلوبة لمواجهة الجيش الروسي منفردة، خاصة في ظل التفوق النوعي للجيش الروسي من حيث عدد القوات وحجم التسليح والتطور الهائل للسلاح الروسي، إلا أن غزو روسيا لأوكرانيا لن يكون سهلاً، خاصة مع تصاعد المخاوف من وقوع حرب استنزاف بالمدن الأوكرانية لمواجهة الغزو الروسي قد تُسقط الكثير من الضحايا المدنيين، مما يقلل شعبية روسيا في الداخل الأوكراني ويعثِّر هدف روسيا بوجود نظام جديد في أوكرانيا موالٍ لها.
وتطرح هذه التطورات التساؤلات حول مدي فاعلية الخيار الدبلوماسي حالياً لنزع فتيل الأزمة، ففي ظل تأكيد روسيا موقفها باستخدام القوة، وتنديد المجتمع الدولي بالتحركات العسكرية الروسية أصاب الخيار الدبلوماسي حالة من التجمد، وعكس تصعيد الموقف علي هذا النحو إخفاق الدبلوماسية الأمريكية والغربية في حلحة الأزمة واحتواء الغضب الروسي، وهو ما قد ينذر بالمزيد من الضعف لحلف الناتو الذي أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ عامين إلى أنه ميت دماغياً، كما أنه سيعكس ضعف الحشد والتحالف الغربي بقيادة أمريكا الذي يسعي الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ توليه للحكم إلي تقويته في مواجهة الصين، ومع ذلك تظل احتمالية الوصول لتهدئة متاحة، ولكنها تحتاج معها للسعي الجاد لوقف أوراق الضغط بين الطرفين الروسي والغربي، وتحقيق التوازن والسيطرة علي مسارات الأزمة للوصول لاتفاق يحقق مصالح كافة الأطراف.
ختاماً، يشهد العالم الآن أزمة هي الأعمق في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وستكون لها تداعيات سلبية علي الأمن الأوروبي والعالمي، وكذلك علي الاقتصاد الدولي والأمن الغذائي العالمي الذي لم يتعاف بعد من تداعيات وباء كوفيد-19، كما أنها تنذر بتغيرات متسارعة في بنية النظام الدولي، خاصةً أن الرئيس الروسي بوتين لن يتوقف دون تحقيق مطالبه لرؤيته أن التحركات الروسية تهدف لحماية الأمن القومي الروسي وامن مواطنيها، وأن كلاً من أوكرانيا وأمريكا والناتو لم تنظر لمخاوف روسيا الأمنية بعين الاعتبار، ولم يقوموا باتخاذ أي تحرك ملموس في هذا الإطار.