بوتيرة متصاعدة، تحركت روسيا عسكرياً فجر الخميس صوب الأراضي الأوكرانية بهدف حماية مصالحها، وأعلن الجيش الروسي أنه دمر أنظمة الدفاع المضادة للطائرات وجعل القواعد الجوية الأوكرانية "خارج الخدمة"، وتم ذلك تحت مظلة طلب تقدم به قادة إقليم دونباس، الواقع شرق الأراضي الأوكرانية، والذي أعلنت موسكو قبل أيام الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونتسك ولوجانسك، لحماية سكان الإقليم .. فلماذا أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تلك الخطوة؟
يدشن الهجوم الروسي مرحلة جديدة من الصراع مع الغرب، وينبش في الذاكرة فيقلب أوجاع لا تبرأ، مما يحتاج إلى شرح وتذكير بمحطات تاريخية فارقة تلقي بظلالها على الصراع الروسي-الغربي المتجدد حتى تتضح أمام أعين العالم الحقيقة كاملة عن الحرب في أوكرانيا وأسباب المضي فيها دون تراجع.
المجال الحيوي للنفوذ الروسي:
العلاقة بين روسيا والغرب، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، تشير كل مظاهرها إلى أنها كانت وستظل سيئة كما كما هو الحال خلال الحرب الباردة. وجاءت الضربات الروسية على أوكرانيا لتعود بالطرفين إلى مربع المواجهات العسكرية، وتعيد إحياء فكرة ظلت باقية منذ مؤتمر يالطا عام 1945: الصراع يتجدد كلما تعمد الغرب عدم احترام مجال النفوذ الروسي في وسط وشرق أوروبا!
منذ وصوله إلى السلطة في عام 2000 ، عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل منهجي على وضع خطة لتدارك ما يعتبره تفككًا مهينًا للاتحاد السوفيتي قبل 30 عامًا. ومن الواضح أن الهدف الشامل للرئيس بوتين مازال مستمرا، وهو مراجعة نتائج الحرب الباردة التي أعطت للناتو موطىء قدم في مناطق النفوذ الروسية التقليدية بإقامة قواعد عسكرية ونشر الصواريخ، حتى باتت تهدد أمن الدب الروسي الذي قرر إيقاف هذا التمدد، حتى لو كان ذلك على حساب تعميق حرب جديدة.
ويسعى بوتين إلى دفع منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) نحو التراجع عن المضي في تمدد نظام أمني أوروبي، أصبح يهدد مصالح روسيا الحيوية، وهو نظام حلف الـناتو الذي تم إنشاؤه عندما كانت بلاده ضعيفة وهشة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. كما يسعى بوتين أيضا إلى إعادة إنشاء المنطقة الجيو-سياسية العازلة التي يشعر الحكام الروس على مر القرون، ومنذ روسيا القيصرية ثم روسيا البلشفية وحتى الآن، أنهم بحاجة إليها. وقد سبق لبوتين أن أشار إلى أنه مستعد للحوار من أجل تحقيق ذلك الهدف بالوسائل الدبلوماسية، إذا ما تمت الاستجابة للمطالب الروسية التي سلمها بوتين إلى نظيره الأمريكي قبل شهر من الآن. ولكنه جاهز أيضًا لاستخدام القوة إذا تم رفض مطالبه! ولم ينتظر بوتين أكثر، فشن هجومه لأن الحوار والمفاوضات لم تسفر عن تراجع غربي عن خططه بتركيز قواعد عسكرية في الجوار الروسي، كما لم يعد هناك فرصة للتفاوض على اتفاقية مينسك التي تطالب روسيا منذ ثماني سنوات بتنفيذها، بل أيقن بوتين أن المماطلة هي الرد الأمريكي الوحيد تجاه المطالب الروسية.
المطالب الروسية:
تتلخص المطالب الروسية في وقف تمدد الناتو إلى الحدود الشرقية لأوروبا، أي إلى الحدود الروسية، والالتزام بوضع ما قبل 1997، حيث لم يكن الـناتو موجودا في دول أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق، مثل لاستونيا ولاتفيا وأوكرانيا وجورجيا، وكذلك وقف نشر الطائرات والصواريخ الاستراتيجية، وإلغاء القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في دول أوروبا الشرقية، خاصة رومانيا وبولونيا. تلك المطالب تراها روسيا ضرورية ولا تراجع عنها لضمان أمنها والأمن في أوروبا.وانتقل التهديد الروسي الآن إلى الفعل ونفذ ما سبق أن أعلنه في مؤتمراته: "سنرد على كل أفعالهم!" وها هو يرد.
رد الفعل الأمريكي والأوروبي المعتاد:
يعد فرض المزيد من العقوبات ضد روسيا أمرا معتادا من أمريكا وحلفائها، وإن لم تكن تأثيراتها السلبية طوال سنوات ماضية بقادرة على تقييد الدب الروسي وشل حركته، خاصة في ضوء الجاهزية الروسية على تعويض العقوبات المفروضة على بعض مبادلاتها التجارية ووارداتها بالاعتماد على الإنتاج المحلي، سواء الزراعي أو الصناعي حتى يتم تأمين احتياجات شعب تعداده 144 مليونا. ولكن تحرك قوات الناتو والرد العسكري على الهجوم الروسي يلوح في الأفق، وبأسرع مما يتوقعه العالم، وسوف يدعو الدول الأعضاء في الحلف إلى جلب غطاء أممي للتدخل والرد العسكري. غير أن أوروبا من جانبها مازالت حريصة على ألا تتجاوز رقعة الصراع الأراضي الأوكرانية، وألا تمتد إلى دول أوروبية تكون تكلفتها باهظة على اقتصاداتها المرهقة بعد ثلاث سنوات من جائحة كورونا وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهذا يبدو على رأس الأهداف الاستراتيجية لأوروبا وربما الولايات المتحدة الأمريكية أيضا. وهنا يُطرح السؤال: هل أن السيناريو الأوروبي والأمريكي سيبقى قائماً، أم أن الروس سيمدّون ذراعهم العسكرية لأبعد من أوكرانيا ويتدخلون في دول أوروبا الشرقية التي تستضيف القواعد العسكرية الأمريكية؟!
الشوكة الأوكرانية في ظهر الدب الروسي:
للتذكير.. أوكرانيا كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق، بل وأحد المؤسسين لهذا الكيان عام 1922، وحصلت على الاستقلال مرة أخرى قبل تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 بأيام فقط، وتمتلك ثاني أكبر جيش في أوروبا، بعد روسيا. لكن المقارنة بين الجيشين غير جائزة فالتفاوت واضح في موازين القوى؛ لذلك من غير المستبعد أن يصل الدعم العسكري الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا على وجه السرعة لتعديل الكفة. وتحظى أوكرانيا بدعم أمريكي وأوروبي واضح منذ اندلاع ما يسمى بالثورة البرتقالية عام 2004. وتعيش أوكرانيا منذ ذلك التاريخ، على أثر نتائج الانتخابات الرئاسية لمصلحة فيكتور يانكوفيتش، والتي حكمت المحكمة العليا بأنها "مزورة"، حالة من عدم الاستقرار والأزمات الاقتصادية الخانقة، مما دفع بالمعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إلى صدارة المشهد السياسي. وقد اتخذت روسيا تدابير لتأمين منفذ لها على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم وصوّت برلمان القرم في 2014 بالموافقة على الدخول إلى الاتحاد الروسي كما صوّت استفتاء في وقت لاحق على استقلال جمهورية القرم وتم قبولها في الاتحاد الروسي بعد توقيع معاهدة للغرض. وبالمثل، طالبت الاحتجاجات آنذاك في دونيتسك ولوجانسك بالاستقلال عن أوكرانيا وأصبح الانفصاليون يحظون بالدعم المباشر من روسيا. وعندما أصبح واضحا أن بوروشينكو المدعوم من أوروبا وأمريكا قد فاز بالانتخابات الرئاسية في أوكرانيا في 25 مايو 2014 أعلن المتمردون المسلحون الموالون لروسيا استقلال الجمهوريتين الشعبيتين دونيتسك ولوجانسك.
وفي المقابل، زاد الدعم الغربي لأوكرانيا التي باتت تبحث عن الانضمام إلى حلف الناتو بينما تسعى دول الحلف إلى وضع أسلحة ردع في أوكرانيا وقواعد عسكرية كالشوكة السامة في ظهر الدب الروسي، وهو ما اعتبره بوتين تهديدا مباشرا لأمن بلاده في منطقة نفوذه. وأعلنت منظمة حلف الـناتو في قمة بوخارست 2008 أن أوكرانيا ستصبح عضوا في الحلف "متى تريد ذلك، ومتى تتوافق مع معايير الانضمام". وكرد فعل لهذه الخطوة، هدد بوتين بدوره بإعلان حرب إذا ما وضع الناتو صواريخ في أوكرانيا تقوض أمنه، وأنه لن يسمح بوضع تلك الأسلحة المتطورة على حدود روسيا.
كوبا في الماضي.. وأوكرانيا اليوم:
أزمة الصواريخ الكوبية في الماضي تتشابه إلى حد كبير مع الأزمة الأوكرانية اليوم مع تبادل الأدوار، ووجه الشبه يتمثل في الاقتراب من مناطق النفوذ لكل من أمريكا وروسيا ووقوف كل طرف بالمرصاد للآخر. ولنفهم أكثر هذه المفارقة، نعود إلى الوراء، وبالتحديد لعام 1962 بعد وصول الرئيس فيدل كاسترو إلى الحكم في كوبا المقابلة للسواحل الأمريكية واتخاذه سياسة مناوئة للولايات المتحدة وتحالفه مع الاتحاد السوفياتي الذي شرع في بناء قواعد عسكرية في كوبا ونشر صواريخ باليستية مجهزة برؤوس نووية. وقد أثار هذا الأمر الغضب الأمريكي وهدد الرئيس كيندي حينئذ بضرب تلك القواعد التي تهدد أمن بلاده، وهو ما عرف آنذاك بأزمة الصواريخ الكوبية.
ولو قارنا بين الواقعتين، فسنجد تشابها في الظروف وإن كانت في صورة معكوسة، والموقفان الأمريكي بالأمس والروسي اليوم كلاهما لا ولن يسمح بوجود قواعد على حدودهما تهدد أمنهما، وقد استخدما كل أوراق الضغط والتهديد لتأمين حدودهما.
وقد لجأ الرئيس بوتين في بداية الأزمة الحالية لطرق التصعيد لضمان أمنه، من ذلك إعلانه الاعتراف باستقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين في أقصى الشرق الأوكراني (دونيتسك: 2.2 مليون نسمة ولوجانسك: 1.5 مليون نسمة). كما لجأ لتحريك 200 ألف من قواته في دونباس وهي الإقليم الذي يضم دونيتسك ولوجانسك. وتعتبر روسيا الدويلات التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وهي 15 دولة، داخل مجال نفوذها ومناطق استراتيجية حيوية لتأمين مصالحها، وبالتالي لا تسمح باقتراب دول حلف الناتو منها، لأنه تهديد مباشر لأمنها.
غير أن الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ مشروعها بتقليم أظافر الدب الروسي ومد نفوذها بإنشاء المزيد من قواعدها العسكرية في دول الجوار الروسي تحت الشعار البراق والمألوف "دعم دمقرطة" هذه الدول بعيدا عن "ديكتاتورية" روسيا. ولا يدريالعالم ما سيؤول إليه الصراع داخل أوكرانيا، وهل سيتوقف التصعيد عند حد الضربات الجوية التي قامت بها روسيا ضد أوكرانيا لردع حلفائها الغربيين، أم أن رقعة المواجهات العسكرية ستتسع في الساعات والأيام المقبلة، مما ينذر بحرب عالمية ثالثة على الأبواب!