بدأت روسيا اليوم 24 فبراير 2022 عملية عسكرية واسعة النطاق داخل أوكرانيا في تصعيد كبير مع الدول الغربية بعدما شهدت العلاقات الروسية - الغربية توترات متعددة بسبب المخاوف الروسية من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو والوجود العسكري الغربي بالقرب من حدودها.
وقد جاءت التحركات الروسية تحت مظلة الطلب الذي تقدم به قادة إقليم دونباس الواقع شرق الأراضي الأوكرانية بعدما اعترفت روسيا باستقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك، وعلى خلفية إعلان أوكرانيا نيتها الانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما اعتبرته موسكو بمثابة تهديد لأمنها القومي، لأنه في حال حدوث ذلك سيتمكن المعسكر الغربي من التواجد بالقرب من حدودها وتهديد نفوذها الإقليمي داخل مجالها الجيواستراتيجي.
وعلى الرغم من أن الأزمة الروسية–الأوكرانية تتميز ببعدها الإقليمي، إلا أن أبعادها الدولية أقوى من ناحية التأثير على مسارات الأزمة في ظل الاستقطاب الحاد بين روسيا والغرب، ومن ثم أصبحت التفاعلات حولها تتجاوز حدودها الإقليمية في مسار أوسع يتعلق بمستقبل النظام العالمي؛ حيث أظهرت تطورات الأزمة الأوكرانية في الفترة الأخيرة أن المسألة أبعد من السياق التقليدي للحروب، وأكبر من مجرد حل قضية حوض دونباس، الذي يضمّ جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك، معقل الانفصاليين المدعومين من روسيا في الشرق الأوكراني. خاصة بعدما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلالهما كجمهوريتين جديدتين. ومن ثم أصبحت الأزمة الأوكرانية ذات صبغة عالمية متجاوزة بذلك طبيعتها الداخلية والإقليمية.
وظهرت في هذا الإطار مجموعة من التساؤلات أبرزها يتعلق بطبيعة النظام الدولي الذي يمكن تشكيله والتحديات المحيطة به؟ وللإجابة عن ذلك يمكن التعريف بطبيعة الأهداف والفرص والتحديات المتعلقة بإمكانية تكوين نظام جديد على النحو الآتي:
أولًا- فرص التغيير:
تشير الأزمة بين روسيا والغرب في أوكرانيا إلى بداية تشكّل نظام عالمي جديد، ومحور صيني-روسي في مواجهة تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو، إلا أن هذه التطورات لا تعني بصورة أو بأخرى إمكانية صعود هذا النظام الجديد خاصة أن هناك اتجاها آخر يرى أن روسيا وأوروبا تريدان ضمانات أمنية متبادلة، فموسكو تخشى أن يتوسع حلف الأطلنطي باتجاهها، وأوروبا تخشى من تداعيات الحرب على أوضاعها.
وضمن هذا السياق، برزت مجموعة من الأسباب التي تمثل في جوهرها مركزية الأزمة والتي تتميز بطبيعتها الأمنية؛ حيث ترى روسيا أن التوسع الغربي وخاصة من جانب حلف الناتو في مناطق نفوذها التقليدية واتجاهه نحو نشر قواته وأنظمته من الأسلحة المتطورة في هذه المناطق يمكن أن يهدد أمنها القومي، وهو ما دفع الجانب الروسي إلى الإعلان بصورة واضحة عن مخاوفه من هذه الإجراءات وطرح رؤيته لخفض التصعيد مع الغرب من خلال وقف نشر وتوزيع قواتها باتجاه الحدود مع أوكرانيا، بعد توقيع اتفاقين مع كل من الولايات المتحدة والناتو، لتحقيق ما تراه حفاظًا على أمنها القومي بسبب سياسات التوسع الغربية داخل الدول المجاورة لحدودها.
وقد انتهجت روسيا الإجراءات نفسها التي اتبعتها في عملية ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014؛ حيث أعقب اعترافها بانفصال جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك القيام بعملية عسكرية لضمهما إلى الحدود الروسية، وهو ما يمكن تفسيره على أن روسيا ترفض جميع المقترحات الغربية التي لا تراعي مخاوفها وشواغلها الأمنية من الوجود العسكري الغربي في الفضاء السوفيتي السابق.
على الجانب الآخر، يتهم الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، روسيا أولًا والصين ثانيًا، بالسعي إلى تغيير القواعد المعمول بها حاليًا في إطار النظام الدولي؛ حيث تصاعدت المخاوف الغربية المتفاقمة من التحالف الروسي-الصيني خاصة بعد البيان المشترك بين بوتين ونظيره الصيني شي جين بينج، في 4 فبراير 2022، والذي دعا إلى حقبة جديدة في العلاقات الدولية ووضع حد للهيمنة الأمريكية، في سياق شراكة صينية-روسية بلا حدود، كما أبدى الرئيسان معارضتهما أي توسع للحلف الأطلسي مستقبلًا، بالإضافة إلى دعم الصين مطلب روسيا، ضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو.
ويمكن الإشارة هنا إلى أنه في ظل الترابط بين التوجهات الروسية الهادفة إلى حفظ أمنها والرغبة في تغيير هيكل النظام الدولي، فإن المعسكر الغربي يرفض هذه المطالب والضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا على اعتبار أن الدول الغربية تهدف إلى ترسيخ وحماية قواعد هذا النظام وعدم السماح بتغييره.
ثانيًا- تداعيات متعددة:
بعدما أعلنت روسيا الشروع في ضم جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وحلف الناتو، والقيام بعملية عسكرية شاملة داخل أوكرانيا، ظهرت مجموعة من التداعيات المحتملة على مجريات الأوضاع الدولية، بعضها يتعلق بروسيا، والبعض الآخر يتعلق بحركة الاقتصاد العالمي وثالثة تتعلق بطبيعة النظام الدولى القائم ومساراته المستقبلية، ويمكن إجمال هذه التحديات على النحو الآتي:
1- حركة تدفق النفط إلى أوروبا: ستؤدي الحرب الروسية-الأوكرانية إلى فرض مزيد من العقوبات على القطاعات النفطية الروسية، وهو بدوره سيؤثر على حركة تدفق الموارد النفطية إلى الدول الأوروبية باعتبارها أكثر المتضررين من هذه العملية، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المنتجات والصناعات ذات الصلة والاعتماد على هذه الموارد.
2- خلل في توريد سلاسل الغذاء العالمي: تحتل كل من روسيا وأوكرانيا نسبة 30% من إنتاج القمح على المستوى العالمي، ومن ثم فإن استمرار التوترات بينهما بجانب تصاعد التوترات الروسية-الغربية سينعكس بصورة سلبية على جميع الدول المستوردة لهذه المنتجات.
3- تضييق الخناق على روسيا: شرعت الدول الغربية في بلورة مسودة من العقوبات لاستهداف القطاعات الاقتصادية الروسية والشخصيات النافذة هناك، لممارسة أقصى أنواع الضغط عليها للحيلولة دون تفاقم الأوضاع، مثل إدراج البنوك الروسية بالقائمة الأمريكية السوداء، وتقييد واردات روسيا من التكنولوجيا، وفرض قيود على مبيعاتها من النفط وهو ما يجعل من المستحيل على أي شخص في العالم إجراء معاملات معها،وهنا سيتعين على موسكو إنقاذ البنوك ومحاولة تجنب ارتفاع التضخم وانخفاض الدخل، بالإضافة إلى زيادة محاصرة العملة الروسية من خلال منع تحويل الروبل إلى الدولار، وهو ما يعني عزل روسيا عن نظام الصرف العالمي، بجانب منع حصول موسكو على أي تمويلات لمشاريعها المستقبلية بما يساهم في إضعاف نموها الاقتصادي.
4- المواجهة الغربية غير المباشرة: قد تنجح الولايات المتحدة والناتو في استدراج روسيا ودفعها لغزو أوكرانيا بصورة جزئية أو كلية، وهذه الرغبة الأمريكية لا تهدف لمواجهة القوات الروسية أو منازلتها على الأرض الأوكرانية، وإنما محاولة غربية لتوريط الروس بمستنقع أوكرانيا على غرار التدخل السوفيتي في أفغانستان، خاصة أن الولايات المتحدة وفق رؤية إدارة الرئيس الأمريكي بايدن تهدف إلى الانسحاب العسكري من مناطق وجودها وتعزيز آليات المواجهة السياسية والاقتصادية.
5- ثبات منظومة التحالفات الأمنية الغربية: تسببت الأزمة الروسية مع الدول الغربية في أن يتحد حلف شمال الأطلسي(الناتو) بدل أن تدفعه نحو مزيد من التفكك؛ إذ نجحت واشنطن في حشد حلفائها وراءها، وأقنعت الأوروبيين، بمن فيهم المتشككون، بأن الناتو هو ضمانة أمنهم الوحيدة في مواجهة التهديد الروسي.
6- التغير الهيكلي في النظام الدولي: إن واقع النظام الدولي ومستقبله ومراكز القوى وموازينها بداخله، تتوقف على مدى القدرة الغربية في مواجهة الأهداف والدوافع الروسية في الأزمة الأوكرانية، كما أنه في حال فشل المجابهة الغربية فمن المحتمل أن تتجه الصين إلى انتهاج السياسة الروسية نفسها في التعامل مع فضائها الجغرافي فيما يتعلق بالأزمة مع تايوان، خاصة أن الصين تحظى بالدعم الروسي لطموحاتها الإقليمية بشأن تايوان. بجانب ذلك فإن الدعم الصيني لموسكو كان من بين العوامل التي شجعت بوتين على اتخاذ قراراته الأخيرة، الأمر الذي قد يسهم بقوة في إعادة صياغة قواعد النظام الدولي.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن القول إن المواجهة الحالية بين روسيا والمعسكر الغربي تتناسب مع أهداف الصين من خلال ربط روسيا والغرب في نزاع دبلوماسي طويل. من جانب آخر،فإن احتمالية أن تصبح الصين وروسيا حليفتين عسكريتين كاملتين وإبرام اتفاق دفاع مشترك لا يزال ضعيفًا. خاصة أن الطرفين يتنافسان على النفوذ في آسيا الوسطى السوفيتية السابقة، كما تتخوف موسكو من أن تكون شريكًا صغيرًا لبلد عدد سكانه كبير ويبلغ حجم اقتصاده 10 أضعاف الاقتصاد الروسي.
ختاما، تظل الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها واحدة من القضايا المفصلية في تطور العلاقات الروسية-الغربية والتي تمتد انعكاساتها ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل على المستوى العالمي فيما يتعلق بهيكل النظام الدولي، خاصة أن هذه الأزمة قد تكون دافعا لدول أخرى مثل الصين إلى السيطرة على تايوان، ومن ثم سنكون أمام مرحلة جديدة من التطورات التي تمثل إعادة تفكيك للنظام الدولي والتحالفات الدولية القائمة واستبدالها بأطر أخرى تتناسب مع الواقع الجديد.