"..والآن، أصبح لدينا رئيس يمكنه جعل التغيير واقعا فى تاريخ المجتمع التشيلي".. بتلك العبارة احتفلت أغلب الصحف التشيلية، حينما أعلنت اللجنة الانتخابية في تشيلي فوز السياسي اليسارى الشاب "جابريالبوريك" في الانتخابات الرئاسية بحصوله على 55.9 % من أصوات الناخبين مقابل منافسه من اليمين المتطرف "خوسيه أنطونيو كاست"، والذي حصل على 44.1 %، وذلك خلال جولة الإعادة، والتى انطلقت فى 19 ديسمبر الماضى. وبذلك، يُصبح بوريك-الذي يبلغ من العمر 35 عامًا- أصغر رئيس يحكم داخل أروقة قصر"لا مونيدا" فى تاريخ تشيلي، مما جعل هناك حالة ترقب واسعة للإصلاحات التي سوف يتبناها الرئيس المنتخب؛ حاملًا معه أمل شعب يتلهف للعثور على الاستقرار السياسي والاقتصادي المفقود.
دلالات فوز"بوريك" وتشكيل المشهد الحالى:
يحمل فوز "بوريك"فى الانتخابات الرئاسية العديد من الدلالات التى يكمن فى طياتها تفسير أسباب فوزه على منافسه اليميني "كاست":
أولًا- إنهاء الهيمنة السياسية وتنامي المد الوردي: يُعد فوز "بوريك" انتصارا حقيقيا لليسار فى تشيلي، الذي أثبت أن هناك حالة عدم ثقة فى الحكومات المحافظة، التى سيطرت على المشهد السياسي لعدة سنوات. كذلك، فإنه يمكن القول إن فوزه قد يُساهم فى إنهاء الهيمنة السياسية التى مارستها كتلتا اليسار واليمين المتطرفين؛ مما يعنى أنه قد مهد الطريق لتيار"اليسار الجديد"، والذي يُمثل التيار المعتدل. وبناءً على ما تقدم، يقع على عاتق "بوريك" مهمة السعى إلى الحوار والخروج باتفاقات بين جميع الأطراف السياسية. يُعتبر دعم قطاعات عريضة من تيار الوسط واليسار المتطرف مفتاح انتصاره فى تلك الانتخابات؛ مما يدفعه إلى ضرورة إحداث توازن داخل تيارات اليسار والوسط، وأيضًا تبنّى حوار شامل مع اليمين، حيث إنه يسيطر على نصف مقاعد البرلمان التشيلي، الذي يُعد كتلة مهمة فى دعم قرارات الحكومة المقبلة أو الاتجاه لإخفاق كل مساعيها. وفي هذا السياق، من المُرجح أن يتعدي اليسار من الداخل التشيلي ليُصبح إقليميا عابرا للحدود؛ وهو ما سيظهر تأثيره جليًا خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة فى البرازيل وكولومبيا. كذلك، فإن حالة المد الوردي قد شملت صعود اليسار في دولتى بيرو وهندوراس؛ وهو ما يرسم ملامح التوجه السياسي الجديد فى أمريكا اللاتينية خلال الفترة المقبلة.
ثانيًا- تصاعد الاحتجاجات الشعبية: شهدت تشيلي موجة احتجاجات غير مسبوقة فى عام 2019، حيث كانت تُمثل أسوأ أزمة سياسية اجتماعية تمر بها البلاد منذ عودة الديمقراطية عام 1990، وكانت هذه الاحتجاجات قد اندلعت احتجاجًا على التفاوت الاجتماعي، وتردي الأوضاع المعيشية، وسرعان ما ازداد "الانفجار المجتمعي"إذ طالب المحتجون بضرورة تغيير الدستور الذي يحكم البلاد؛ كما كانت تلك الاحتجاجات بمنزلة المحرك الرئيسي لدفع الحكومة إلى إجراء استفتاء دستورى، والذي انتهي بتأييد صياغة دستور جديد للبلاد بنسبة بلغت 78,1٪؛ بدلا من دستور نظام الديكتاتور "بينوشيه". وفي هذا الصدد، تم تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة الدستور الجديد، ذات غالبية يسارية ومستقلة. علاوة على ذلك، صياغة الدستور تُعد من أولويات بوريك واحتلت العبارات الأولى في كلمته التى ألقاها بعد الفوز، حيث قال: "سندافع عن العملية الدستورية، التي تُمثل مصدر فخر وطنيا لنا، إنها المرة الأولى التي نكتب فيها دستورًا بطريقة ديمقراطية.. دعونا نهتم بتلك العملية حتى ينتج عنها ميثاق عظيم نتيجة اتفاق وليس فرضا"، ومن المتوقع أن تقترح الهيئة مسودة الدستور في النصف الثاني من العام الجارى حتى يصدّق عليه التشيليون.
ثالثًا- مُتنفس جيل جديد: يُنظر إلى "بوريك" على أنه صوت جيله، الذي خرج معهم فى عام 2019 للنداء بالعدالة الاجتماعية، وأن أيديولوجيته تُعبر عن مستقبل يتسع لجميع الفئات، وهو ما يمكن تحديده فى النقاط الآتية:
• الاعتراف بالتنوع الثقافي فى تشيلي: وجه "بوريك" الدعم إلى السكان الأصليين فى تشيلي، ووعد بضرورة تبني حوار معهم حتى يتم الاستماع إلى مطالبهم. وفي خطاب الفوز، قدم بوريك التحية للشعب باللغة الإسبانية وبلغات السكان الأصليين (رابانوى – مابوتشي -أيمارا)، كما أنه بدأ خطابه بـ "شكرًا للجميع.. لجميع الشعوب والسكان الذين يعيشون فى تشيلي"، وهو ما اعتبره السكان الأصليون اعترافا بالتنوع الثقافي واللغوية في تشيلي. جدير بالذكر أن نزاع سكان "مابوتشي" في جنوب البلاد، يُشكل إحدى القضايا الرئيسية التي ركزت عليها حملة "بوريك"، خاصة بعد حادث مقتل فرد من "مابوتشي" فى نهاية نوفمبر الماضي، خلال المظاهرات التي قامت بها المقاطعة للمطالبة بإعادة أراضي السكان الأصليين.
• الموقف من حقوق المرأة ودعم المثليين: يُعرف المجتمع التشيلي بأنه مجتمع محافظ، بعيد عن التغيير، وهو ما يُمثله من دعموا المرشح اليميني "كاست"، لكن هناك جيل يري من حوله أنظمة عالمية ذات رؤي مختلفة، وهو ما عبر عنه "بوريك" في خطاباته، حيث إنه أظهر دعمه اللامتناهي للمرأة، خاصة فيما يتعلق بالحق في الإجهاض وهو ما صرح به: " إلى سيدات تشيلي.. اعتمدوا علينا، أنتن بطلات حكومتنا.. لكم كل الحق في الدفاع عن حقوقكن السياسية واتخاذ القرار بشأن أجسادكن ومصير أبناءكن". وعلى الجانب الأخر، فقد أوضح "بوريك" دعمه الصريح لحقوق المثليين، وأن فى عهده لن تعرف تشيلي معني التمييز؛ وهنا ظهرت حالة المفارقة البالغة بين خطاب الأخير وخطاب "كاست" الذي طالب بإلغاء وزارة المرأة، واقترح تقديم المعونات الحكومية للسيدات المتزوجات فقط، كما تحدث عن أنه لن يعترف بالمثليين؛ مما دفعهم إلى وصفه بـ "ديكتاتور المثليين".
الملفات الداخلية التى تنتظر حكومة "بناء تشيلي جديدة":
وضع الرئيس الشاب أجندة الحكومة المقبلة والتي أطلق عليها اسم "بناء تشيلي جديدة"، وهدفها الرئيسي إعادة تأسيس دولة أكثر إنصافًا، حيث أكد على أن الحكومة "سوف تحكم من الشارع ولن تخرج قراراتها من بين أبواب القصر فقط". وجاءت أولويات الفترة المقبلة كالآتي:
• الإصلاح الضريبي: يقترح "بوريك" زيادة تحصيل الضرائب بنسبة 5% من إجمالي الناتج المحلي، خلال السنوات الأربع المقبلة؛ وذلك لتمويل الإصلاحات الاجتماعية. حيث تنص الخطة على زيادة الضرائب على كبرى الشركات، خاصة شركات التعدين، فضلًا عن تخفيض قيمة الضريبة المضافة.
• إنهاء نظام المعاشات التقاعدية: يتعرض نموذج المعاشات التقاعدية إلى العديد من الانتقادات، حيث إنه لا يضمن نسبة الحد الأدنى من المعاشات؛ مما يُفجر أزمة التفاوت الاجتماعي. وبناءً عليه، اقترح بوريك إنشاء نظام معاش أساسي شامل يتم العمل به تدريجيًا، بحيث يتم تمويل هذا النظام، من خلال الإيرادات العامة للدولة. بدايةً، سوف يتم إدراج الفئة التي لم تحصل على معاشات من قبل؛ حتى يتم وضع أرضية عادلة لمن هم تحت خط الفقر. وفيما بعد، يتم صرف المعاشات للقوائم الموجودة بالفعل، مع صرف زيادات فى المبلغ تدريجيًا للأفراد؛ وذلك وفقًا لفئة المستفيدين التي تنقسم إلى الفئات الأكثر احتياجًا، ثم الفئات المتوسطة.
• تنظيم موجات الهجرة: يشتمل ذلك الملف على انتهاج سياسة هجرة منتظمة وآمنة، تحترم جميع المواثيق الدولية وقواعد حقوق الإنسان، على أن يتم تسجيل غير الموثقين؛ حتى يتم توطينهم وإدماجهم فى المجتمع بقصد تحسين ظروفهم المعيشية.
• احترام مبادئ حقوق الإنسان: مع تولى الحكومة التشيلية، فى مارس المقبل، سوف يتم العمل على إنشاء لجنة تأهيل مستدامة؛ لمراجعة كافة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، ورصد ضحايا العنف وجرائم القتل. كذلك، سوف يتم البحث عن جميع المختفين قسريًا خلال مظاهرات "الانفجار المجتمعى" بهدف منح التعويض الشامل لهم.
• دعم الرعاية الصحية: تتجه الحكومة القادمة إلى الإلغاء التدريجي لنظام التأمين الصحي الخاص، ليحل محله نظام التأمين الإضافة الطوعي. كذلك، سوف يتم إنشاء صندوق الرعاية الصحية الشمولي؛ ليكون بمنزلة جهة التمويل الخاصة بالرعاية الصحية فى المستشفيات والمراكز العامة والخاصة.
محددات السياسة الخارجية فى عهد اليسار الجديد:
يعتزم الرئيس اليساري "بوريك" تبني سياسة خارجية أكثر نشاطًا وفعالية على الساحة الدولية، حيث يضع نُصْبَ عينيه التعزيز من مكانة تشيلي الدولية. وقد صرح فى إحدى المناظرات الرئاسية بأنه فى سياق عدم اليقين الدولى؛ فإن الاستراتيجية الأنسب التي على بلاده اتباعها هي تعزيز الشبكات الثنائية ومتعددة الأطراف والانفتاح على آليات التنسيق الإقليمي، من خلال التعاون المرن والمستدام،مع ضرورة الحفاظ على مبدأى الاستقلال الوطني والمعاملة بالمثل. وفيما يلي عرض لأهم المحددات الخارجية فى التعامل مع الدول المجاورة والقوى العظمى:
• توثيق العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية: أعلن المتحدث باسم الشئون الخارجية فى الحملة الانتخابية لبوريك، السناتور خوان لاتورى، حرص"بوريك" على إحداث تعاون جاد بين دول أمريكا اللاتينية، خاصة من أجل مواجهة الهجرة، وأزمة المناخ وتهريب المخدرات. وشدد على أن أولويات الأجندة الخارجية هى تدعيم قنوات الإتصال مع تحالف المحيط الهادى. وفيما يتعلق بالأرجنتين والمكسيك وكولومبيا، فقد أعلن السناتورلاتوري أنهم دول شقيقة ونهتم بمواصلة تعزيز العلاقات معها، وأضاف أن الأرجنتين سوف تكون الوجهه الخارجية الأولى للرئيس بمجرد توليه زمام الحكم فى 11 مارس المقبل. أما بوليفيا وبيرو، فقد صرح "بوريك" فى أحد البرامج أنهما "حالة خاصة" وسوف يتبع معهما سياسة طويلة الأمد، موضحًا أن الأمور التى تتعلق بالسيادة الوطنية لا يتم التفاوض عليها، في إشارة منه إلى النزاع على المنطقة الحدودية البحرية بين تشيلي وكلً من بوليفيا وبيرو. يُذكر أن خلفية هذا النزاع تعود إلى حرب المحيط الهادى (1884 – 1879). علاوة على ذلك، أبدى الرئيس المنتخب رأيه فى التعامل مع كوبا وفنزويلا، حيث أعلن دعمه للمعارضة الكوبية وأدان بشدة انتهاكات حقوق الإنسان فى فنزويلا؛ وهو ما يعني أنه ليس من المؤكد تعاونه مع حكومات باعتبارها يسارية دون النظر إلى ما تقوم به فى الواقع الفعلى.
• التعاطى مع الولايات المتحدة الأمريكية والصين: هناك توقعات تشير إلى أن "بوريك" لن ينتهج أسلوبًا عدائيًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما يتعامل اليسار الراديكالى؛ وترجع تلك التوقعات إلى عدم تأييده إلى السياسات الكاستروية أو التشافيزية ( فى كوبا وفنزويلا) لبعض الأنظمة التى يحكمها اليسار. وعلى الجانب الآخر، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إظهار أن عداءها للأنظمة الكوبية والفنزويلية والبوليفية، لا يرجع إلى كونهم أنظمة يسارية، وإنما كونها أنظمة استبدادية. كذلك، كتب "بوريك" على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" أنه تلقي اتصالا هاتفيا من الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، حيث قدم له التهنئة بفوزه، وأكد له على التزام الجانبين بتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان". بالإضافة إلى ذلك، فقد أعلن بوريك عن استعداده التعاون مع دول قارة آسيا، وعلى رأسها الصين، وشدد على أنه منفتح على الحوار مع كل من هم على طريق السلام.
• مواقفه المناصرة لفلسطين: عُرف بوريك منذ أن كان نائبًا فى البرلمان بمواقفه المناصرة لفلسطين، حيث إنه كان من بين أحد النواب الذين تقدموا بمشروع قانون يُفيد بأن السلع التى يتم استيرادها من المستعمرات الإسرائيلية غير قانونية بموجب القانون الدولى، باعتبار أنها من أراضٍ محتلة. كما أنه قد اجتمع عدة مرات مع رئيس الجالية الفلسطينية فىتشيلي للتعبير عن دعمه للشعب الفلسطيني. وفى هذا الصدد، فقد صرح خلال حملته الانتخابية بأنه يعتبر إسرائيل "دولة قاتلة وتتعمد إبادة الفلسطينيين"، وهو ما اعتبره البعض أنه معادٍ للسامية. يجدر الإشارة إلى أن الجالية الفلسطينية في تشيلي، تُشكل أكبر جالية من نوعها في أمريكا اللاتينية، بل هي ثاني أكبر دولة لديها وجود للفلسطينيين في الخارج بعد الأردن.
ختامًا، من المنتظر أن يُشكل عام 2022 خريطة سياسية إقليمية جديدة، تضع الأسس لمرحلة تقدمية جديدة تشمل القوى الكبرى فى أمريكا اللاتينية؛ وهو ما يعنى النجاح الأكبر لبوريك الذي يقود التيار اليساري الأكثر اعتدالًا. لكن من المؤكد أن فى الفترة المقبلة سوف يشهد الداخل التشيلي العديد من السيناريوهات المُعقدة أمام الرئيس الشاب وحكومته المرتقبة، خاصة فيما يتعلق بعقبتي البرلمان اليميني، ووضع الآليات التى تُحقق طموحات الشعب والكتل السياسية فى إعداد الدستور الجديد للبلاد. كذلك، فإن بوريك سوف يواجه إرثًا ضخمًا من الفساد، والاستقطاب السياسي الناتج عن الحكم الديكتاتوري، ومن يتبنون أفكاره.