قال الرئيس التونسى قيس سعيد في خطاب - ذو دلالة مكانية- من محافظة سيدي بوزيد، (مهد ثورة الياسمين التونسية) فى سبتمبر الماضى، أن التدابير الاستثنائية ستتواصل استجابة للإرادة الشعبية، وسيتم وضع قوانين انتقالية وقانون انتخابي جديد ضمن حركة تصحيحية "للانفجار الثورى" الذى اندلع فى 17 ديسمبر 2010. ويترقب المواطن التونسى ما سيقرره الرئيس سعيد بشأن البرلمان المجمد والدستور المعطل جزء من مواده، فى ظل تزايد احتمالات تغيير نظام الحكم بالأساس.
فيما أبقى الرئيس سعيد على التدابير الاستثنائية التى أعلنها فى 25 يوليو 2021. وبعد وضع أحكام انتقالية وتكليف السيدة نجلاء بودن برئاسة الوزراء وتشكيل حكومة جديدة ضمن الإجراءات الاستثنائية، جدد سعيد وعوده بتغيير شكل نظام الحكم. كما حدد سقفاً زمنياً لنهاية الفترة الانتقالية فى نهاية العام الحالى. وبذلك، مع تصميم الرئيس على "عدم العودة إلى الوراء"، ستستمر هذه التدابير حتى إلغاء الدستور وكتابة آخر جديد، وإعادة تشكيل السلطة التشريعية.فى هذا الإطار اعتزم الرئيس التونسى مع بداية عام 2022 أن يجرى الحوار مع الشعب مباشرة، ذلك من خلال تنظيم الاستشارة عبر المنصات الإلكترونية، في خطوة تكنولوجية دالة على انفتاح الرئيس وحكومته على الشعب فى صياغة المستقبل السياسى للبلاد.
فكيف يمكن للرئيس التونسى إدارة المرحلة الانتقالية، بحسب ما يرى للوصول لتحقيق هدف تغيير النظام السياسى فى ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتجاذبات السياسية، ورفض بعض القوى والأحزاب السياسية المعارضة، أي مساس بمكتسابتها فى دستور 2014، ومطالبة اتحاد الشغل بحوار تشاركي لأية إصلاحات مقبلة؟
التدابير الرئاسية بين المؤيدين والمعارضين:
أعلن الرئيس قيس سعيد عن قراراته بفرض التدابير الاستثنائية في 25 يوليو 2021، وتفاوتت مواقف الفاعلين السياسيين. ووضحت ملامح خريطة مواقف هذه القوى إثر صدور المرسوم الرئاسي (117) في 22 سبتمبر 2021، الذي تضمن جمع الرئيس للسلطات التنفيذية والتشريعية وتكليف حكومة جديدة، وتجميد لفصول عديدة من دستور يناير 2014. وتشكلت جبهتان من معارضي سعيد، تضم الجبهة الأولى "حركة النهضة" وحليفيها في الائتلاف الحكومي الذى تم حله، حزبى "قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" ذاتى التوجه الإسلامي المحافظ، وبعض الشخصيات، من أبرزها الرئيس الأسبق منصف المرزوقي (الذى يوجد حاليا بفرنسا). وتتمثل أبرز مطالب هذه الجبهة فى عودة عمل البرلمان المجمد وعدم تغيير دستور 2014.
جدير بالذكر، تزامن- مع ذلك حدوث انشقاقات نهضوية وتقديم أكثر من (130) عضوا في "حزب حركة النهضة"، من بينهم قيادات مركزية وجهوية، وأعضاء بمجلس شورى "الحركة" برلمانيين، استقالاتهم لاعتبارهم مواقف قيادة "حركة النهضة" مسئولة عن قرارات سعيد. كما أن ممارسات وخيارات قياداتهم الخاطئة هى التى أدت إلى "عزلة" "النهضة" فى المجتمع التونسى، وعدم نجاحها في الانخراط الفاعل في أي جبهة مشتركة لرفض قرارات 22 سبتمبر 2021.
بينما تضم الجبهة الثانية أحزابا ديمقراطية اجتماعية وليبرالية ومحاميين ونشطاء من المجتمع المدني، وهي بدورها تطالب بإعادة العمل بالدستور كاملاً ورفع التعطيل عن فصوله التى أوقفت فى الأحكام الاستثنائية. وتنأى هذه الجبهة بنفسها عن حراك الشارع، وعن أي تحالف مع حزبي "حركة النهضة" و"قلب تونس" وتحملهما مسئولية الأزمة السياسية التي أدت إلى قرارات "25 يوليو"، كما لا تقبل أيضا بتوجهات وممارسات "الحزب الدستوري الحر" المحافظ/الشعبوى.
أما الاتحاد العام التونسي للشغل النافذ فى المجتمع العمالى التونسى، فقد كان موقفه أقرب إلى مساندة مشروطة بضرورة إصدار الرئيس خريطة سياسية، وإجراء إصلاحات سياسية تقود إلى انتخابات مبكرة "شفافة"، وتدشين حوار وطني بتوقيتات محددة ومشاركة واسعة. كما كان الاتحاد ينتقد تردد الرئيس "المفرط" في إعلان خريطة طريق.
فيما ذهبت القوى السياسية المؤيدة للرئيس سعيد من الأحزاب العروبية القومية، وأيضا بعض أحزاب الديمقراطية-الاجتماعية، صاحبة برامج الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى،إلى تأييد متفاوت الدرجات لتدابير الرئيس باعتباره اتخذ قراره بناء على تأويل للفصل (80) من الدستور، أى لم يخالف الدستور. كما يحظى سعيد بتأييد شعبي، خصوصا في أوساط الشباب والفئات الشعبية الساخطة، التى ترجع تدهور الأوضاع الاقتصادية المتأزمة إلى حالة الانسداد السياسى فى ظل حكومات الائتلافات الحزبية النيابية السابقة. إذ إن عبر الواقع الشعبى فى الشارع التونسى وأيضا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نجد مؤيدى الرئيس سعيد هم الأعلى صوتا وينتابهم الحماس ويتحفزون لقرارات جديدة من "قيسون" (هكذا يلقبونه ويحتفون به) باتجاه محاسبة النخب "الطبقة" السياسية "المسئولة عن "الفساد والخراب" كما يصفونها.
يذكر أنه على الصعيد الاقتصادى، وفى محاولة لتدارك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، تحاول حكومة نجلاء بودن سن إجراءات لإنعاش الاقتصاد، وحل المشكلات المستعجلة، مثل عجز الموازنة التي باتت تحتاج إلى تمويل خارجي يصل إلى 6 مليارات يورو، وما زالت المفاوضات متعثرة مع المانحين، سواء المؤسسات المالية الدولية، أو الشركاء الأوروبيين والأمريكيين.وعلى المستوى الإقليمي والعربى، كانت الجزائر وحدها التى استمرت في تقديم دعم مالي وقد أُعلن عن أحدثه وقيمته 300 مليون دولار، فيما يشكل طوق نجاة، لكنه لا يعدو أن يكون مسكنا مؤقتا يلبي استحقاقات عاجلة في الميزانية التونسية المتأزمة، وهو ما دفع الرئيس التونسى إلى أن يناشد مواطنيه المساهمة بكثافة في اكتتاب شعبي لإنقاذ ميزانية الدولة من الإفلاس. كما يسعى الرئيس إلى استعادة الأموال والأصول المنهوبة من رجال الأعمال الفاسدين، من خلال تعهدهم بإقامة المشروعات والمساهمة فى تنمية الجهات الفقيرة ضمن تسويات مالية، وفقاً لمشروع قانون للصلح الجزائيالذى سيطرحه الرئيس.
خريطة الطريق وإعادة تشكيل قواعد اللعبة الديمقراطية:
مع اقتراب الذكرى الحادى عشرة للثورة التونسية، أعلن الرئيس التونسى اعتماد تاريخ 17 ديسمبر كتاريخ رسمي للثورة بدلا من 14 يناير. واعتبر سعيد أن 17 ديسمبر هو التاريخ "الشرعي" و"الشعبي" للثورة وأحلام مفجريها بالعدل والكرامة والحرية، مقابل 14 يناير الذي يرمز- برأيه- إلى "انقلاب" و"خيانة" النخبة "الطبقة" السياسية لثورة الشباب.وعبرت هذه السياسة الرمزية على رسالة ضمنية بعث بها سعيد إلى الشعب التونسى لتأكيد ارتباطه بالثورة التونسية.
من هنا، يمكن تفسير إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد، فى 13 ديسمبر 2021 عن استمرار تجميد عمل البرلمان حتى تنظيم انتخابات جديدة، وتنظيم استشارات إلكترونية عبر تطبيقات رقمية لاستقصاء آراء المواطنين بشكل مباشر حول الإصلاحات السياسية والدستورية التي يرغبون فيها. على مدار ثلاثة أشهر بدءاً من أول يناير حتى يوم 20 من مارس 2022، تتولى لجنة من الخبراء في القانون الدستوري، يعين الرئيس أعضاءها، مهمة جمع الاقتراحات واستخلاص التوجهات التي ستسفر عنها الاستشارات، وتأليف (تبويب وصياغة) مختلف المقترحات التى تقدمها المشاورات "الشعبية" عبر الإنترنت بشأن الإصلاحات التي يجب إدخالها على النظام السياسي القائم، وذلك تمهيدا لعرضها في شكل مشروع دستور جديد على الاستفتاء الشعبى المقبل. وبما يحقق تمكين الشعب من التعبير عن إرادته وتوفير مقترحات للإصلاحات القانونية والدستورية المأمولة.
ويسعى سعيد إلى استقطاب شرائح الشباب للمشاركة فى الاستشارات الإلكترونية، وهو يدرك أنه من الناحية التقنية والتنظيمية أن هذا الأمر ممكن الإنجاز في تونس التي توجد بها بنيات وتجهيزات لوجيستية لتنظيم الاستشارات الإلكترونية، وينتشر فيها استخدام الإنترنت بمعدل 66%، ومواقع التواصل الاجتماعى بمعدل 69% من التونسيين.
وتأتى هذه الاستشارات كشكل رقمى حديث من الديمقراطية المباشرة وتجاوز الديمقراطية التمثيلية التى تسببت فى إفراز قوى غير معبرة عن طموحات الشارع السياسى. كما ستكون الاستشارة بديلاً عن الحوار بغرض إبعاد الأحزاب السياسية عن اللعبة السياسية التى تأتى فى ظلها إدارة الفترة الاستثنائية. وبالتالى التقليل من تأثير ونفوذ الأحزاب والقوى السياسية على عملية رسم معالم النظام الجديد الذى يحتمل أن ينتج عنه توسيع صلاحيات الرئيس مقابل إنقاص سلطات البرلمان، مع عزل المجالس البلدية والجهوية عن بعضها بعضا فى صورة مؤتمرات شعبية محلية/مناطقية.
على أن يجرى عرض الإصلاحات الدستورية على الاستفتاء الشعبي، فى 25 يوليو 2022 (يوم عيد الجمهورية ذكرى إعلان الجمهورية التونسية، والذكرى السنوية لإجراءات سعيد الاستثنائية). وتنعقد الانتخابات التشريعية، في 17 ديسمبر 2022، (ذكرى ثورة الياسمين). أى أن خريطة الرئيس تشير إلى أن بعد أقل من عام تقريبا ستكون هناك انتخابات تشريعية في تونس وفق قانون انتخابي جديد، سيسبقها إجراء استفتاء حول إصلاحات دستورية.
ويبرز هنا دور الجيش التونسى فى دعم أحكام الفترة الانتقالية،حيث يعد الجيش التونسى من أصغر الجيوش في المنطقة، إذ يحتل المرتبة (73) على مستوى العالم فيما يتعلق بالقدرة النارية والقتالية. والمرتبة (11) بين أقوى (16) جيشا في منطقة الشرق الأوسط. ويشير تاريخ المؤسسة العسكرية التونسية إلى عدم انخراطها في السياسة، وكثيرا ما كان الجيش بعيدا عن السياسة، بحيث يعرف دائما القيام بواجباته الدستورية فى حماية الدولة وتنفيذ الأوامر الرئاسية الشرعية، ولا يقوم بالتدخل فى السياسة.
فمنذ حقبة الاستقلال، تم تحييد الجيش التونسي عن الحياة السياسية، ومن ضمن الإجراءات التى اتخذت للفصل بين العلاقات العسكرية-المدنية فى الحالة التونسية، هى: ضمان تنوع القادة العسكريين، وعدم السماح للجنود بالتصويت. لكن في عام 2017 رُفع حظر الاقتراع الذي كان مفروضا على الجنود وقادة الجيش منذ خمسينيات القرن الماضي.
تشير تحليلات كثيرة إلى أن حيادية المؤسسة العسكرية التونسية على نطاق كبير كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء نجاح "ثورة الياسمين" التونسية التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي فى 17 يناير 2011. فخلال الثورة، لم يقدم الجيش على إطلاق النار على الاحتجاجات الواسعة والمتظاهرين الرافضين لنظام بن على، بل قام بحماية ممتلكات الدولة. يذكر أن اصطفاف الجيش إلى جانب المتظاهرين إبان الثورة كان بمنزلة سبب وراء تزايد شعبيته بين التونسيين. وبرغم ذلك، التزم الجيش بحياديته ولم يسعى قادته إلى الدخول فى الصراعات السياسية والاستحواذ على القوة السياسية. كما ارتفعت شعبية الجيش عقب انضمامه إلى مشاريع الأشغال العامة، خاصةً مكافحة جائحة كورونا.
كما ظهر التزام الجيش بالدور الوطنى وفصل العسكرى عن السياسى، فى 26 يوليو 2021، بعد أن أعلن الرئيس سعيد أنه لجأ إلى سلطات الطوارئ بموجب الفصل (80) من الدستور التونسي لتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة حكومة هشام المشيشي، حينما قام الجيش التونسى بحراسة البرلمان، ومنع راشد الغنوشى رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة، وعددا من النواب فى أثناء محاولاتهم دخول مبنى البرلمان تحدياً لقرارات رئيس الدولة.
يتضح مما سبق أن الجيش التونسى يحظى بثقة المواطنين التونسيين، بحسب استطلاعات الرأى التى أشارت إلى أن هناك أكثر من 85% من التونسيين يثقون في القوات المسلحة أكثر من أى مؤسسات أخرى، حيث هو مؤسسة وطنية فاعلة فى الدولة التونسية، يتمثل دورها فى حماية وحفظ سلامة البلاد من الأخطار الخارجية، وصيانة الإرادة الشعبية، والشرعية الدستورية، وحماية الممتلكات العامة.
الخاتمة:
إن الرئيس سعيد ماض في تغيير قواعد اللعبة في البلاد، والإعداد لتغيير فى النظام السياسي على مستويين: أولهما؛ لتحويله من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي صريح. وثانيهما؛ إقامة حكم مجالسي محلى، وفي ظل هذا المشروع السياسى يُنتظر تهميش دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي قامت عليها المنظومة السياسية ودستور 2014.
وتكمن المعضلة الأساسية في إدارة الأزمة السياسية فى تونس فى عدة محاور: أولا؛ في كسر التعاقد الاجتماعي الذي يمثله دستور 2014 الذي وقع إقراره بإجماع واسع من طرف مجلس تأسيسي منتخب ديمقراطيا، ومضي الرئيس سعيد عن كثب في إحداث تغييرات في النظام السياسي والدستوري كأمر واقع، وفي غياب محكمة دستورية. ثانيا؛ رغم اتساع المعارضة للرئيس سعيد، فإنه سائر فى طريق المضى قدما في مشروعه السياسى معتمدا على تأييد شعبي واسع ودعم صامت من مؤسسات الحكم الصلبة (الجيش والأمن). وثالثا؛ لا يزال يغيب عن المشهد التونسي وجود أي حشد كبير ضد الرئيس حتى الآن، فلم نشهد اجتماعا بين جميع الأطراف أو اصطفاف منتقدي قيس سعيد معا للإعلان عما يتعين عليهم القيام به الآن لمنع الرئيس عن المضى قدما فى مشروعه السياسى. لذا، من الصعوبة بمكان معرفة ما إذا كان هذا الانتقاد المتزايد من الاتحاد العام للشغل والأحزاب السياسية الأخرى يعكس آراء غالبية الشعب التونسي. ولا نجد أحد من الطبقة السياسية أو المجتمع المدنى يمكنه الإدعاء أنه يمثل الشارع التونسي أو يتحدث باسمه. رابعا؛ خلا خطاب جميع القوى السياسية على السواء من الاهتمام وتقديم الإجابات عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الملحة، وتقديم بدائل في مواجهة مطالب الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا من الأزمة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا. ومنذ إعلان التدابير الاستثنائية وتجميد عمل البرلمان وتغيير الحكومة وإضعاف دور الأحزاب السياسية خاصةً المعارضة، تركزت التصريحات والأولويات على الصراع السياسى حول السلطة. ولما كان الرئيس يملك زمام أمور إدارة شئون البلاد، نظرا لمسئولياته الرئاسية بطبيعة الحال، فهو وحكومته أقرب لكسب الشارع السياسى بشرط التعبير عن – وتلبية- احتياجات المواطنين.
في ظل هذه المعادلة المركبة ينتظر تونس عام آخر من الصعوبة بمكان فى 2022 تُنذر مؤشرات عديدة بأنه سيشهد استمرار الصراع المختزن بين الرئيس ومعارضيه، الذى يمكن أن ينفجر إلى أشكال مختلفة، من شأنها أن تضع استقرار تونس من جديد على المحك، ويزيد من حالة الانتظار المكلفة على الاقتصاد التونسي ومعيشة المواطنين.
ولن يحل هذه الأزمة إلا النجاح فى إدارة الفترة الاستثنائية، والالتزام بتوقيتات الإجراءات التأسيسية لإعادة بناء مؤسسات الحكم التى أعلنها الرئيس.