تمتلك مصر إمكانيات هائلة تؤهلها لأن تصبح مركزا إقليميا لتجارة وتداول الغاز بمنطقة البحر المتوسط من بنية تحتية قوية والشبكة القومية للغازات الطبيعية، وكذلك مصانع الإسالة، والتي تقع على شواطئ البحر المتوسط، وهي مصانع إدكو ودمياط لإسالة الغاز الطبيعي، والتي تعد من أضخم مصانع إسالة الغاز في المنطقة، وأيضاً ما لديها من إمكانيات للتوسع مستقبلياً في الطاقة الاستيعابية لتلك المحطات.
هذا بالإضافة لموقعها الجغرافي المتميز بقربها من السواحل الجنوبية والغربية، وبالتالي تمتلك القدرة التنافسية مع المنتجين واللاعبين الآخرين في صناعة الغاز في المنطقة، وذلك نتيجة لفرق التكلفة اللازمة لنقل الغاز المسال من مصر إلى أوروبا . وكنتيجة لتلك العوامل والفروق الجوهرية، فإن الدولة المصرية تمتلك مفاتيح التحكم في أنبوب الغاز في منطقة شرق المتوسط، مما يجعلها حاضرة بقوة على الخريطة العالمية لصناعة الغاز.
فالغاز المصري أصبح في عهد الرئيس السيسي، وبالتحديد بعد عام ٢٠١٤، هدفاً استراتيجياً، وثروة آمنة للمصريين وأداة ثقل للدولة المصرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومؤشراً لنجاح الدولة المصرية والرؤية السياسية ما بعد ٢٠١٤، وذلك على المستويين الإقليمي والعالمي، وغيّر من خريطة العالم في أسواق صناعة الغاز بعد أن أصبحت الدولة لاعبًا أساسيًا في صناعة الطاقة العالمية، وسيزيد مدى تأثيرها الدولي خلال الفترة القليلة المقبلة مع التوسع في عمليات التصدير، وفي ضوء وجود المركز الرئيسي لمنتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة.
القاهرة في قلب شرق المتوسط ومحور دورانه:
يحتوي شرق البحر المتوسط، على كميات هائلة وضخمة من الغاز الطبيعي، وقد ظهرت العديد من الاكتشافات في مجال الغاز، وكان أهمها اكتشاف حقل ظهر المصري، والذي عمل على قلب موازين الطاقة والغاز في شرق المتوسط، بل في العالم أجمع، حيث يمثل الاكتشاف رصيدًا استراتيجيًا واقتصاديًا بالغ الأهمية، سواء لتغطية حاجة الدولة في مجال الطاقة، أو لجهة الارتقاء بأنظمتها الاقتصادية، وتحولها إلى دول مصدرة للغاز الطبيعي والبترول في المستقبل. وعملت الدولة المصرية على تعزيز دورها التاريخي والفعال وقيادتها للتفاعلات في منطقة شرق المتوسط، من خلال عدد من المسارات والتحركات المختلفة بهدف الحفاظ على مصالحها وتعزيز نفوذها في شرق المتوسط، خاصة بعدما أصبحت المنطقة جزءًا من أمن مصر القومي، وعملت مصر على إحياء العلاقات التاريخية مع اليونان وقبرص وبدأت بالعمل على طرح فكرة منتدى غاز شرق المتوسط، والذى أوشك على إتمام عامه الثالث في شهر يناير المقبل، وهو الهيئة التى تأسست في يناير ٢٠١۹ بمشاركة سبع دول، بعد شهر من إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي عنه، ويقع مقره الرئيسي في القاهرة، وتضمن إعلان القاهرة لإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط التأكيد على أنه في وسع أي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز، أو دول العبور ممن يتفقون مع المنتدى في المصالح والأهداف، الانضمام إلى المنتدى لاحقاً، وذلك بعد استيفاء إجراءات العضوية اللازمة.
ويهدف المنتدى إلى إنشاء سوق غاز إقليمية في منطقة شرق المتوسط، وتحسين العلاقات التجارية والاقتصادية بين دول الجوار، والعمل على تأمين عمليات العرض والطلب بين الدول الأعضاء، والعمل على تسريع أوجه الاستفادة من الاحتياطيات الحالية والمستقبلية من الغاز بتلك الدول، بالتزامن مع وجود اكتشافات كبيرة بمنطقة شرق المتوسط لمصادر الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي، وأسهم المنتدى بشكل رئيسي في وضع الدولة المصرية على خريطة الطاقة العالمية وجعلها لاعباً رئيسياً في صناعة الغاز الطبيعي في المنطقة.
وجاء تأسيس منتدى شرق المتوسط كأحد أهم ثمار آليات التعاون الثلاثي المشترك بين مصر وقبرص واليونان التي انطلقت ما بعد عام ٢٠١٤، وتولى الرئيس السيسي سلطة البلاد، وأسهمت من خلال ثمانِ قمم في العمل على توطيد العلاقات التاريخية والاقتصادية بين الدول الثلاث، وتعزيز التعاون علي نطاق واسع، خاصة في مجال الطاقة، إضافة إلى العديد من القضايا الإقليمية بما يصب في مصالح الدول الثلاث والقضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
في سبتمبر عام ٢٠٢٠، شهدت القاهرة توقيع الدول المؤسسة لمنتدى غاز شرق المتوسط على الميثاق الخاص بالمنتدى، وبمقتضاه يصبح منظمة دولية حكومية في منطقة المتوسط تعمل على تطوير التعاون في مجال الغاز الطبيعي، ويحقق الاستغلال الأمثل لموارده.
الأهمية الاستراتيجية للغاز المصري:
رغم أن أزمة الغاز بين روسيا وأوكرانيا لم يكن لها تأثير مباشر على الدول الأوروبية، إلا أن الأزمة كانت كفيلة بلفت أنظار الجميع إلى خطورة تبعيتها لموسكو وشدة اعتمادها عليها فيما يتعلق بتزويدها بأحد أهم مصادر الطاقة الحيوية المتمثلة في الغاز الطبيعي، لاسيما بعد أن اتضح بشكل معلن أن موسكو قد تلجأ إلى التلويح بسلاح الطاقة واستخدامه كوسيلة ضغط من أجل خدمة سياستها الخارجية مع الجوار، كما فعلت مع أوكرانيا، كما يعتقد الخبراء بأن روسيا سعت للضغط علي أوكرانيا، ليس بهدف تحقيق عائد اقتصادي من وراء محاولتها بيعها الغاز لها بأسعار مرتفعة، وإنما عقاباً لها لمحاولتها الخروج عن فلك وسماء موسكو وسعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعزز من هذه الفرضية الاتفاق الذي توصل إليه البلدان من أجل حل الأزمة، والذي لم يجلب مكاسب اقتصادية كبيرة لموسكو.
ورغم أن دول القارة العجوز تستطيع زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي، لكن لوبي المناخ يعارض بقوة هذه الخطوة، معترضًا على تقنية وتكنولوجيا عمليات التكسير الهيدروليكي، والتي تعتمد على ضغط الغاز المحصور أسفل طبقات الصخور لجعله يتدفق على هيئة سائل بسهولة، وهي طريقة تعرضت لسهام الانتقاد، وطريقة اتُّهمت كثيرًا بالتسبب في الزلازل، وتلوث المياه الجوفية، وازداد الأمر تعقيدًا عندما قرر الألمان وقف اعتمادهم على الطاقة النووية بعد انفجار مفاعل فوكوشيما النووي في اليابان عام ٢٠١١، وكذلك بعد توقف الاعتماد على الفحم في العديد من الدول الأوروبية، مثل إيطاليا والمملكة المتحدة، التزامًا بأهداف تخفيض انبعاثات الكربون والتهديدات البيئية العالمية.
وعندما أنجزت مصر معجزتها الواضحة، في بضع سنين، وتحقيق حلم وهدف الدولة الاستراتيجي، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الكهرباء، والعمل على توفير فائض تعدى ١١ ألف ميجا وات بنسبة أكثر من ٢٥٪، سارعت الحكومة المصرية إلى تصدير ذلك الفائض إلى الخارج، والعمل على تعزيز دورها الحيوي في أمن الطاقة العالمي. فعلاوة على امتلاكها إمكانات سعة ٥٠ جيجا وات، تعمل الدولة المصرية على استغلال واستثمار ميزتها الاستراتيجية كمنتج هام للطاقة المتجددة الرخيصة في منطقتي بنبان وجبل الزيت، كما توسعت في تنويع مزيج الطاقة المصري، وشهد العام الحالي أكبر نسبة مشاركة لقطاع الطاقة المتجددة والجديدة، والعمل على زيادة نسبة مساهمة الطاقة المتجددة فيه إلى ٢٢٪ بنهاية العام الحالي. وفى مجال الهيدروجين الأخضر، لم تتوانَ مصر عن استخدام تكنولوجيا الهيدروجين الأخضر؛ لمواكبة التوجه العالمي في تقنيات الطاقة النظيفة، كما تعمل على التوسع في بناء محطات الكهرباء العملاقة، وأنظمة إنتاج الطاقة المختلفة، مثل الرياح والشمس، مع تقليص الاعتماد على محطات الغاز والطاقة الكهرومائية، بما يزيد قدرتها التصديرية عبر شبكات الربط الكهربائي، التى تستند إلى بنية أساسية من شبكات التوزيع والنقل تؤهلها للربط مع محاور مختلفة.
كل هذه المؤشرات أعطت الغاز المصري وقطاع الطاقة بصفة عامة أبعاداً دولية وسياسية وغطاء اقتصادي مهما للعديد من دول القارة العجوز، وأعطته أهمية تخطت الحدود والمسافات والثقافات واللغات، وذلك أيضاً في ضوء التوقعات العالمية بزيادة الطلب العالمي على الغاز الطبيعي، وسوف تتزايد مع التغيرات المناخية التي تشهدها دول العالم حالياً، خاصة باحتفاظ الغاز الطبيعي بلقب الأقل تلوثاً وصديقاً للبيئة من بين مصادر الطاقة الأخرى.
بصفة عامة، أظهرت البيانات والتقارير الصادرة من منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) ارتفاع معدل صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال خلال الشهور الماضية من عام ٢٠٢١ بنسبة ۹٠٠٪ مقارنة بنفس الفترة من عام 2020، وتوقعت فيه أن تحقق الدولة المصرية رقما قياسيا في صادرات الغاز الطبيعي المسال بنهاية العام الحالي، وذلك بفضل استئناف نشاط التصدير بهذه الوتيرة العالية بعد نمو الإنتاج المحلي وتحقيق عدة اكتشافات للغاز والإسراع بتنميتها.
فى الأخير، تحرص مصر على الاستفادة من جميع الموارد للتوسع في مشروعات الطاقة المتجددة واستغلالها في مشروعات الربط الكهربائي، إضافة إلى أن المستقبل يتطلب التعامل مع معطيات عدة، منها الهيدروجين الأخضر، للمساهمة في تقديم الحلول اللازمة والسريعة لتوفير الطاقة بشكل آمن ومستدام.
لم يخفِ أصحاب مشروع الفوضى الخلاقة تخطيطهم لرسم خريطة شرق أوسط جديد، فإذا بالرئيس السيسي يعيد صياغة الخريطة ليقدم شرق أوسط مختلفا عن ذلك الذي عرفه العالم قبل ٦٠ عامًا ويعيد ترسيم حدوده، وأصبح الغاز الطبيعي المصري في عهده ثروة قومية للمصريين، ونوراً للعالم، وملاذاً آمنا للقارة العجوز .