فى مرتفعات التيجراى الشمالية، كان مركز الحكم مستقرا فى جوندار –Gondarحتى بدايات القرن الـ13، حيث بدأ الصراع التيجرانى- الأمهرى لفرض السيطرة. ولم تستطع قومية التيجراى العودة لسدة حكم إثيوبيا، منذ القرن الـ13، إلا مع تنصيب مليس زيناوى فى مايو 1991، بعد صراع مرير ضد الحكم الشمولى بزعامة "منجسنو هايلى ماريام" 1977-1991. فخلال عام 1988، تحالفت جبهات النضال الإثيوبية تحت زعامة جبهة تحرير شعب التيجراى –TPLF ؛ لتوحيد الجهود خلالحرب العصابات ضد الجيش الإثيوبى النظامى (1988-1991). ورغم أن جبهة تحرير أوروميا – OLFكانت شريكا أساسيا خلال مرحلة النضال؛ إلا أن تصاعد التوتر بين قادة الجبهتين –الأورومية والتيجرانية– حدا بجبهة تحرير التيجراى إلى تأسيس المنظمة الديمقراطية لشعوب الأورومو (OPDO) خلال عامى 1989 و1990 –حاليا حزب الأورومو الديمقراطى (ODP)، حيث إن زيادة الأعضاء خلال انتخابات شبه حرة تسفر عن سيطرة الجبهة التيجرانية على السياسة العليا لهذا الاتحاد الائتلافى لأعراق إثيوبيا. لذا، كان ما ادعى "آبى أحمد" بكونه "سياسة تحول نحو الديمقراطية"، هو ما أشعر قادة جبهة التيجراى بخطر التهميش.
لماذا الحرب فى إثيوبيا؟
كان رئيس الوزراء الحالى "آبى أحمد" أحد أعضاء حزب الأورومو الديمقراطى منذ 1991، الموالى للزعامة التيجرانية فى إقليم أوروميا. وبالتالى كان ما حدث من خلخلة وتفكيك للجبهة الإثيوبية الشعبية الثورية الديمقراطية –EPRDF، مع دمج ثمانية أحزاب أخرى لتأسيس حزب الازدهار فى ديسمبر 2019، ثم تأجيل الانتخابات بسبب جائحة كورونا، مع تهميش لأدوار كبار القادة العسكريين والساسة من قومية التيجراى، كل ذلك أدى إلى استشعار قادة الجبهة التيجرانية بأن "آبى أحمد" قد خان ونكث بعهد مناصرته للفيدرالية الإثيوبية – التى على رأس زعامتها التيجراى– إذ كان أحد أعضاء الحكومة الفيدرالية منذ 2010. إثر ذلك، أشعل التيجراى أتون الحرب مع بدايات نوفمبر 2020، وإلى الآن.
ففى 21 نوفمبر 2019، صدَّق الائتلاف الحاكم بإجماع الحضور على الموافقة بدمج ثلاثة من أربعة أحزاب عرقية فى حزب حاكم وطنى واحد قبل انتخابات 2020؛ بينما قاطع حزب التيجراى تلك الجلسة. وقد أعرب آبى أحمد عن أمله فى أن تتمكن إصلاحاته السريعة من منح الفرصة لكثير من الإثيوبيين المحرومين من الانتخاب لعقود بسبب تعالى وسوء معاملة الائتلاف الحاكم[1]، الذى تسيطر عليه جبهة التيجراى. خلال ذلك، وضح التباين فى رأى المجتمع الإثيوبى. فبينما أعرب المؤيدون عن أن دمج عدة أحزاب عرقية فى حزب وطنى واحد، هدفه "هوية إثيوبية موحدة ذات فيدرالية غير عرقية"، هو تعزيز للوحدة الوطنية من خلال إدراج أحزاب عرقية أخرى، كان الائتلاف الحاكم يراهم أقل شأنا من المشاركة الانتخابية؛ بسبب أسلوب حياتهم الرعوية مثلا، فى حين رأى المعارضون أن تعداد سكان إثيوبيا ينم عن العرقية؛ إذ هم نحو 115 ملايين ينتمون لأكثر من 80 قومية، وبالتالى فإن فرض هوية موحدة من خلال حزب سياسى حاكم؛ أمر محكوم عليه بالفشل. أما حزب التيجراى الذى قاطع التصويت، فقد أعرب جيتاشيو رضا، أحد قادته؛ أن آبى أحمد لم يستشر كوادر الائتلاف، كما أنه لم يتبع الإجراءات الصحيحة فى التصويت، وأنها عملية خادعة[2]، مشيرا إلى رغبة آبى أحمد فى الاستئثار بالسلطة.
هكذا، بدا أن قادة التيجراى ليس لديهم النية فى التخلى عن السلطة؛ ومن ثم بدأت الحرب فى نوفمبر 2020، حيث تذكرت قومية التيجراى ماضيها العتيد فى فنون حرب العصابات.
سياسة الأرض المحروقة:
على الرغم من مزاعم آبى أحمد بعدم استهداف المدنيين؛ إلا أن التقارير الدولية عن الوضع الإنسانى تعكس مدى وحشية الصراع، حيث تشير إلى استهداف الفتيان فوق سن الرابعة عشرة للقتل، كما أنه تم استخدام الاغتصاب كسلاح من طرفى الصراع[3]. ورغم أن إقليم تيجراى كان المستهدف، إلا أن منطقة بنى شنقول-جوموز فى غرب إثيوبيا، خاصة مدينة ميتيكال؛ لم تسلم من الهجمات[4]. كما أن إقليم الأمهرا قد تعرض أيضا لهجمات من قبل القوات الإريترية، حيث تم إعدام وذبح مئات المدنيين ودفنهم فى مقابر جماعية فى مدينة أكسوم، وأضاف الناجين أن سكان أكسوم كانوا فى حالة صدمة من عنف الجنود ونهبهم[5].
لقد أسفرت تلك الحرب، حتى الآن؛ عن تشريد ونزوح مئات الآلاف كلاجئين، إما داخل إثيوبيا أو نحو السودان، وفقد عشرات الآلاف حياتهم خلال القصف العشوائى، أو بمنهجية تجويع الشعب، ومنع وصول المعونات الإنسانية[6]. كما تشير الأخبار إلى أن الحكومة الإثيوبية أصبحت تستهدف اعتقال الأشخاص وفقا لكونهم من قومية التيجراى[7].
سيناريوهات الصراع:
تسعى كل من جبهة التيجراى والجناح العسكرى لجبهة أوروميا إلى الاستقلال، وهو ما سيشكل خطرا فعليا وتأجيجا للصراع العرقى، ليس فقط فى إثيوبيا، بل فى المنطقة ككل، إذا ما حدث؛ إذ يهدد استقرار الحدود السياسية لدول الجوار. ورغم تعليق العمل بالدستور الفيدرالى مؤخرا؛ فإن المادة 40 منه تتعارض مع البند الثالث من المادة 39، والتى تمنح القوميات الإثيوبية الحق فى تقرير المصير. وهذا الدستور الفيدرالى نفسه، هو ما تحارب جبهة التيجراى من أجله.
أما حال ما استطاعت الحكومة الإثيوبية إعادة سيطرتها، وهو السيناريو الثانى، فليس من المؤكد إقرار الديمقراطية؛ إذ تشير الأوضاع الحالية إلى تفاقم النعرة العرقية، مما يحتمل معه زيادة التهميش لبعض القوميات غير المتعاونة. كما أن احتماليات التنكيل بقومية التيجراى تحديدا واردة، خاصة أن الأداء الحكومى فيما تعلق بالمساعدات الإنسانية يوضح منهجية التنكيل.
أما السيناريو الثالث؛ والذى أشار إليه قادة التحالف المضاد، فإنه يحتمل أن يكرر قادة التيجراى ما نجحوا فيه خلال إسقاط الفاشية العسكرية فى 1991. وبالتالى، وارد أن تسقط أديس أبابا، ليتم إعادة تشكيل الوضع السياسى على أساس فيدرالى قد لا يضمن تفاعل جميع القوميات فى سياسة بلدهم.
أما السيناريو الرابع، فيتشابه مع الأول جزئيا؛ إلا أن الوضع سوف يحتم على حكومة آبى أحمد الرضوخ لمبدأ "بقاء الحال على ما هو عليه"، حيث يتم تسوية الأزمة من خلال التفاوض على بقاء سيطرة جبهة التيجراى على المدن الاستراتيجية، بالإضافة إلى منحهم السيطرة على إقليم التيجراى، وهو سيناريو يشبه -إلى حد كبير- تأسيس دولة داخل الدولة.
ويتعلق السيناريو الخامس والأخير أيضا بمبدأ التفاوض؛ إذ قد يدفع الضغط الدولى كلا الطرفين إلى مفاوضات لتسوية الأزمة سلميا. وخلالها قد يتم الرجوع لتفعيل الدستور الإثيوبى، مع طرح فكرة حزب الازدهار جانبا، والعودة إلى الحزب الإثيوبى الشعبى الثورى الديمقراطى –EPRDF، ولكن مع بعض التعديلات؛ من احتماليات قبول قوميات إثيوبية أخرى لم يكن لها وجود على خريطة السياسة الداخلية قبل الأزمة.
المجاعة على الأبواب:
إجمالا؛ يشى الوضع الإنسانى المتردى والسياسى المتأزم فى إثيوبيا، خاصة مع تعنت طرفى النزاع رغم التلويح بعقوبات اقتصادية[8]؛ إلى احتماليات تصاعد الأزمة، الأمر الذى يهدد ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص للمجاعة وانعدام الأمن.فى حين أن ما لا يقل عن مليون شخص يواجهون خطر مجاعة فعلية الآن مع نقص شديد فى الخدمات الطبية؛ نظرا لما تتعرض له قوافل المساعدات الإنسانية لإقليم التيجراى من مخاطر، نتيجة للقصف المتبادل بين الطرفين معظم الوقت، هذا بالإضافة إلى ما يتعرضون له من مضايقات من جانب الحكومة الإثيوبية، بل وقتل فى بعض الأحيان[9].
هكذا، تنبئ الأوضاع بدخول البلاد إلى نفق مظلم في صراع لن ينتصر فيه أحد، والجميع خاسرون ما لم يتم إيجاد سيناريو يحقق بعض المكاسب لكل الأطراف وتحفظ الكرامة لأعراقهم، مقابل بعض التنازلات من أجل وحدة الصف وعودة الاستقرار للبلاد.
المراجع: