من المعلوم أن السكان هم العنصر الأهم من عناصر الإنتاج بالتكامل مع عناصر الموارد الطبيعية، ورأس المال، والتنظيم. فالسكان هم من يقومون بالتنظيم، وتدبير رأس المال، والاستفادة من الموارد الطبيعية. ومع أهمية عنصر السكان، يظل توازن مكونات عناصر الإنتاج هو ضمانة النجاح في خلق إنتاج حقيقي يؤسس لتنمية، ترتفع بها مُستويات معيشة الشعوب.
ويذهب باحثون إلى أن المُعدل المثالي لزيادة السكان في العالم يتعين أن يكون نحو 2.1 طفل لكل امرأة، وهو مُعدل قريب من الواقع الحالي، ولكن القضية ليست في المعدل العالمي، وإنما فيما يُمكن رصده من دول تُعاني من مُشكلات انخفاض أعداد السكان وشيخوخة معظمهم، مثل اليابان، وكرواتيا، وبلغاريا، وغيرها، وتلك الدول لابد لها أن تعمل على تشجيع الإنجاب، بل وجذب أفضل العناصر من الخارج للمُشاركة في صناعة التنمية بها، ودول أخرى تُعاني من ارتفاع كبير في مُعدل زيادة سكانها، مثل الصين، والهند، ومصر. وقد فرضت الصين سياسة الطفل الواحد للأسرة في المناطق الحضرية مُنذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي بصورة منعت أكثر من 400 مليون حالة ولادة قبل أن يتم التخفيف من ذلك والسماح للأسر بإنجاب طفلين اعتباراً من عام 2015، مُراعاة للتوازن السكاني. بينما استخدمت الهند آليات أخري، أهمها التعقيم القسري للنساء، والوضع يختلف في مصر التي لا تتناسب معها الآليات الصينية أو الهندية للتعامل مع تلك القضية.
وتتلخص مُشكلة السكان في مصر في تضاعف عددهم 3 مرات مُنذ عام 1987 حتى عام 2021، مما يعصف بتوازن عناصر الإنتاج التي يُمكن أن تُحقق الحياة الكريمة للمواطنين. فلا يخفى على أحد أن مشكلة مصر الاقتصادية تتمثل في عدم كفاية الإنتاج والخدمات في تغطية احتياجات السكان الذين تجاوز عددهم الـ 100 مليون نسمة، ومهما تكن طريقة التنظيم والإصلاح الاقتصادي، فإنها لن تُجدي نفعاً، دون التعامل مع قضية السكان التي تتجاوز خطورتها مسألة زيادة أعدادهم، إلى محاور أخرى أهمها أن تركيبة السكان معظمها شابة، أو في سن العمل. فوفقاً لتعداد 2017، نجد أن 61.9% في سن العمل من 15 إلى 64 عاماً، ومنهم نسبة 26.8% في سن من15 إلى 29 سنة، مما يعبر عن امتلاك الاقتصاد طاقة بشرية هائلة يمكن أن تكون حافزا للنمو، سيما وأنها بمثابة عمالة رخيصة نسبياً، وقوة شرائية كبيرة تحتاج لتغطية متطلباتها المختلفة، مما يمثل سوقا كبيرا تعد في ذاتها حافز للاستثمار، ويكون ما تتلقاه من أجور حال تشغيلها بمثابة الوقود الذي تتحرك به آلة الاقتصاد وتتحسن المعيشة للمجتمع، ولكن يقف أمام ذلك عدم وجود المشروعات الكافية لتشغيلهم، فضلاً عن أن النسبة الغالبة من القوى العاملة لا تتناسب مهاراتها مع مُتطلبات سوق العمل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى دفعة أكبر فيما تقوم به مصر في مجال تطوير التعليم ليتناسب مع مُتطلبات المُستقبل، وتبدو العقبة الأكبر في عدم توافر المدارس الكافية في ظل عدم وجود مساحات من أراضي صالحة لبناء مدارس حديثة في مُعظم المُدن القديمة مع تركز السكان في نحو 7% فقط من مساحة مصر، وهو الأمر الذي خلق حتمية إعادة انتشارهم بما يضمن لهم حياة أفضل جودة بعيداً عن مُشكلات التزاحم في الوادي والدلتا، ويظل التمويل هو التحدي الأكبر لتنفيذ مُخططات زيادة الرقعة المعمورة بمصر لتصل لنحو 14% عام 2052، حيث تسير مصر نحو هذا المُستهدف بكل قوة من خلال زيادة أعداد المُدن والتجمعات السكنية الجديدة، والتي تُساعد على خلق فرص العمل فى أثناء إنشائها وما يرتبط بها من طرق وبنية تحتية، وتفتح الباب أيضاً لتشجيع استثمار القطاع الخاص بالداخل وجذب استثمارات خارجية في سوق تحتاج لما يزيد عن 800 ألف فرصة عمل جديدة سنوياً، وهو الأمر الذي يحتاج لتمويل واستثمارات هائلة، مع ارتفاع تكلفة فرصة العمل الواحدة لأكثر من 100 ألف جنيه.
ومع حتمية التعامل على المحاور السابقة، وغيرها، يظل ارتفاع مُعدل زيادة الأعداد هو أخطر عناصر المُشكلة، حيث يتعين الحد من إضافة أعداد جديدة من المنبع حتى يتسنى التعامل مع حاجات السكان الحالية. القضية ليست جديدة، ولكن التعامل السابق معها كان أقل شمولية ومحدود النتائج، وقد بدأت مصر العقد الثاني من القرن الحالي بخطة أكثر شمولية تتضمن محاور منها الاهتمام بخدمات تنظيم الأسرة، خاصة في المناطق الريفية، وتوفير الأرصدة الكافية من وسائل تنظيم الأسرة، وإتاحة خدمات الصحة الإنجابية، مع زيادة أعداد العيادات المتنقلة للمناطق العشوائية والمحرومة، ورفع قدرات ُمقّدمي الخدمة، وتطوير مناهج تدريب الأطباء والممرضات، فضلاً عن توعية الشباب بخطورة الزيادة السكانية، وتكثيف الحملات الإعلامية في ظل تشجيع للجمعيات الأهلية للقيام بدورها في مجال تقديم خدمات تنظيم الأسرة، والأهم هو العزم على صياغة الخطاب الديني لتصحيح القيم الخاطئة والمناهضة لتنظيم الأسرة، مع العمل على التصدي الإيجابي الذي يتجاوز مرحلة التوعية إلى أن تكون هناك إجراءات حازمة للتعامل مع تلك الأزمة، مثل الإعلان عن تطبيق صارم لقوانين منع تشغيل الأطفال، حتى لا يُنظر إليهم كمصدر للدخل، وتطبيق الحوافز الإيجابية للأسر الملتزمة.
والأمر لا يزال يحتاج لتدخلات أكثر إيجابية، من خلال وضع قيود على الإنجاب غير المُنضبط، لنكون أمام أسر صغيرة أكثر قُدرة على تحفيز أفرادها للعمل والإنتاج وخلق فرص عمل ذاتية تُضاف لما تُخطط له الدولة. ومع حقيقة أن عقد الزواج لم يعد من طرفين، وإنما هو عقد تدخل فيه الدولة كطرف ثالث تتحمل عنه التزامات مالية واجتماعية لما ينتج عنه من أطفال، فإنه يحق لها أن تتدخل بإضافة شروط بالعقد تتعلق بعدد الأطفال وتقرير إجراءات ضد المُخالفين لذلك، مثل حرمان من ينجب الطفل الثالث من التعيين بالجهاز الإداري، أو تأخيره في الترقي، أو حرمانه من تولي المناصب القيادية، ومنعه من الترشح في الانتخابات بأنواعها. بينما يتم تُقرير حد إعفاء ضريبي أكبر للأسر الأقل عدداً، وعلاوة لراتب السيدة التي تصل إلى سن الخمسين إذا التزمت بطفلين، وتقرير نسبة من زيادة معاش التقاعد لمن يصل لتلك السن دون أن ينجب أكثر من طفلين، ولعل ذلك يكون مُتفقا مع مبدأ المُساواة في الحقوق المُقرر دستوريا، بحيث لا يحصل من يُنجب كثيراً على حقوق من الدولة أكثر من الذي يُنجب أقل، ليكون الهدف في النهاية هو تكوين أسر صغيرة سوية، تستطيع الحياة اللائقة، وتُضيف للاقتصاد، كل ذلك إلى جانب أهمية الوصول للشرائح المُستهدفة بحملات توعية، من خلال الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتصحيح المفاهيم وعرض التجارب الدولية التي تعاملت مع تلك المُشكلة، وكيف أن كل تطور إيجابي في تلك القضية سوف يكون الضمانة الأساسية لخلق التنمية وتحقيق استدامتها، مما ينعكس تدريجاً على تحسين مُستويات الحياة بصفة عامة.