عرفت صناعة الغاز الطبيعي العالمية تطورات كبيرة بكل المقاييس طوال السنوات الثلاثين الماضية، فعلى صعيد الحجم، تضاعفت الاحتياطيات بمقدار الضعف تقريباً، في الوقت الذي ارتفع فيه معدل النمو في الاستهلاك السنوي، مع ارتفاع الاستهلاك العالمي من إجمالي الطاقة، وأدركت الحكومات أن هذا القطاع الحيوي يكتسي أهمية بالغة، نظراً لأبعاده الاستراتيجية، وتعاظمت الأهمية الاستراتيجية لهذا الوقود بعد أزمات سنوات السبعينيات، حيث شهد هذا القطاع إصلاحات هيكلية، سعت الحكومات إلى فتحه أمام المنافسة الحرة، وتقليص تكاليفه وتطوير عائداته الاقتصادية، وتعززت فرص الغاز الطبيعي في تلبية الحصة المتزايدة من الطلب على الطاقة الأولية بفعل مساهمة الغاز الطبيعي باعتباره من الطاقات الصديقة للبيئة في تخفيض انبعاث ما يعرف بالغازات الدفيئة، نتيجة استخدامه في كافة القطاعات جراء تجنب استخدام النفط، أو حتى الفحم، وزيادة مستوى احتياطيات الغاز المتوافرة حاليا، وإمكانية حصول زيادات جوهرية عليه في المستقبل.
وعليه فإن المجتمعات الحالية تسعى لتوسيع استخدام الغاز الطبيعي في كافة القطاعات، فالدول المنتجة للطاقة تعمل من أجل الاستجابة لطلبات السوق المحلي، والدول الأوروبية تسعى للاستجابة للتوجيهات الإيكولوجية، الدول الأسيوية لإنعاش النمو الاقتصادي والولايات المتحدة من أجل تقليص التبعية الطاقوية. ونظرا للأهمية البالغة التي حظي بها الغاز كطاقة أولية طوال العقود الثلاث الماضية، بات من الضروري مناقشة الدور المستقبلي للغاز الطبيعي في أسواق الطاقة، في ظل التوازنات الدولية الراهنة مقارنة بالنفط، والفحم أو الطاقة المتجددة، لما يوفره من فرص تتعلق بالتكلفة، وشروط البيئة العالمية، وكثرة الإنجازات المرتبطة بتطبيقات الغاز و استخداماته.
فيما تواصل أسعار الغاز ارتفاعها الجنوني، وتسبب النقص في إمدادات الطاقة إلى الصين بتوقف العمليات في المصانع الكبرى التي تزود شركات، مثل تيسلا وأبل، مما أدى إلى خفض الإنتاج وتراجع توقعات النمو الاقتصادي للبلاد، وتقوم الصين حالياً بترشيد استخدام الفحم ومصادر الطاقة الأخرى لضمان الحفاظ على إمدادات الطاقة للمنازل خلال موجات البرد. وسيدفع هذا النقص في إمدادات الطاقة الشركات إلى رفع أسعار السلع للمستهلكين الصينيين، مما سيتسبب في تسريع معدلات التضخم.
ما الذي يحدث عالمياً على صعيد الطاقة، ولماذا هكذا ومرة واحدة تنطلق أزمة نقص الإمدادات، لتضرب أسواق الغاز الطبيعي والكهرباء على مستوى العالم من أوروبا حتى الصين؟
أزمة الغاز الحالية:
تضاعف أسعار الغازعدة مرات منذ بداية جائحة كورونا وحتى الآن في أوروبا، يضع القارة العجوز أمام جملة من التحديات المفصلية التي تؤثر فى مختلف القطاعات، مع زيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال حول العالم. وتواجه أوروبا أزمة نقص غير مسبوقة في إمدادات الغاز، تعد الأخطر منذ عقود، يقابلها في الناحية الأخرى مستفيدون من ارتفاعات أسعار الغاز العالمية من جانب الدول المُصدرة.
ارتفعت أسعار الغاز بنسبة تصل إلى نحو ٥٠٠ بالمئة هذا العام في أوروبا، مدفوعة بانخفاض المخزون مع زيادة الطلب مع عودة النشاط الاقتصادي الصناعي. وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى احتماليات تواصل استمرار ارتفاع الأسعار خلال الشهر المقبل أيضاً، وقبيل حلول فصل الشتاء، بما يزيد الضغوط على المستهلكين، كما تواجه الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة أزمة تتفاقم يوماً تلو الآخر مع تصاعد أزمة الغاز، وبشكل خاص القارة العجوز.
في يوليو الماضي، تراجعت إمدادات الغاز الطبيعي المسال التي دخلت خطوط الإمداد الأوروبية، إلى أدنى مستوياتها منذ ثلاثة أعوام، بينما تعد توقعات الأشهر المتبقية من عام ٢٠٢١ أشد ظلاماً، حيث من المنتظر وصول شحنة واحدة فقط إلى المملكة المتحدة، ومن المتوقع أيضاً أن يُصدّر المُتداولون، الذين يمتلكون خزانات للغاز في إسبانيا، ست شحنات إلى آسيا، ليستفيدوا من الأسعار الأعلى هناك. ويأتي ذلك في وقت تتدفق فيه كميات غاز أقل من روسيا إلى أوروبا، مما يهيئ القارة لمواجهة شتاء قارص، في حال وصلت درجات الحرارة إلى التجمد، وفي ظل انخفاض المخزونات إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقد، باتت أسعار الغاز في أوروبا في حالة تقلب مستمرة، محطمة الأرقام القياسية مرة بعد أخرى، وذلك مع حالة تأهب تعيشها السوق، بانتظار تحديثات حول الإمدادات الجديدة التي ستأتي عبر خط أنابيب نورد ستريم الذي لم يكتمل بعد، والذي يربط بين روسيا وألمانيا.
رويداً رويداً تتبدّى الأسباب، وفي مقدمتها بلا شك سرعة دوران عجلة الاقتصاد الأوروبي بعد رصاصة الكورونا القاتلة، تلك التي أوقفت المصانع وقطعت وسائل المواصلات خلال فترات حظر الطيران. ولذا عندما عادت الحياة إلى ما يشبه نصابها الطبيعي، تبدّى العجز واضحاً في مخزونات الغاز تحديداً، الذي تعتمد عليه دول القارة الأوروبية أكثر من النفط.
الإنتاج الأوروبي:
يفوق الغاز الذي تستورده الدول الأوروبية من الدب الروسي، والذي يمثل نسبة ٣٥٪ من إجمالي الغاز المستورد ما تحصل عليه هذه الدول من أكبر منتجي القارة،وسيطرة شركة غازبرومالروسية على سوق الغاز في القارة العجوز، وفي الوقت الذي تسعى فيه موسكو لرفع مخزونها من الغاز قبل الشتاء، تسابق دول أوروبا الزمن لملء مستودعاتها من الغاز قبيل الفصل نفسه.
وفي ظل انخفاض الإنتاج المحلي، واحتمالية إغلاق حقل غاز خرونينجن العملاق في هولندا، قبل ثلاثة أعوام من الموعد المحدد، أصبحت القارة أكثر اعتماداً على السوق العالمية المتقلبة للحصول على الغاز الطبيعي المسال اللازم للحفاظ على تدفئة المنازل وإبقاء الأضواء تعمل خلال الشتاء. ومع ذلك، فإن نقص الإمدادات في آسيا يشير إلى أن الدول من الصين، إلى اليابان، وكوريا، ستكون مستعدة لدفع المزيد من أجل الحفاظ على إمدادات الغاز، بل وحتى، الاستحواذ على الإمدادات المخزنة منه في الخزانات الإسبانية.
أسباب الزيادة الكبيرة فى أسعار الغاز الطبيعى
أبعاد الأزمة الأوروبية:
العالم يشهد ارتفاعاً في أسعار الوقود بشكل كبير، وأن الارتفاعات القياسية في سعر الغاز تؤثر تأثيراً مباشراً على كثيرٍ من الدول في أوروبا بصفة عامة، بينما شهد سعر العقود الآجلة للغاز في أوروبا ارتفاعات غير مسبوقة. وترجع حالة التقلبات في الأسعار إلى عدة أسباب رئيسية، أولها ما يشهده العالم من تعافٍ اقتصادي قوي بعد جائحة كورونا التي أغلقت على أثرها المصانع والشركات الكبرى والقطاع الصناعي في أوروبا بشكل خاص، لاسيما في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، وبدأ يعود بشكل كبير بعد توقف كورونا، مما أدى لارتفاع الطلب على الغاز. وفي الوقت نفسه لا تزال معدلات الإنتاج كما هي دون تغير.
ويصل الإنتاج الروسي من الغاز إلى نحو ٦٦۹ مليار متر مكعب، فيما تصل صادراتها منه إلى ١۹٧ مليار متر مكعب، كأكبر مصدر للغاز في العالم، ونقلت بلومبيرج عن محللين مطلع الأسبوع، أنباءً حول اتجاه الشركة الروسية غاز بروم لرفع توقعاتها حول السعر الذي سوف يتم تصدير الغاز إلى أوروبا وتركيا به خلال العام الجاري، من ٢٧٠ دولاراً إلى ما بين ٢۹٠ و٣٣٠ دولاراً لكل ألف متر مكعب، وتتوقع روسيا زيادة إمداداتها لأوروبا وتركيا والصين إلى ١۹۸ مليار متر مكعب هذا العام.
تعد بريطانيا وإيطاليا من أكثر الدول الأوربية تأثراً بتلك الأزمة. وفي الوقت نفسه، لا توجد دولة مستفيدة من هذه الأزمة، بما في ذلك روسيا، بالنظر للآثار الاقتصادية لأزمة الغاز في أوروبا التي تطول الجميع، وتسهم في اضطراب المؤشرات الاقتصادية مع رفع نسب التضخم، ومشكلات أخرى، مثل ما تعرض له قطاع النقل- على سبيل المثال- في بعض دول أوروبا.
أبرز المستفيدين:
مصائب قوم عند قوم فوائد، يُنظر إلى تلك الأزمة باعتبارها فرصة للمصدرين، الذين يتأهبون لاغتنام الفرصة لتحقيق مكاسب استثنائية خلال تلك الأزمة، وبالاستفادة من الارتفاع العالمي لأسعار الغاز، وعلى رأسها روسيا، وتنضم إلى القائمة الولايات المتحدة الأميركية، والنرويج، وأستراليا، وكندا، وهولندا، وماليزيا، والجزائر، ومن الممكن إن يلعب العامل الجغرافي دوراً مهماً في ذلك الأمر، فدولة مثل أستراليا- على سبيل المثال- من أكبرالدول المصدرة للغاز، لكن العامل الجغرافي ليس في مصلحتها بالنظر إلى تكلفة النقل، وهو جزء مهم ورئيسي في أي جدوى اقتصادية، وأن دولة مثل مصر يمكنها الاستفادة من تلك الأزمة أيضاً، لاسيما أنها تمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وأصبحت لديها قدرة تصديرية، وبالتالي فإن مصر كموقع جغرافي وقدرات واضحة، يمكنها أن تكون مستفيدة من ارتفاع أسعار الغاز على المستوى العالمي، وبشكل خاص في ظل وجود علاقات سياسية ودبلوماسية مع دول الاتحاد الأوروبي، تنعكس على العلاقات الاقتصادية والتجارية. فدول الاتحاد الأوروبي هي دول صناعية في المقام الأول، وتعتمد على الطاقة بشكل كبير جداً، وبالتالي فإن الأزمة الراهنة يمكن أن تعزز من دور مصر وتعود عليها بالإيجاب، كما يعود على دول أوروبا أيضاً التي تئن مع نقص الإمدادات.
في الأخير، إن أزمة الطاقة في أوروبا من الممكن أن تمتد، لتشمل بقية بلدان العالم، حيث سيؤدي الشتاء القارص المقبل إلى دفع الطلب على الغاز الطبيعي فوق العرض المتضائل بالفعل، مما يتسبب في وقوع المزيد من البلدان ضحية لنقص الطاقة في الصين، وقد يضطر القطاع الصناعي بما في ذلك مصانع الخزف والزجاج والأسمنت إلى رفع الأسعار، وستعاني الأسر فى البرازيل من ارتفاع أسعار الكهرباء، والاقتصادات التي لا تستطيع تحمل ارتفاع تكاليف الوقود، مثل باكستان وبنجلاديش قد تصاب بالشلل.
مع بلوغ الطلب الآسيوي ذروته في الصيف، سيبدأ الطلب في الانخفاض في الخريف، وبالتالي قد تجذب أوروبا أخيراً إمدادات الغاز الطبيعي المسال مرة أخرى، وقد يمنحها هذا الأمر حالة من الاسترخاء في نوفمبر ٢٠٢١، ولكن سيظل السؤال الذي يطرح نفسه: هل تنطلق أزمة الغاز إلى دول العالم؟