قبل أن ينصرم شهر سبتمبر، وبعد القرارات الرئاسية في الخامس والعشرين من يوليو الماضى بتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، كلف الرئيس التونسى قيس سعيد السيدة نجلاء بودن برئاسة الحكومة وتشكيل الوزارة الجديدة فى "أقرب الآجال" كخطوة نحو الاستقرار الحكومى فى مرحلة التدابير الاستثنائية، وتولى "المهمة العاجلة"، بالتفاوض مع المانحيين الدوليين وتنفيذ برنامج وسياسات الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.

يتعامل الجيولوجيون مع بنية الأرض الصلبة وغير المتصلبة، والصخور والمواد السابئة، وفحص ما تحت سطح الأرض وما فوقها([1])، وربما تقدم بودن المتخصصة فى الجيولوجيا نموذجا تكنوقراطيا وإصلاحيا فريدا، وتتعاون مع الرئيس على أكمل وجه فى سياساته وتوجهاته المزمعة بدون أن تتجاذبها الرغبات أو التفضيلات الحزبية الضيقة.

فى ضوء ذلك، تحاول هذه المقالة التحليلية طرح قراءة أولية للتكليف الرئاسى فى سياق المضى خطوةٍ نحو الاستقرار الحكومى، واستكشاف تبعات ذلك بالنسبة لإمكانية بلوغ سياسات الرئيس لأهدافها فى إعادة بناء المؤسسات، وتصميم النظام السياسى ما بعد التدابير الاستثنائية.

التكليف الرئاسى بتشكيل الحكومة الجديدة وصلاحياتها:

ينتشر فى العديد من النظم التى تمر بفترة اضطرابات سياسية، أو تتبنى أيديولوجيات ذات طابع دينى أو قومى محافظ، الاعتماد على هيمنة أغلبية/ أو أكثرية حزب سياسى، أو تحالف واحد على نشاط البرلمان، ووجود قيود وحدود أمام التنافس السياسى. وإن كان يحق للمعارضة البرلمانية مباشرة الوظائف التمثيلية، إلا أن تشكيل البرلمان ينعكس على صدور قرارات وتشريعات لمصلحة السلطة التنفيذية. وبالرغم أنه لا توجد أيديولوجية صارمة ومنسجمة تتبعها جميع تكوينات المجتمع، إلا أن هذه النظم تلجأ للتلاعب بقضية التماسك الوطنى فى وقت الحاجة الملحة([2]). فى هذا السياق، نجد النظام السياسى التونسى ما قبل 25 يوليو 2021، الذى صار على خطى ممارسات حكم الإخوان المسلمين قبل أفول أحزابه فى الوطن العربى، إلى أن بدأت التدابير الاستثنائية للرئيس التونسى قيس سعيد التى تعتبر محددا رئيسيا لإعادة هيكلة قواعد الديمقراطية، وتحديد شكل النظام السياسى التونسى، وإضفاء الشرعية على هذا الشكل المؤسسى المزمع الانتقال إليه. ويتوقف نجاح ذلك على تفاعلات النظام السياسى مع مكونات البيئتين الداخلية والخارجية، وموقع المعارضة السياسية داخل هذا النظام، وقدرة القيادة السياسية والنخبة الوزارية الحاكمة فى الحفاظ على بقاء أو استمرار النظام السياسى ذاته. فى ضوء هذا التفسير، يمكن فهم وقوع ممارسات معينة أو اتخاذ قرارات محددة، ولماذا ترتب نتائج بذاتها؟ هذا ما ينسحب على التدابير الاستثنائية للرئيس سعيد، والتى بدأت بتعليق عمل البرلمان وإقالة الحكومة، ووصلت إلى تعطيل الدستور، وبدء عملية تغيير النظام السياسي في تونس.

فى هذا الإطار، وإعمالاً لأحكام الأمر الرئاسي عدد (117) لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021([3])، والمتعلق بالتدابير الاستثنائية للحكومة، خاصة الفصل (16) منه، كلف رئيس الجمهورية قيس سعيد، يوم الأربعاء الموافق 29 سبتمبر 2021، السيدة نجلاء بودن حرم رمضان رئيسة للوزراء، على أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في "أقرب الآجال"، وتولي "المهام العاجلة" لإنعاش الاقتصاد المتعثر وتحسين الخدمات العامة، مثل الصحة والنقل والتعليم، ومكافحة الفساد فى المؤسسات الحكومية، والإصلاح الإدارى. كل ذلك فى سياق طبيعة الظروف التى تشهدها البلاد، وقرارات الرئيس الإصلاحية التى تحدد الخيارات الراهنة فى المشهد التونسى، حيث وضع الرئيس نظاما مؤقتا للسلطات بموجب الأمر الرئاسي سالف الذكر، وجعل صلاحيات رئاسة الحكومة المؤقتة وفقًا للفصل (17) يتمثل فى تنفيذ السياسة العامة، ومرتبطة بما يضعه رئيس البلاد من اختيارات وتوجيهات، حتى إن الفصل (19) يؤكد أن دور رئيس الحكومة يتعلق بتسيير وتنسيق أعمال دواليب الإدارة العامة للدولة تبعًا للتوجهات التى يضبطها رئيس الجمهورية، وذلك كما ينص الفصل (19). ويبدو كل ذلك كسياق تمهيدى لإحداث تغييرات سياسية مقرراً أن تشمل تعديل الدستور ونظام الحكم والقانون الانتخابي([4]).

سيرة السيدة نجلاء بودن والتماهى مع الإصلاحات الرئاسية:

رئيسة الحكومة الجديدة نجلاء بودن من مواليد 1958، وتتضمن سيرتها العلمية والمهنية أنها حاصلة على شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا 1987 من المدرسة الوطنية العليا للمناجم بباريس، وهى أستاذة تعليم عالٍ في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، وقد تم تعيينها مديرة عامة مكلفة بالجودة بوزارة التعليم العالي منذ عام 2011، وشغلت منصب رئيسة وحدة تصرف بحسب الأهداف لإنجاز مشروع إصلاح التعليم العالي 2015، وكانت تشرف قبل تكليفها برئاسة الحكومة على خطة مكلفة بتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي([5]).

تعتبر نجلاء بودن أول امرأة عربية تترأس حكومة فى منطقة الشرق الأوسط، كما أنها لا تنتمى إلى أحزاب أو قوى سياسية، مثل الرئيس سعيد ([6]). ويذكر أن الرئيس التونسى قد انتقد عدم تمثيل المرأة بالتشكيل الوزارى فى يناير 2021، فى رسالة للبرلمان تتعلق بجلسة منح الثقة للوزراء المقترحين ضمن التعديل الوزارى لرئيس الوزراء السابق هشام المشيشى([7]).

الحكومة الجديدة .. تشكيل مرتقب وملفات منتظرة:

لا شك فى أن تردى الاقتصاد وتفشى الفساد لهما دور في نشوب الاضطرابات الشعبية والتأثير على اهتزاز شرعية الأنظمة السياسية القائمة، وأى تسويف للمشكلات الاقتصادية، أو عدم وجود تحسن اقتصادى ملموس، يعد أمرا بالغ الخطورة قد تدفع ثمنه الأنظمة القائمة سياسيا.ولا بد أن تسعى الحكومات إلى تلبية متطلبات الشارع في الوصول بالمواطنين إلى حال أفضل وتنمية أعلى، والحفاظ على الدولة وتثبيت أركانها.

وترتيبا على ما سبق، من المتوقع أن ملامح التشكيل الوزارى الجديد، في ظل الظروف الاستثنائية، كما يلى:

- من المرجح أن يكون فريق حكومى يغلب عليه الطابع التكنوقراطى بالأساس، مع وجود بعض الشخصيات المحسوبة على أحزاب سياسية أو قوى مجتمع مدنى، أيدت تدابير الرئيس الاستثنائية، وأن يضم التشكيل الجديد عددا متزايدا عن الحكومات السابقة من النساء الوزيرات([8]).

- إن الشروط الواجب توافرها فى أعضاء الحكومة المقبلة، هى: "نظافة اليد"، بمعني ألا يكون لهم أي سابقة تتعلق بالفساد المالي، أو السياسي، أو التمويل الخارجي، أو استغلال موارد الشعب، وكفاءة هؤلاء في التعامل مع الملفات الراهنة التي تواجهها الدولة، والبدء في إيجاد حلول ومعالجات ناجعة، فضلا عن التماهي بين هذه الشخصيات مع مشروع الرئيس الذي يسعى إلى تنفيذه خلال الفترة المقبلة([9]).

- من المرتقب أن الفريق الوزارى سيتشكل من ثلاث مجموعات: الأولى هى المجموعة الوزارية الأمنية وستكون مهمتها معالجة الحالة الأمنية الراهنة والتصدي لمحاولات التخريب أو الفوضى. بينما الثانية هى المجموعة الوزارية الاجتماعية، وتتولى بمعاونة وإشراك المجالس البلدية والجهوية، مهمات سياسات القرب والحياة اليومية للمواطنين وتحسين الخدمات الأساسية، إضافة إلى مهمة مواجهة الوضع الصحي المتفاقم جراء انتشار فيروس كورونا وتداعياته على القطاعات الأخرى. أما الثالثة والأخيرة فهى، المجموعة الوزارية الاقتصادية، وتتكون من الوزراء الذين تقع على عاتقهم أيضاً مهمة تنفيذ السياسات الاقتصادية والنقدية لمواجهة الأزمة الاقتصادية، ومكافحة الفساد، وتنظيم الأسواق([10]).

كما أن هناك عدة ملفات عاجلة تتنظر الحكومة الجديدة، منها استئناف التفاوض والمحادثات مع صندوق النقد الدولي التى تم تعليقها منذ إعلان التدابير الاستثنائية. فتونس تعانى من أزمة مالية متراكمة وحادة والركود الاقتصادي الذي تفاقم بسبب جائحة فيروس كورونا. فقد شهد الاقتصاد التونسي معدل نمو بمتوسط (1.8%) بين عامي 2011 و2021. كما انكمش الاقتصاد التونسي بنسبة (8.8%)، والناتج المحلي الإجمالي بنسبة (9%)، وتراجع العجز التجاري إلى نحو (11.2%) من الناتج الإجمالي المحلي، وذلك عام 2020. ويتوقع أن تطلب تونس المزيد من القروض الخارجية لسد عجز الموازنة وسداد الديون. وبما أن رئيسة الحكومة قد نفذت برامج مع المؤسسات الدولية المانحة، خاصة مع البنك الدولي، يتأتى لها القدرة على الضلوع فى هذه المهمة([11]).

يتبين مما سبق ضرورة الإسراع في اقتراح أعضاء الحكومة؛ لا مناص أن التشكيل المرتقب يأتي في سياق تدابير استثنائية، وسيكون للحكومة ولرئيستها المعينة حديثاً تنفيذ ما يحدده الرئيس سعيد من خيارات وسياسات، إلا أن وجود حكومة تعاون الرئيس فى السلطة التنفيذية يساهم فى وضع سقف زمني واضح للمرحلة الانتقالية.

ختاما، يعد اختيار بودن -كأول رئيسة للوزراء في تونس والعالم العربي- خطوة جادة تتخطى بكثير مجرد الشكل التجميلى لإظهار الانحيازات للمساواة والتمكين السياسى للمرأة.

وحتى يوم إعلان التشكيل الوزارى الجديد، سيكون على التونسيين التمسك بالأمل في أن تدشن بلدهم عهدا جديدا من الإصلاحات على جميع الأصعدة والقطاعات فى الحرية والعيش الكريم، مما يعنى أن تجربة رئيسة الوزراء التونسية، نجلاء بودن، بعد الإعلان عن التشكيل الوزارى، لن تكون سهلة وستكون مكلفة بتحقيق آمال ومطالب الشعب التونسى، ولو بالقدر اليسير فى حدود السياسة العامة التى يضع توجهاتها وخياراتها رئيس الجمهورية فى أثناء فترة الانتقال إلى عودة بناء المؤسسات والرسوخ الديمقراطى. ويبقى من الأهمية بمكان فى تونس تنظيم الانتخابات المبكرة، أو عودة انعقاد مجلس النواب الحالى، فالبرلمان يلعب دورا حيويا فى تمتين الأساس الشعبى للحكم والسياسات.

الهوامش والمصادر: