لكي تكسر أمة دائرة التردي الاقتصادي المُغلقة، لابد لها من أن تكتشف مواطن قوتها الكامنة، وتعمل على تعزيزها في إطار من التعاون الدولي الذي يُمثل إطارا حتميا لصناعة التنمية رغم ما يرتبط به من تحديات تُمثل في ذاتها أهم عقبات التنمية التي تحتاج لإدارة عصرية ذات فكر استباقي يقتنص الفرص، ويتوقى مخاطر العقبات.
ومن أهم التجارب الدولية لصناعة التنمية كانت:
تجربة النمور الآسيوية:
تلك التجربة التي استطاعت خلال فترة لا تتجاوز 25 عاما أن تحقق نمواً هائلاً وتطوراً كبيراً، بدأ من اكتشاف دول جنوب شرق آسيا لما تمتلكه من ميزة وحيدة، وهي الوفرة النسبية للموارد البشرية مُنخفضة التكلفة، حيث كانت العمالة الرخيصة عُنصر الجذب للمُستثمرين من كافة أنحاء العالم في ظل ظرف عالمي مُلائم، وهو حرص الغرب على مُساعدة تلك الدول بسخاء لتُسرع نموها الاقتصادي لتقديمها كنموذج رأسمالي ناجح بديل للاشتراكية في ظل الحرب الباردة بين الولايات المتُحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقد استفاد مُستثمرو دول النمور من التخفيضات الجمركية التي أقرتها الجات في بداية السبعينيات بصورة سهلت لهذه البلدان تصدير مُنتجاتها بدون عوائق، حتى إلى البلدان الغربية ذاتها، وكان من نتاج ذلك أن حققت تلك الدول نموا اقتصادياً لافتا للنظر انعكس على تحسن مُستوى معيشة المواطنين وتحسن دخولهم التي كان انخفاضها هو أساس عملية التنمية.
وكان التحدي الأكبر لتلك التجربة مع اندماجها السريع في آليات العولمة من خلال نهج ليبرالي يُقلص وبسرعة دور الدولة في الرقابة والإشراف، ويعتمد على عمليات تحرير مالي ونقدي واسعة، شملت التخلص من ضوابط حركة رءوس الأموال الأجنبية في ظل استثمار أجنبي واسع النطاق، استغل ثبات سعر الصرف وارتفاع أسعار الفائدة في إجراء عمليات مُضاربة واسعة النطاق، فكان المُستثمرين الأجانب يدخلون لتلك الدول بالدولار، ثُم يقومون بتحويله إلى عملة البلد واستخدام حصيلة ذلك في شراء الأراضي والعقارات والأوراق المالية، والمُضاربة عليها، مما رفع سعرها بشكل مُصطنع، ثُم يقوموا بعد ذلك ببيع تلك الأصول مُحققين أرباحا كثيرة يُحولونها إلى دولارات في ضوء سعر صرف ثابت. ومع تزايد خروج التحويلات للخارج، تعرض سعر الصرف لضغوط شديدة، وبدت عدم قُدرة تلك الدول على الاستمرار في تلبية طلبات تحويل الأموال للخارج فانعكس ذلك بهبوط مُتكرر وحاد في الأسواق المالية، وأصيب المُتعاملون بخسائر فادحة، وتعثرت الحكومات، إلا أن هشاشة الاقتصاد المالي، لم تُغير من حقيقية قوة الاقتصاد العيني بما تمتلكه تلك الدول من آلة إنتاجية، وتكنولوجيا، وثروة بشرية، مكنتها من استعادة النشاط الاقتصادي بسرعة والعودة لتحقيق معُدلات نمو مرتفعة بنهاية عقد التسعينيات، باستخدام الروشتة الكينزية القائمة على تدخل الدولة بالاستحواذ على الأصول وخلق المشروعات وبرامج التحفيز وخفض أسعار الفائدة، وغيرها من الحلول النابعة من داخل الفكر الاقتصادي، وعلى النقيض من ذلك اتجهت تجارب للتنمية في تعاملها مع التحديات الاقتصادية إلى البحث عن حلول سياسية، وقد واجه ذلك النموذج للتنمية التحديات الطبيعية التي سبق أن واجهتها نماذج مشابهة، مثل تجربة النمور الآسيوية، والتي عالجت تلك المشكلات اقتصادياً، أما هنا فقد اختارت دول أن تُعالج مشكلات التنمية لديها سياسيا، وكانت النتيجة أن واجهت مثل هذه النماذج الاقتصادية ضغوطا مُؤسسية، وكان من نِتاج ذلك حدوث تراجع للمؤشرات الاقتصادية. وهنا، نُشير إلى أهم الدروس المُستفادة من التجربة وهى حتمية نموذج التنمية الحديث القائم على خلق التمويل وبناء اقتصاد حديث قائم على التعاون وكسب ثقة المؤسسات الدولية، ذلك النموذج الذي يُحقق نتائج جيدة، لكنه يواجه عقبات أيضاً، وقد ثبت فشل استخدام ورقة السياسة لتجاوز العقبات الاقتصادية، بينما نجحت في السابق دول، مثل النمور الآسيوية في تجاوز أزمتها بأساليب اقتصادية، ومن بين التجارب الدولية نجد أن تجربة فيتنام كانت التجربة الأنضج.
تجربة فيتنام للتنمية:
جمهورية فيتنام هي إحدى دول جنوب شرقي آسيا التي تحتل المرتبة رقم 13 في قائمة أكثر دول العالم سكاناً؛ فعدد سكانها يصل لنحو 96 مليون، ومساحتها تقدر بـ 331.690 كم، وهي ذات موقع استراتيجي، حيث تقع في جنوب ما يسمي الهند الصينية، وفي موقع متوسط في مركز دائرة متوسطة من دول اليابان والصين والهند وماليزيا وسنغافورة، ومركز لدائرة أكبر من دول الخليج العربي، والساحل الإفريقي، واستراليا وأمريكا.
وقد خرجت فيتنام من هذه الحرب لتجد نفسها عام 1975 منهكة تماما، وانهارت بنيتها التحتية، فقد تضررت كل المباني والمصانع والطرق والجسور، فضلاً عما خلفته الحرب من انقسام داخلي وشعب لا يصلح إلا للقتال وحرب العصابات.
وقد كان من أثر الانسحاب الأمريكي أن تمسكت الحكومة الفيتنامية اعتباراً من عام 1976 بنموذج التنمية على الطريقة الاشتراكية من خلال ترسيخ إحكام سيطرة الدولة على الاقتصاد، وإنشاء مناطق اقتصادية جديدة، ونقل السكان قسراً إليها، وفرض نظام المزارع الجماعية والتوريد الإجباري للمحاصيل، إلا أن هذا النموذج نتج عنه فقر شديد، وفشل اقتصادي مرير، وعزلة دولية، وصراعات إقليمية مكلفة جداً.
وفي ديسمبر عام 1986، كانت لحظة المكاشفة التي كان للحزب الشيوعي الحاكم الاعتراف من خلالها بأخطائه وبفشل مساراته الاقتصادية، فأعلن ما تم تسميته سياسة التجديد وتحديث هياكل الدولة، من خلال خطة إصلاح لقيت مُساندة غربية ليتجه الاقتصاد نحو آليات السوق والاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال عدة محاور، أهمها الحد من الدعم الذي تقدمه الدولة، وتنويع ملكية الأصول المملوكة للدولة، وتشجيع وتحفيز القطاع الخاص، والعمل على دمج فيتنام في الاقتصادات العالمية والإقليمية، والانفتاح على التجارة العالمية ، والعمل على إصلاح الجهاز الإداري للدولة في إطار من مراعاة البعد الاجتماعي، والحفاظ على استقرار الأسر الفقيرة.
وكان لهذا البرنامج نتائج مبهرة، حيث تحولت فيتنام تحولاً يقترب من المعجزة، حيث حققت معدلات نمو ما بين 5% إلى 10% سنوياً، وتراجعت نسبة المواطنين تحت خط الفقر من 60% إلى 11% عام 2014، وارتفع متوسط دخل الفرد من 100 دولار في نهاية السبعينيات إلى2000 دولار، وتضاعفت الصادرات بـ نحو20% سنويا، وانخفض التضخم إلى أقل من 1%، وانخفضت نسبة البطالة إلى نحو3%، وتم تصنيف شعبها ضمن أكثر الشعوب سعادة طبقاً لمؤشر السعادة العالم، ولعل التحدي الأكبر في تجربة فيتنام تمثل في عدم الإصرار على الاستمرار في نموذج اشتراكي غير متوائم مع آليات العصر، والانطلاق في نموذج اقتصادي حديث تم بموجبه اكتساب ثقة ودعم المؤسسات الدولية، مع الحفاظ على الخصوصية المحلية، والبحث عن الحلول من داخل الفكر الاقتصادي والاجتماعي دون مغامرات سياسية.