يبدو أنه قد حان الوقت لتغيير العبارة الشائعة التي تقول: "إن فلانًا إذا حدثته عن الثقافة.. وضع يده على مسدسه"! لتصبح: "إذا تحدثت إلى بعض رجال الدين عن التنوير.. وضعوا أصابعهم على زناد أسلحتهم!
فالترجمة الحرفية البعيدة عن التقعُّر في اللغة واستجلاب وقائع التاريخ لشرح كيفية نشأتها ودلالاتها.. تتلخص في عبارة وحيدة، هي: "إن التنوير هو إعمال العقل .. ولا سيطرة على العقل .. إلا بالعقل"! أو كما أوضح الفيلسوف الألماني "كانط" معنى وشعار التنوير .. حين خاطب الإنسان موضحًا: "تَجَرّأ وفَكِّـر بعقلك أنت"!
وقد تبدو العبارة بسيطة، لكنها أقامت المعارك الضروس بين بني البشر من كل الأطياف والأجناس والعقائد والمِلَلْ؛ وسالت دماء العشرات والمئات ممَّن لُقِّبوا بشهداء التنوير؛ ممن حاولوا ـ بإخلاصٍ وتفانٍ ـ إيصال مفاهيمه إلى عقولٍ تجمَّدت وتحجَّرت وماتت على أغلفة كتب التراث الصفراء ذات "الهوامش" أكثر من "المتُـون"! بل عكف هؤلاء، الذين اتخذوا من حرفة تفسير النصوص التراثية للعقائد والأديان، وأطلقوا على أنفسهم لقب "رجال الدين" من المستشرقين والمستعربين والهابطين بالمظلة على كنوز التراث الذي بلا صاحب على محاولة وضع "لمسة" من كلٍ منهم بحسب الأهواء التي يعمل من أجلها؛ والبعيدة كل البعد عن الهدف الذي تبلورت فيه الفتوى وقت صدورها من ناقلها أو كاتبها في ذاك الزمان البعيد؛ فتضيع معالمها بين التفسير والتأويل وإيهام العامة والبسطاء بأنها لا يأتي إليها الباطل من الأمام أو الخلف؛ وعلى البشر أن يأخذوها كمسلَّمات لا تقبل التفكير أو التغيير؛ والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخرج عليها أو محاولة تحويرها ويرتكب جريمة "إعمال العقل" في محاولة فهم معانيها وأهدافها.
والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين نصَّبُوا من أنفسهم أوصياء على البشر في الأرض وكأنهم مفوضون من "الله" في الأعالي؛ يحاولون إقناعهم بعكس ما قاله الفيلسوف الألماني "كانط" ــ بتصرف ــ عن ضرورة "عدم الاستسلام للكسل والجبن وعدم اللجوء إلى إعمال العقل والفكر؛ ويقول كلٌ منهم: لماذا التعب والإرهاق ولدىَّ كاتب يفكر بدلاً منى، ورجل دين يمثل ضميرى، وطبيب يقرر لى نظامًا غذائيًا، إذن فلست بحاجة لإرهاق نفسى، ولماذا أفكر وهناك من الأوصياء مَن أدفع لهم ليقوموا بكل الأعمال المزعجة بدلاً منى"؟! ويقول "كانط" أيضًا: "إن التنوير هو خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد"!
وهكذا، تم تعطيل تروس آلة المَلَكَة العقلية عند شعوب الشرق العربي المسيحي والإسلامي على حدٍ سواء، ولعبت "المنابر" في دور العبادة دورها المرسوم في تغييب العقل الجمعي عن التطلع إلى ما سعى إليه رواد التنوير في العالم العربي؛ خاصة مع بداية إشراقة فجر النهضة في مطلع القرن التاسع عشر على يد بعض العلماء ممن تلامسوا مع مستجدات الفكر الأوروبي؛ أمثال من تم تسميتهم مجموعة الإصلاحيين الإسلاميين؛ وعلى رأسهم العلامة رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، وبعض المتعاطفين من الدول العربية، كلٌ في فترته الزمنية ـ حيث قام هؤلاء بالسعي إلى محاولة بث مضامين إشراقات التنوير الجديدة؛ وكان الهدف الأسمى هو - على حد قولهم - غربلة التراث ونقد الفقه القديم؛ وإعادة طرح مناقشة المسألة الدينية والعقائدية تحت مظلة العقل وإبعاد كل ما لا يقبله المنطق، والعمل على إطلاق ملكة الحرية الفكرية في السياسة والحكم وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان؛ والتطلع إلى احتواء المعارف والعلوم، بعيدًا عن تلك الأفكار الظلامية التي يبثها الأدعياء من فوق المنابر، والتخلص من قيود وجمود الموروثات التراثية التي لا تواكب مستحدثات العصر ومستجداته والمتطلبات الحياتية الضرورية للبشر على الأرض؛ والدعوة إلى الأخذ بمقومات "التمدُّن" التي انتشرت في أوروبا، لأن: "التمدُّن منوط بحرية انتشار المعارف" كما جاء على لسان رفاعة الطهطاوي.
وبعد استعراض الظروف التي أحاطت بكيف نشأت أفكار حركة التنوير في العالم؛ ومدى ما وصلت إليه من انتشار بين شعوب العالم ومؤيدي الحرية في إعمال العقل والتفكير السوي في أمور الحياة الدنيا: عقائديًا وفكريًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، والحروب التي نشأت بين دعاة "التعتيم" والجمود والتقوقع داخل أصداف التراث في أعماق بحار الجهل والتطرف؛ وبين الذين حملوا مشعل الحضارة ودفعوا حياتهم ثمنًا للدفاع عن حرية العقل التي منحها الله لعباده المستنيرين.
ووجب علينا تحليل انعكاس وتأثير "حركة التنوير" على مجتمعاتنا الحالية ــ المصرية والعربية ــ ومدى تأثيرها على الموقف من المرأة والتعليم والسياسة والفكر والفن والأدب، ومدى فعاليته في ازدياد اليقظة الفكرية خاصة لدى الشباب من جيل الطلائع حملة المسئولية والأمانة في مستقبل الأمة.
من أجل ذلك؛ بادرت المؤسسات الدينية في مصر؛ وعلى رأسها مؤسسة "الأزهر الشريف" بعقد مؤتمر دولي يهاجم الظالمين للمرأة باسم الإسلام .. تحت عنوان: “المرأة ومسيرة التطور التنويري الواقع والمأمول”؛ وأدان المشاركون في هذا المؤتمر الدولي " ... ظلم المتطرفين للمرأة باسم الإسلام .. وحذروا من تنامي موجة الإسلاموفوبيا التي تستند إلى الممارسات الخاطئة التي يرتكبها بعض المتأسلمين ضد المرأة وقتلها معنويا... ".
و" ...إنه لابد من تضافر جهود جميع المؤسسات من أجل النهوض بالمرأة، فهي كانت ولا تزال محل رعاية وعناية فى الإسلام، واجتهادات الفقهاء تظهر مكانة المرأة وتبدل حالها من المهانة فى الجاهلية إلى العزة والكرامة في الإسلام ..." .
وعلى الجانب الآخر، كان دور الكنيسة في هذا الصدد؛ هو تعضيد مكانة المرأة في المجتمع المسيحي - والشيء بالشيء يُذكر - وكانت مارجريت تاتشر هي أول امرأة ترأس حكومة في العالم المسيحي، لأنه "... في اللاهوت المسيحي يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، استنادًا إلى تعاليم يسوع في المساواة بين الجنسين، والمعروف أنه من أبرز مظاهر تكريم ورفع شأن المرأة هو التكريم الخاص لمريم العذراء، لدى أغلب كنائس وطوائف العالم المسيحي، واللاهوت المريمي أحد فروع علم اللاهوت العقائدي الذي يدرس دور مريم في العقيدة المسيحية، ويعرف أيضًا باسم الماريولوجي ..."؛ ولعلنا لا ننسي التكريم الذي حظيت به السيدة العذراء "مريم" في القرآن الكريم؛ حيث قال الله تعالي: "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ" سورة آل عمران (42)، فما أعظمه وأجمله وأكمله من تكريم.
في هذا الصدد .. أقامت اللجنة المجمعية للمرأة مؤتمرها الأول (فبراير 2020) بعنوان "العنف ضد المرأة"، الذى شهد فعالياته دير السيدة العذراء بجبل أسيوط (درنكة)، بمشاركة الأنبا لوكاس أسقف أبنوب والفتح، والأنبا يوأنس أسقف أسيوط، والأنبا ثاؤفيلس أسقف منفلوط، وما يقرب من 500 من الكهنة والخدام من ثلاث عشرة إيبارشية، وهى إيبارشيات محافظات أسيوط وسوهاج والوادى الجديد؛ وشهد المؤتمر مشاركة قداسة البابا تواضروس الثاني بمداخلتين؛ بالإضافة إلى 9 محاضرات لمناهضة العنف ضد المرأة وتعضيدًا لمبدأ سيادة التنوير للنصف الآخر من المجتمع؛ والتعريف بأن اهتمامًا عالميًا ومحليًا بالمرأة، وأن الدولة خصصت عامًا للمرأة؛ وتطالب الدولة الكنيسة بترشيح نساء فى مواقع متعددة بالدولة، وضرورة وضع آلية للاهتمام بالمرأة وتثقيفها وتعليمها فى مختلف التخصصات حتى نواكب التطور الموجود، ونجد كوادر نرشحها للأنشطة المختلفة فى الدولة.
ولعل المتابع لخطوات الدولة نحو تطوير التعليم ومواكبته للتقدم التكنولوجي وإيمانًا بأن العلم هو السبيل الوحيد لتطور الأمم في مناحي الحياة كافة؛ وهو السبيل إلي إيقاد وتوهج جذوة الفكر الإنساني الذي يضطلع بمسيرة التقدم وحمايتها من كل الظلاميين الذي يريدون العودة بالكتب الصفراء لحُكم العالم.
ولا يخفى على أحد مدى انعكاس التفكير العلمي السليم على إبداعات الكتَّاب والفنانين الذين يشكلون العصب الفاعل في جسد الأمة المصرية والعربية؛ للخروج بإبداعاتهم إلى العالم الحر في أنحاء الكرة الأرضية.. وعلى رأسها مصرنا المحروسة التي علمت العالم معاني الحق، والخير، والجمال، والحرية.