شهدت مدينة القدس مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، تفجرت إثر اقتحام قوات إسرائيلية لساحات المسجد الأقصى، وأسفرت موجة العنف المستمرة عن إصابة العديد من الفلسطينيين وسقوط بضعة شهداء وفقاً للهلال الأحمر الفلسطينى. وتتزامن تلك الأحداث مع فشل نتنياهو فى تشكيل الحكومة وتكليف خصمه اللدود يائير لابيد بتشكيلها، مما يطرح التساؤل بشأن توظيف نتنياهو لأحداث القدس للتأثير على التجاذبات السياسية فى الداخل الإسرائيلى.
أولاً- خلفية الأحداث والمواقف الدولية منها:
تمثل قضية حي الشيخ جراح بالقدس عاملاً مهماً أسهم فى إشعال الموقف الراهن، إذ يسود التوتر منذ بداية شهر رمضان الذى كسر حالة الهدوء السائد منذ عدة أشهر. واندلعت احتجاجات متواصلة اعتراضًا على إخلاء محتمل لمنازل سكان في الحي لصالح جمعيات استيطانية إسرائيلية. وحاولت السلطات الإسرائيلية منع مصلين من التوجه إلى المسجد الأقصى، وأوقفت حافلات تقلهم على بعد عشرات الكيلومترات خارج القدس بالتزامن مع الاحتفال بليلة القدر وأيضاً الذكرى السنوية لسيطرة إسرائيل على القدس الشرقية خلال حرب عام 1967، وعادة ما يشهد هذا الحدث مسيرة بأنحاء البلدة القديمة من قبل زائرين يهود، منهم قوميون متطرفون وهو ما يرفع مستوى التوتر في المدينة بزعم تخطيط الفلسطينيين للمشاركة فى أعمال شغب. فى ضوء ذلك أجلت المحكمة العليا الإسرائيلية للمرة الثالثة يوم 9 مايو جلسة كانت مقررة فى اليوم التالى للبت في ملف إخلاء العائلات الفلسطينية من المنازل التى تقيم بها في حي "الشيخ جراح"، وترأس رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي فى 8 مايو الجارى اجتماعًا لتقييم الوضع بمشاركة كبار قادة الجيش ومندوبين عن الشرطة والشاباك، وأمر رئيس الأركان بتعزيزات إضافية للقوات والاستعداد للتصعيد، وتم إطلاق عدة قذائف من غزة تجاه إسرائيل وعزز الجيش الإسرائيلي قواته في الضفة الغربية وبالقرب من قطاع غزة، حيث أطلق فلسطينيون بالونات حارقة عبر الحدود مما أدى إلى اشتعال الحرائق فى إسرائيل.
إزاء ذلك، أكد بنيامين نتنياهو على أن الحكومة الانتقالية التى يرأسها تتحرك بمسئولية لضمان الحفاظ على النظام والقانون. وعلى الجانب الآخر، لم تتوقف الإدانات من قبل أطراف عربية ودولية للسلوك الإسرائيلي، فقد أدانت كل الدول العربية تقريباً الاقتحامات الإسرائيلية لساحات المسجد الأقصى، وحذر الأردن إسرائيل من مواصلة انتهاكاتها لحرمة المسجد، متعهداً بتصعيد الضغوط. وكذلك أدانت وزارة الخارجية المصرية السلوك الإسرائيلى وأكدت على ضرورة تحمُل إسرائيل لمسئوليتها إزاء هذه التطورات المتسارعة والخطيرة. واجتمع نائب وزير الخارجية نزيه النجاري بسفيرة إسرائيل في القاهرة أميرة أورون، وأوضح موقف مصر الرافض والمستنكر لاقتحام السلطات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وشدد على ضرورة احترام المقدسات الإسلامية، وتوفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين وصيانة حقوقهم في ممارسة الشعائر الدينية. وعقدت جامعة الدول العربية جلسة استثنائية على مستوى وزراء الخارجية العرب لمناقشة الاعتداءات الإسرائيلية على المواقع الإسلامية والمسيحية. وندد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بالهجمات الإسرائيلية، وذكر أنها تعكس "استعراضاً بائساً للقوة" وأن تسامح الحكومة مع المتطرفين اليهود المعادين للفلسطينيين والعرب هو ما أدى إلى اشتعال الموقف.
أما على المستوى الدولى ، تمثل موقف الأمم المتحدة فى أن على إسرائيل إلغاء أي عمليات إجلاء واتباع "أقصى درجات ضبط النفس في استخدام القوة" ضد المتظاهرين. وأعربت اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط عن "قلقها العميق" بشأن العنف المتصاعد. ودعا الاتحاد الأوروبي السلطات الإسرائيلية إلى التحرك "بشكل عاجل" لوقف التصعيد في القدس، معتبراً إجراءات الإخلاء في حي الشيخ جراح غير قانونية. وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جالينا بورتر للصحافة بأن: "نشعر بقلق عميق إزاء تصاعد التوتر في القدس"، معربة أيضاً عن "القلق بشأن عمليات الإخلاء المحتملة للعائلات الفلسطينية" من أحياء في القدس الشرقية و"كثير منهم، بالطبع، يعيشون في منازلهم منذ أجيال".
ومع توالي الدعوات لإسرائيل، لوقف التصعيد في القدس، لم تكترث القيادة الإسرائيلية بتلك الدعوات وشدد بنيامين نتنياهو على أن بلاده ترفض، بشدة الضغوط الرامية لمنعها من البناء في القدس، وهى محاولة للحفاظ على شعبيته بين المستوطنين والأحزاب الدينية وذكر صراحة أنه "لن يسمح لأي طرف بزعزعة الأمن في القدس، ولن يسمح بالتوتر والعنف وأقول للفصائل الفلسطينية المسلحة، إن إسرائيل سترد بقوة على أي عمل عدواني من قطاع غزة". ورفض رئيس الاستخبارات الإسرائيلية يوسي كوهين أيضا طلبات إيضاح أمريكية، بشأن الأحداث الجارية في مدينة القدس، ورد بأن "إسرائيل ليست بحاجة إلى توجيهات من أحد"، ورغم ذلك ألغت الشرطة الإسرائيلية مسيرة الأعلام التى كان ينظمها المستوطنون لاحتواء الموقف.
ثانياً: توظيف نتنياهو لأحداث القدس لعرقلة تشكيل الحكومة
جاءت قضية حي الشيخ جراح لبنيامين نتنياهو في الوقت المناسب فهو يسعى لتثبيت نفسه والبقاء في منصبه، خاصة بعد فشل جهوده لتشكيل الحكومة في وقت يواجه فيه تهما بالفساد قد تدخله إلى السجن في حالة لم يبق في منصبه، ومن ثم فإنه يفعل كل ما بوسعه كى يثبت للإسرائليين أنه الرجل القوى القادر على حماية إسرائيل. من زاوية أخرى، يخشى نتنياهو من تقارب محتمل بين السلطة الفلسطينية، والبيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، ومن ثم يسعى للتسريع بفرض قواعد جديدة على الأرض وربما إشعال الموقف في القدس كي تمتد تداعياته إلى الضفة الغربية وقطاع غزة أيضاً، فيصبح الحفاظ على أمن إسرائيل أولوية عن تشكيل الحكومة.
وظل نتنياهو يحاول تشكيل ائتلاف حكومى بعد النتائج غير الحاسمة لانتخابات الكنيست فى 23 مارس 2021 ، وهي الرابعة من نوعها خلال عامين. وفشلت جهود نتنياهو فى تشكيل الحكومة لعدة أسباب أهمها: أن أى ائتلاف بقيادته يتطلب تعاوناً ضمنياً بين حزب "القائمة العربية الموحدة" (راعم)، وتحالف الصهيونية الدينية اليميني بزعامة المتطرف بتسلائيل سيموتريتش، الذي تبنى قادته خطاباً معاديا للفلسطينيين. ويصف "راعم" بأنهم "مؤيدون للإرهاب" يرفض العمل معهم. وكان بإمكان نتنياهو أيضا أن يتوصل إلى العدد المطلوب من خلال التصالح مع حليفه السابق القومي الديني نفتالي بينيت الداعم لتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وإقناع المنشقين عن الليكود في حزب "الأمل الجديد" بقيادة جدعون ساعر بالعودة إلى حزبه، لكن ساعر أكد أن حزبه ملتزم بالإطاحة بنتنياهو حتى لا يخرق تعهداته لناخبيه.
وانقضى الموعد النهائي للمدة القانونية الممنوحة لنتنياهو وهى 28 يوماً، ومن ثم أبلغ الرئاسة أنه غير قادر على تشكيل حكومة وأعاد التفويض إلى الرئيس وفقاً للقواعد القانونية. وقد بعثت القائمة المشتركة التى تضم الأحزاب العربية برسالة لريفلين، تبلغه فيها، أنها أمام خيار إعادة القرار للكنيست، أو تكليف بينيت، أو لابيد، وأنها تؤيد تكليف لابيد، وتعارض حكومة يترأسها بينيت، وكانت الرسالة بتأييد خمس نواب من الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير، ومعارضة نائب حزب التجمع الوطني الديمقراطي، أما موقف القائمة العربية الموحدة، راعم وبحسب نص الرسالة لريفلين، فهو أنها لا توصي بتكليف أحد، “ولكنها ستتعاون بشكل إيجابي مع من يتم تكليفه بمهمة تشكيل الحكومة، بمعنى من يحظى بأكبر عدد، والقائمة العربية الموحدة باستطاعتها أن تكمل عدد النواب المطلوب لتشكيل الحكومة، وهي ستفعل هذا إذا تم التجاوب مع طلباتها في المفاوضات”، بناء على ذلك كلف الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، زعيم حزب "هناك مستقبل" المنافس الأقوى لحزب نتنياهو الليكود، يائير لابيد، بتشكيل حكومة فى 5 مايو الجارى بعد توصية 56 عضو كنيست به وهو مازالا بعيداً عن الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة وهى 61 عضواً. وإذا لم ينجح فيمكن للرئيس تكليف البرلمان باختيار مرشح. وإذا لم يستطع فستجري إسرائيل انتخابات خامسة مما يسمح بأطول مدة بقاء لنتنياهو فى حكومة تسيير الأعمال.
ويرى الرئيس الإسرائيلى أن " لدى لابيد خيارات عديدة لتشكيل حكومة يمكنها الفوز بثقة الكنيست، يقودها في المرحلة الأولى مرشح آخر يشغل فيها منصب رئيس الوزراء المناوب".
وذلك في إشارة إلى الأنباء التي تحدثت عن رغبة لابيد بإقامة حكومة وحدة وطنية من أحزاب الوسط واليمين واليسار، بحيث يتناوب على رئاستها هو وزعيم حزب "يمينا"، نفتالي بينيت، على أن يرأسها بينيت أولاً لمدة عامين، وبعدها يشغل لابيد المنصب حتى الانتخابات القادمة. وقد أوضح لابيد أنه " بحاجة إلى حكومة تعكس حقيقة أننا لا نكره بعضنا البعض. حكومة يعمل فيها اليسار واليمين والوسط معا لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية التي نواجهها. حكومة ستظهر أن خلافاتنا مصدر قوة وليس ضعف". ويُتوقع أن تشمل حكومة لابيد أحزاب: يوجد مستقبل، أزرق أبيض، يمينا، العمل، إسرائيل بيتنا، أمل جديد، ميرتس، وبدعم من القائمة الموحدة راعم وهى أحزاب متنافرة أيديولوجياً ومتباينة المواقف إزاء القضية الفلسطينية.
وسارع نتنياهو إلى عقد مؤتمر صحافي بعد تكليف لابيد بتشكيل الحكومة، وشن خلاله هجوماً عنيفاً على الحكومة المتوقعة، وعلى زعيم حزب "يمينا"، واصفاً إياها بأنها حكومة "يسارية خالصة"، مدعياً أنها ستفشل في الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية، وستفشل في مواجهة المشروع النووي الإيراني، وستجمد الاستيطان، وستُنفّر الأجيال المقبلة من الانخراط في الجيش الإسرائيلي. ولم يدخر نتنياهو جهداً فى محاولة إفشال لابيد، وبادرت كتلة الليكود لعقد جلسة خاصة للجنة المنظمة للكنيست، التي تدير عمل الكنيست إلى حين تشكيل الائتلاف الحاكم، وعلى أساسه تتشكل اللجان، للبحث في إعفاء سلسلة قوانين من بند انتظار القوانين 45 يوما من يوم إيداعها رسميا في الكنيست، إلى حين يكون مسموحاً لها أن تبحث في الهيئة العامة وتدخل مسار التشريع. وطلب رئيس اللجنة ميكي زوهر المنتمى إلى حزب الليكود فى اليوم الأخير لتكليف بنيامين نتنياهو، من اللجنة إعفاء 10 قوانين من بند الانتظار 45 يوماً كي يكون متاحا عرضها على الهيئة العامة للكنيست، وكلها قوانين من أجندة اليمين الاستيطاني، منها ما يتعلق بالاستيطان، وأخرى بتشديد العقوبات على المقاومين الفلسطينيين، وأيضا ما يتعلق بجهاز القضاء، وتقويض عمل جمعيات حقوق الإنسان. وذلك لوضع أحزاب اليمين التى لا يمكنها معارضة القوانين المطروحة فى مأزق مع أحزاب الوسط واليسار مما يجعل كتلة التغيير بقيادة لابيد غير قادرة على احتواء الخلافات وتشكيل الحكومة.
وبدأت تظهر عقبات أمام تشكيل حكومة لابيد- بينيت، وبشكل خاص حول مسألة توزيع الحقائب الوزارية الأساسية، فما تم الاتفاق عليه، كما يبدو، هو أن تبقى حقيبة الدفاع بيد رئيس حزب "أزرق أبيض" بيني غانتس، وأن يتولى يائير لابيد حقيبة الخارجية، إلى حين توليه رئاسة الحكومة بعد نصف المدة، كما سيحظى حزب "يوجد مستقبل" الذي يترأسه لابيد برئاسة الكنيست، في حال تم تشكيل الحكومة. ويعارض حزبا يمينا وأمل جديد إسناد حقائب ذات شأن لكتلتي اليسار حزب العمل وحركة ميرتس. وزاد الموقف تعقيداً إعلان منصور عباس أن العدوان جمد المفاوضات لتشكيل حكومة وحدة بسبب التصعيد الراهن فى القدس.
فى الأخير، يأمل نتنياهو إرغام إسرائيل على الذهاب لانتخابات خامسة ليضمن بقاؤه السياسى لأطول فترة ممكنة والمماطلة فى إصدار أحكام قضائية تدينه بسبب تهم الفساد وذلك على حساب الجانب الفلسطينى .