جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، للسعودية يوم 31 مارس 2021 كاختبار جدي لسياسة النأي بالنفس التي تقول بغداد إنها ملتزمة بها تجاه أزمات وصراعات المنطقة. ويجد رئيس الوزراء العراقي نفسه في موقف صعب كونه من جهة، يرغب فى تثبيت اقترابه من الفضاء العربي وإظهار الاعتدال في سياسات بلاده، ومن جهة أخرى لا يستطيع الصدام مع حلفاء إيران، ونفوذها في بلاده. قد يتسأل البعض لماذا تعتبر العلاقات العراقية - السعودية مفصليّة، وذات أهمية كبرى في منطقة الشرق الاوسط؟.
محطات في تاريخ العلاقات:
لم تشهد العلاقات السعودية - العراقية استقرارًا أو تناغمًا دائمًا على مدار سنوات طويلة، حيث كانت تشهد كل فترة محطات خلاف وسحب للسفراء وأزمات دبلوماسية، ثم ما تلبثّ أن تعود المياه إلى مجاريها بقرارات رسمية من البلدين.
وخلال عهد الرئيس العراقي صدام حسين (1979-2003) كانت العلاقات السعودية - العراقية في أفضّل أحوالها، حيث دعمت الرياض بغداد في حربها ضد إيران، وأمدَّتها بالسلاح والمال، ولكن تلك العلاقة تدهورت مع اجتياح العراق للكويت عام 1990.وشهدت تلك الفترة أسوأ تراجع للعلاقة بين البلدين، حيث هاجمت القوات العراقية الأراضي السعودية بالجنود والصواريخ، خلال حرب التحالف الدولي لتحرير الكويت، فيما شاركت القوات السعودية في تحرير جارتها الخليجية، إضافةٍ إلى فتح حدودها لقوات التحالف الدولي؛ وهو ما تسبب في إلحاق الهزيمة بالجيش العراقي.
بعد التدهور الكبير في العلاقات، والاحتلال الأمريكي للعراق 2003 زار رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، السعودية عام 2006، والتقى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، واتفقا -حينها- على إعادة العلاقات الدبلوماسية. ولكن لم يمضِ على تلك الزيارة الكثير حتى تدهورت العلاقات مجددًا بسبب إتهام بغداد للرياض بإرسال مقاتلين إلى العراق لتغذية الصراع الطائفي، وهو ما كانت تنفيه الرياض دائمًا. ومع وصول حيدر العبادي إلى رئاسة الوزراء في العراق عام 2014، عادت العلاقات إلى التحسن، حيث حاول الأخير التخفيف من التوتر بين البلدين.
حذر سعودي من التغيير في العراق:
كانت المملكة العربية السعودية حذرة من العملية السياسية التي جاء بها الاحتلال في العراق 2003، واتهمت العملية "بالطائفية" خوفًا من عراق، غير مستقر، وآمن. وقد تجسد ذلك يوضوح مع اختيار نوري المالكي رئيسًا للوزراء، والذي كان يعمل بكل ما يملك لتقويض جهود تقريب العلاقات بين البلدين. ولابد هنا من استذكار ماقاله وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل، مخاطبًا الأمريكيين عام 2005 "خضنّا حربًا سويًا لمنع إيران من احتلال العراق بعد طرده من الكويت،والآن نسلم البلاد بكاملها لإيران".
كانت السعودية متخوفة من رجال السياسة العراقيين الشيعة الموالين لإيران، وقد جاءت التدخلات الحزبية والمؤسسات الدينية الشيعية في الشئون الداخلية للسعودية كدليل على تلك المخاوف، منها إدانة إعدام شيعي سعودي متهم بالإرهاب 2016. والمطالبة بإعادة بناء قبور بعض الصحابة في المدينة المنورة. والتدخل بالمال والسلاح لدعم المناهضين لحكومة البحرين، وإرسال المقاتلين والمال والسلاح لدعم الميليشيات المؤيدة لحكم الرئيس السوري بشار الأسد، ودعم جماعة الحوثي في اليمن.
كما لا يمكن إنكار الضغوط التي مارستها إيران على السياسيين العراقيين من أجل إجهاض أي محاولة تقارب بين البلدين، ويمكن الاستدلال على ذلك بحجم الهجوم الإعلامي الكبير من قبل إيران ووسائل الإعلام الموالية لها في العراق، والتي اتهمت السعودية بتصدير الإرهاب للعراق عبر مقاتلين من السعودية، فضلاً عن رفض أي محاولات لإجراء ربط كهربائي مع مجلس التعاون الخليجي.
كانت هناك مشكلة أخرى تثار حول الشكوك المحيطة بالجهود السعودية، إذ واجهت هذه المحاولات شكوكًا، من بينها قناعة صناع القرار في بغداد بأن الانفتاح السعودي المفاجئ هو ضمن لعبة أو مشروع إقليمي أمريكي في المنطقة عامة والعراق خاصة، يهدف لتضييق مساحة النفوذ الإيراني. وهذا يعني -بحسب بعضهم- أن الأمر لا يتعلق بخطوة أو مبادرة سعودية ذاتية. وأشاروا إلى عقبة أخرى تتمثل في وجود ضغوط من قبل الكتل والأحزاب السياسية المتشددة داخل "التحالف الحاكم" في العراق، معروفة بولائها لإيران، لتحديد سقف لتلك العلاقة الجديدة مع السعودية.
تحسنّ العلاقات:
شكّلت الحرب ضد تنظيم "داعش" في العراق 2014 فرصة لإعادة النظر في علاقات بغداد الخارجية، إذ كانت فرصة ترميم العلاقات مواتية في فترة حكومة حيدر العبادي، فقد كان منفتحًا ومتوازنًا في إدارة العلاقة مع المحيطيين العربي والإقليمي تجاه العراق، مما مهّد لحكومة عادل عبدالمهدي 2018 الفرصة لاستثمار هذا الانفتاح لتقوية أواصر العلاقات.
في ديسمبر 2015، أعادت الرياض فتح سفارتها رسميًا في بغداد بعد نحو (25) عامًا على إغلاقها، ورغم إعادة فتح السفارة وإرسال سفيرها ثامر السبهان، فإن العلاقات لم تشهد استقراراً بفعل الهجوم الإعلامي الإيراني، واتهام السفير بالتدخل في الشئون الداخلية. وعادت العلاقات للتراجع من جديد في عام 2016 بعد طلب الخارجية العراقية من السعودية سحب سفيرها من بغداد، وإرسال سفير جديد. واستقرت العلاقات مجددًا مع قيام وزير الخارجية السعودي آنذاك، عادل الجبير، بزيارة إلى بغداد في فبراير 2017، ممهداً الطريق لعودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي. وهو ما فتح الطريق لمزيد من الزيارات المتبادلة. كما التقى العاهل السعودي لاحقاً برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في مارس 2017 على هامش القمة العربية التي عقدت في الأردن. ثم زيارة العبادي للرياض في يونيو 2017 جرى خلالها الاتفاق على تأسيس "مجلس تنسيقي" بينهما لتطوير علاقات البلدين إلى "المستوى الاستراتيجي".
تزامن ذلك مع زيارات أخرى للسعودية، أجرتها عدة شخصيات عراقية معروفة بقربها من إيران، منها مقتدى الصدر، وعمار الحكيم، ووزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي 2017. وكان لحكومة عادل عبدالمهدي توجه لافت للسعودية أيضاً، حيث زار الرياض في أبريل 2019، ووقع (13) اتفاقية ومذكرة تفاهم.
كما اتخذت السعودية خطوات عملية لتعزيز وتنشيط العلاقات مع العراق بعدما ظلت مُجمدة طوال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما بدا بافتتاح منفذ عرعر الحدودي في أغسطس 2017 وإعادة تشغيل خط الملاحة الجوي بين البلدين، أعقبها إعلان المملكة في مؤتمر إعادة إعمار العراق الذي استضافته الكويت 2018 عن تخصيص (1.5) مليار دولار لمشاريع إعادة إعمار العراق. وتخطط أربع شركات سعودية كبرى للدخول في استثمارات في السوق العراقية هي أرامكو، وسابك، ومعادن، وإكواباور.
العلاقات في ظل حكومة مصطفى الكاظمي:
تأتي زيارة للكاظمي للسعودية بناء على دعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز وجهت له خلال عقدهما قمة افتراضية مع رئيس الوزراء العراقي. وهذه الزيارة كانت مقررة إلى الرياض في أول رحلة خارجية رسمية للكاظمي في يوليو2020، لكن الزيارة ألغيت حينذاك بعد خضوع الملك السعودي لعملية جراحية.
كتب رئيس الوزراء العراقي مقالاً في صحيفة "المونيتور" الأمريكية في شهر مايو 2020 أكد فيه "أن العلاقات العراقية - السعودية هي المفتاح الرئيسي لمشاكل وحلول الازمات في الشرق الاوسط"، مضيفًا "أن العلاقات بين العراق والسعودية ليست خيارًا، بل واجب استراتيجي على البلدين، ويجب العمل على توسيعها الى أعمق نقطة".
تلى ذلك عقد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، لقاء عبر تقنية "الفيديو كونفرانس" مع الكاظمي في نوفمبر الماضي، استعرضا خلاله أعمال الدورات الأربع لمجلس التنسيق السعودي - العراقي وما تمخضّ عنه من اتفاقيات، ومذكرات تفاهم تصب في تعزيز العلاقات بين البلدين. وأكد ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء العراقي في بيان مشترك على "عزم البلدين تعزيز العلاقات بينهما في كافة المجالات".
كما أعلن في فبراير 2021 عزم العراق فتح معبر حدودي جديد مع السعودية عبر محافظة النجف، ليكون نافذة للتعاون، وزيادة التبادل التجاري، وتسهيل حركة الحجاج بين البلدين بعد منفذي (عرعر، والجميمة). وتشير التقديرات الاقتصادية أن حجم التبادل التجاري بين السعودية والعراق نحو (23) مليار ريال سعودي، ومن المتوقع أن يرتفع التبادل التجاري بين البلدين إلى مستويات أعلى، وهناك قنوات استثمارية جديدة، وجاذبة لرءوس الأموال في جميع القطاعات.
الصراع الاستراتيجي الإقليمي:
المؤكد أن هناك صراعًا استراتيجيًا إقليميًا يدور في المنطقة بين السعودية وإيران، ويُعد العراق إحدى ساحات هذا الصراع، وبسبب ذلك تسعى كل من إيران والسعودية إلى استمالة العراق إلى صفها لتأمين عمقها الاستراتيجي، فطهران ترى في العراق، الساحة والذراع الأقوى بين فضاء حلفائها ليس فقط عسكريًا وأمنيًا، بل أيضًا اقتصادى كونه قد ساعدها كثيرًا في تخفيف وطأة العقوبات الأمريكية عليها، فالعراق زبون للغاز والكهرباء الإيرانية وطريق لتأمين العملات الصعبة، وتسويق باقي منتجاتها. وتنظر طهران إلى التطور في العلاقات السعودية - العراقية من منظور التنافس بين طهران والرياض على توسيع دائرة النفوذ في العراق، وتعتقد طهران أن الرياض تبحث عن طريق لمنع نفوذها الروحي والسياسي في المنطقة، والعمل على تحييد تغلغلها الإقليمي.
فى مقابل النفوذ الإيراني تحاول السعودية أن تستغل ثقلها الاقتصادي، ورمزيتها الدينية والسياسية في المنطقة، لتوفير بدائل أمام العراقيين ربما تغنيهم عن اعتمادهم الكلي على جارهم الشرقي، أو تشجعهم على وضع حدود لتلك العلاقة بما لا تؤثر فى مصالح بقية جيرانهم العرب. كما يمكن أن تطرح بديلاً مناسباً عن الغاز والكهرباء الإيراني. وقد عرضت السعودية فعلاً مشروعاً للربط الكهربائي المشترك مع العراق. فخلال الأعوام القليلة الماضية، كان نقص المادتين أحد أبرز محفزات حركة الغضب الشعبي الذي وحّد بصورة نادرة أغلب مكونات الشعب العراقي. هنا كان لافتاً تصريح أدلى به الأمير محمد بن سلمان، حين قال: "كل إمكانات وخبرات السعودية في خدمة العراق". وتسعى السعودية الترويج لمقولة "إعادة العراق الى الحاضنة الخليجية العربية سعيًا منها الى خفض وتيرة العلاقات العراقية - الإيرانية وتداركًا لأخطاء إبعاد العراق عن محيطه العربي - الخليجي، مما فسح المجال أمام إيران للتمدد بعد عام2003.
وهناك المسعى الإيراني لتحويل فصائل عراقية وميليشيات موالية لها إلى تنظيم عسكري شبيه بالحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني، والسعي لتحويل هذه الميليشيات إلى مهدد حقيقي للسعودية، من خلال العمل على بناء قواعد لها قرب الحدود السعودية في محافظتي الأنبار وكربلاء باديتيّ السماوة والنجف،وهو ماوجدت السعودية فيه تهديدًا جديًا إذا لم يردع، لهذا سارعت لمحاولة استثمار جزء كبير في المناطق القريبة من الحدود العراقية، وزراعة ملايين الدونمات العراقية بمساعدة من شركات وبتمويل سعودي.
ويشير مجموع الممارسات السعودية إلى أن استراتيجية الرياض في العراق تقوم على أساس مزاحمة إيران في ساحة نفوذها الأساسية وسط البيئة الشيعية، أكثر من الانشغال بخلق بيئة نفوذ موازية في المجتمع السنيّ، ولذلك كان التركيز السياسي والدعائي، وحتى المالي على القوى والشخصيات السياسية والدينية الشيعية، أكثر من نظيرتها السنيّة وبشكل واضح، سواء تعلق الأمر باستقبال هذه الشخصيات في الرياض أو بدعمها ماليًا.
توقعات قد تتجاوز حدود المعقول:
أكّد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال زيارته للسعودية "أنّ بلاده لن تصبح نقطة انطلاق لأي هجوم على المملكة. وكان هنا يشير إلى حادث وقع وفي يناير الماضي، حين تحطمت طائرات مسيّرة مفخّخة في القصر الملكي الرئيسي في الرياض والمعروف باسم اليمامة، في هجوم نقلت وسائل إعلام عن مسئولين أميركيين قولهم، إنّ الطائرات التي شنته أُطلقت من العراق. وفي ذات السياق، أعلنت ميليشيا عراقية تحمل أسم "ألوية الوعد الصادق" مسئوليتها عن ذلك الهجوم. وقد اعتبر الكاظمي هذا التبنّي للهجوم من قبل هذه الجماعة بأنه "غير صحيح"، مشددًا على أن الهجوم لم يُشنّ من العراق. وأضاف "لن نسمح بأي اعتداء على المملكة".
أكد الجانبان خلال اللقاءات التي عقدت حرصهما على توسيع أوجه التعاون الثنائي في المجالات المختلفة وتفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم التوصل إليها بين البلدين وحث الوزارات والجهات المعنية في البلدين على بذل مزيد من الجهود لضمان سرعة إتمام تلك الاتفاقيات وتنفيذها، وعلى استمرار التعاون والتنسيق المشترك في مواجهة خطر التطرف والإرهاب، عبر تبادل الخبرات والتجارب بين الجهات والمراكز الأمنية المختصة في البلدين، واتفقا على المضي بدعم جهود العراق بالتعاون مع التحالف الدولي للتصدي لبقايا تنظيم داعش الإرهابي، وعلى أهمية التعاون المشترك في تأمين سلامة الحدود بين البلدين. كما اتفق الجانبان على الآتي:
- تأسيس صندوق عراقي - سعودي مشترك، يقدر رأس ماله (3) مليارات دولار، لتعزيز الاستثمار السعودي في المجالات الاقتصادية في العراق.
- التعاون في مجالات الطاقة، والطاقة المتجددة، مع ضرورة الاستمرار في التعاون وتنسيق المواقف في المجال البترولي، ضمن نطاق عمل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، بما يضمن استقرار أسواق البترول العالمية.
- إنجاز مشروع الربط الكهربائي.
- تعزيز فرص الاستثمار للشركات السعودية ودعوتها الى توسيع نشاطاتها في العراق، وفي مختلف المجالات، وفي جهود إعادة الإعمار.
- تكثيف التعاون والتنسيق وتبادل وجهات النظر بخصوص المسائل والقضايا التي تهم البلدين على الساحتين الإقليمية والدولية وبما يسهم في دعم وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
- أكد رئيس الوزراء العراقي على دعم مبادرة السعودية لإنهاء أزمة اليمن.
ختامًا، يمكن أن تتطور العلاقات العراقية - السعودية نحو مستويات أفضل في حالة وجود إرادة سياسية مشتركة لديها رغبة للمضي سويا لتطوير مجالات التعاون بينهما. وذلك من خلال تفعيل العديد من مجالات التعاون التي تسهم في تطوير العلاقات بينهما، وأبرزها المجالات السياسية، والاقتصادية، والاستثمارية، والدبلوماسية.
وسيكون من السابق لأوانه افتراض أن نفوذ إيران القوي في العراق سيحكم على هذه الاستراتيجية السعودية بالفشل، ذلك أن نفوذ إيران ليس مطلقًا، وهو رغم نجاحه في القضاء على إبراز مرتكزات القوة للمجتمع السنيّ، واستيعاب مرجعياته السياسية وقواه المحلية، فإنه يواجه نقيضًا نوعيًا من قوى داخل المجتمع الشيعي، الذي يفترض أن يكون بيئته الحاضنة الطبيعية، وقد كان ذلك نهجه لزمن طويل.