تلعبُ التكنُولوجيا دوراً مُهمّاً وحيويّاً في العلاقات الدَّوليَّة المُعاصرة، فالتَّنافُسُ اليوم بين الدُّول الكُبرى أصبح حول امتلاك التكنُولوجيا والمعرفة بكافَّة جوانبها (اقتصاديَّة، وعسكريَّة، وإعلاميَّة ... إلـخ)، كما أن التفوقُ المعرفيُّ – العلميُّ - التكنُولوجيُّ الابتكاريُّ أضحى في وقتنا الحالي هُو المصدر الرئيسي لقُـوَّة الدَّولة ووزنها في ميزان القوى العالميِّ في عصرنا الرَّاهـن، فهذا التَّفوُّقُ هُو مصـدرُ القُـوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة، ومنْ ثمَّ السِّياسيَّـة. ولذلك، تأتي أهمية "الثورة المعلوماتية" في الربط بين أجزاء النظام الدولي من الفاعلين المختلفين، وزادت أهمية الفضاء الإلكتروني ودور التكنولوجيا في الصراعات الدولية، من خلال حروب الشبكات، وحروب الفضاء الإلكتروني التي تدار بالتكنولوجيا والقوة الناعمة.
وسننطلقُ في هذا التقرير من: تعريف التكنُولوجيا (Technology)، ودورها في العلاقات الدَّوليَّة المُعاصرة، ثُمَّ نتناول أبـرز الأبعــاد التكنُولوجيَّة في العلاقـات الأمريكيَّة - الرُّوسيَّة.
* مفهُـومُ "التكنُولوجيـا" وتطبيقاتُها الرَّئيسيَّة:
يُعـرِّفُ (قامُوسُ بنجوين للعلاقات الدَّولية) التكنُولوجيا بأنَّهَا: "تطبيقُ المعرفة على الحلِّ العمليِّ للمشاكل". ويُلاحظُ أنَّ تعريفات التكنُولوجيا تندرجُ -على العُمُوم- في محورين رئيسيين، الأول: يُعامل التكنولوجيا على أنَّها مُتغيِّرٌ "مُستقلٌّ"، بينما يُعاملُها الثاني على أنَّها مُتغيِّرٌ "تابعٌ"، أو نظامٌ مفتُـوحٌ يتأثرُ ويُؤثِّرُ في البيئـة المُحيطـة. ويتمحور مفهوم التكنولوجيا عموما في المجال التَّطبيقيِّ للعلوم والهندسة، ومنْ ثمَّ يُمكنُ اعتبارُ التكنُولوجيا عبارة عن تطبيقاتٍ مُتوقَّعةٍ للمعرفة الإنسانيَّة، التي تمَّ اكتشافُها عن طريق الِّدراسات والبُحُوث العلميَّة. إذاً، مفهُومُ "التكنُولوجيا" مُرادفٌ لمُصطلح "تطبيق المعـرفـة" (Applied Research)، وبالتالي، يُمكنُ القـولُ إنَّ التكنُولوجيا تختصُّ بتطبيق نتـائج الأبحـاث العـلميَّة في مجــالٍ مُحــدَّدٍ.
ومن هنا، فإن من أهم تطبيقات التكنولوجيا المتقدمة (High Technology) المجالات الخمسة التالية: أولا: تكنولوجيا المعلومات: وترتكز على الكمبيوتر والإلكترونيات الدقيقة والاتصالات والألياف الضوئية والبرمجيات وشبكة المعلومات، ثانيا: التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية، ثالثا: تكنولوجيا الليزر، رابعا: تكنولوجيا الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية، خامسا: تكنولوجيا المواد الجديدة والمصنعة. وقد أكدت العديد من الدراسات على الدور الكبير الذي يلعبه التطور التكنولوجي والإنفاق على البحث والتطوير في خلق المزايا النسبية والتنافسية.
* دورُ التكنُولوجيا في العلاقـات الدَّوليَّة المُعـاصـرة:
يشير المفكر الأمريكي ألفن توفلر في كتابه "تحول السلطة: بين العنف والثروة والمعرفة" إلى أن: "الصراع (الدولي) القادم - سيدور حول المعرفة، وسيكون مسرحه وميدانه عقول البشر وما تحتويه من معلومات ومعارف".. ويرى خبراء أن: "قضايا التكنولوجية ستحتل مكانة رئيسية في التنافس الدولي"، خصوصا بين الولايات المتحدة وبقية القوى الكبرى. وبالفعل، أصبحنا اليوم أمام بيئة تكنولوجية عالمية معقدة، وقد دشنت التكنولوجيا عصرا جديدا أسفرت فيه عن ميزاتها الفاعلة، وخصوصيتها في صياغة نظرية جديدة للقوة. وفي سياق العلاقات الدولية، كان للتكنولوجيا أكبر أثر على قضايا ذات طابع أمني عسكري، فقد أصبح العنف والتهديد بين الأطراف الفاعلة دوليا مقيدا بالتكنولوجيات المتاحة لهم. كما أن التغيير الذي أوجدته التكنولوجيا أظهر مشكلة "الاستقطاب" في النظام الدولي. لقد أصبح الصراع بين القوى الكبرى قائما على الأبعاد التكنولوجيا بشكل واضح، وثمة حروب طاحنة اليوم، توصف أحيانا بأنها "هادئة"، سببها التنافس على التطور التكنولوجي، وتحقيق مزيد من الإنجازات الكبيرة على هذا الصعيد، لأن آثارها مزيد من التقدم على سلم القوة العالمي.
* أبرزُ الأبعــاد التكنُولوجيَّة في العلاقـات الأمريكيَّة - الرُّوسيَّة:
في ظل بيئة عالمية تتسم بعنف المعلومات، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في كل شيء، أصبح هناك ساحة صراع دولية، السِّلاحُ فيها ليس تقليديّاً، وإنما تكنولوجيّاً، قائمٌ على اختراق البيانات السِّريَّة، واستخدام القرصنة الإلكترونية عبر شبكة المعلومات، في الفضاء السيبراني العابر للحدود، في ضوء هذه المعطيات تتفاعل القوتان الكبريان (الولايات المتحدة وروسيا) عبر هذا الفضاء، وتزداد تلك التفاعلات حدة ما دامت هناك مصالح تتعرض للتهديد من القوة الأخرى.
* هـل نحنُ أمام هيمنة تكنولوجية (رقمية) أمريكية؟:
إن هذا السؤال يطرح لأن ثمة سيطرة واضحة للشركات الأمريكية التجارية على القطاع الرقمي العالمي، وفي هذا الجانب يوجد بعدان، مادي وقانوني، من جهة أولى، تقع معظم الأجهزة الأساسية لخوادم نظام أسماء المجالات في أمريكا، ومن جهة أخرى: لا تزال هيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة (الآيكان) منذ إنشائها في 1998 متعاقدة مع وزارة التجارة الأمريكية، ومن البديهي أن تقوم هذه السيطرة التكنولوجية والقانونية بتسهيل السيطرة التجارية.
فشبكة الإنترنت -في البداية- صناعة أمريكية، وشركة (جوجل) عملاق الإنترنت أمريكية، ومدعومة من الإدارة الأمريكية، وشركة مايكروسوفت -أيضا- التي تسيطر على سوق أنظمة استخدام أجهزة الكمبيوتر، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك يشير إلى وجود هيمنة أمريكية ملحوظة في القطاع الرقمي على الصعيد العالمي.
جدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة أقرت استراتيجية جديدة للأمن السيبراني عام 2018، دخلت حيز التنفيذ بعد قرار ترامب بإلغاء قيود حددها سلفه أوباما للعمليات السيبرانية، والاتجاه للاستعداد للحرب السيبرانية، من خلال بناء قوة تكنولوجية أكثر فتكا، وتوسيع التحالفات والشراكات، وأن قيام أي دولة بنشاط سيبراني ضده سيكون الرد عليه بطريقة هجومية ودفاعية، وأن فشل عملية ردع الأنشطة السيبرانية التي تشكل استخداما للقوة ضد أمريكا ستدفع إلى استخدام القوة المشتركة من القدرات العسكرية، أي ردا على ذلك في المجال المادي. وترى الولايات المتحدة أن الفضاء السيبراني يجب أن يعزز التفوق العسكري، وممارسة الأنشطة الاستخباراتية، وحماية الأمن القومي، والعمل على ردع القوى الدولية المُنافسة.
* ملامح التَّقدُّمُ الروسي في المجـال التكنُولوجيِّ:
حقَّقت روسيا في العقدين الماضيين نهضةً اقتصاديَّةً وتقدُّماً تكنُولوجيّاً واضحاً على أكثر منْ صعيدٍ، "حيثُ أصبحت تتمتعُ بقُـدراتٍ عاليةٍ في مجال علوم وتكنولوجيا الفضاء، تجعلُ الولايات المُتحدة تستعينُ بها حين تتعطَّلُ مركباتها الفضائيَّة، وتملك أيضاً تكنُولوجيا "النانو المُتطـوِّرة"Nanotechnology. ويُعدُّ تصنيعُ الطائرات أحد أكثر قطاعات التكنُولوجيا العالية كثافة في الاقتصاد الروسي الحديث. وتُعتبرُ الصِّناعات الدفاعيَّة في روسيا قطاعًا مُهمّاً واستراتيجيّاً، فروسيا هي ثاني أكبرُ مُصدِّرٍ للأسلحة التقليديَّة بعد الولايات المُتحدة. وكان أحد الإنجازات التكنُولوجيَّة الحديثة للصناعة الروسيَّة هي الرحلة الأولى لمُقاتلة "الجيل الخامس" (Sukhoi Su-57)، والتي كسرت احتكار الولايات المُتحدة الكامل لتطوير وإنتاج طائرات "الجيل الخامس". بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ من المُنجزات الرُّوسيَّة المُهمَّة، والتي مرَّت بعدة مراحل وعقبات، منظُومةُ "جلوناس(Glonass)"، وهي مُخصصَّةٌ لضمان ملاحةٍ سريعةٍ، وتقديم دعمٍ غير محدُودٍ للمُستخدمين في الجو والبر والبحر والفضاء.
وفيما يتعلق بالاستراتيجية الروسية في المجال التكنولوجي والمعلوماتي، يلاحظ أن روسيا لم تدشن قيادة عسكرية للفضاء السيبراني، بخلاف الولايات المتحدة، إلا أنها تعتمد على استراتيجيات جديدة لتعزيز قدراتها في هذا المجال. وتنطلق الرؤية الروسية من استخدام مصطلح "أمن المعلومات"، كتعريف لــ"الأمن السيبراني".. وترى أنه من الصعوبة ممارسة الدولة الرقابة والتنظيم الكامل للأمن السيبراني، وتسعى لبناء معايير دولية، من خلال التعاون في هذا الفضاء. وهناك تناقض روسي مع القوى الغربية حول إنشاء معايير "الإنترنت الدولية"، وتفصل بين تهديدات أمن المعلومات الخارجية ونظيرتها الداخلية. ويرى بعض الخبراء الروس في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: أن هناك حربا عالمية قد بدأت، هي حرب إلكترونية، هجين، (عسكرية وتجارية..)، ومن الناحية التكنولوجيّة، فرضت الولايات المتحدة تقنياتها الرقمية على الجميع منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد أعلنت، عبر إعلامها، أنها تستعد لهجوم إلكتروني على نظام الطاقة الروسي. وهذا ليس التهديد الوحيد، ولا الأول من نوعه.حيث صرَّحت الولايات المتحدة علنًا، في نوفمبر 2018 في استراتيجيتها القومية الإلكترونية، بأن لديها عدوَّين رئيسيَّين: روسيا والصين.
* أبرز الخلافات الروسية - الأمريكية حول القضايا التكنولوجيا:
- هناك خلافات مستمرة وتنافس شديد بين روسيا وأمريكا حول عدد من القضايا التكنولوجيا، وتلخص تلك الخلافات رغبة الدولتين في الاستفادة القصوى من التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها المعاصرة، والاستئثار بما توفره من إمكانيات التفوق على الخصم، وزيادة الارتقاء في سلم التطور.
- المخاوف المستمرة بين الدولتين من التعرض للتجسس الاقتصادي والصناعي، وتوظيف أجهـزة الاستخبارات الأجنبية للمجــال السيبراني.
- الصراع على كيفية تشكيل القواعد والمبادئ الدولية، التي تنظم التعامل مع التهديدات المحتملة في الفضاء السيبراني، مما دفع روسيا للتحول من العزلة عن السياسات العالمية إلى الانخراط بشدة بها، بل السعي لإيجاد تكتل قوي في مواجهة تكتل آخر بقيادة الولايات المتحدة.
- تدشين الولايات المتحدة لقيادة عسكرية للفضاء الخارجي (أغسطس 2018)، مما يعني انتقال الصراع إلى الفضاء الخارجي، بهدف الهيمنة، ومنع خصومها من الاستفادة من المزايا الاستراتيجية، ومواجهة تطوير روسيا لأسلحة فضائية قادرة على استهداف الأقمار الأمريكية.
- الخلاف حول "اتفاقية بودابست لعام 2001"، التي وقعتها أمريكا إلى جانب خمسة وخمسين دولة أخرى، وترفضها روسيا؛ لأنها تعتبرها تهديدا مباشرا لسيادتها.
- يهدف المقترح الروسي إلى وضع قواعد السلوك المتبعة في الفضاء السيبراني، والتحقيق في الأنشطة الخبيثة، بينما رأت أمريكا أن الاقتراح سوف يعزز من قدرات روسيا وغيرها من الدول التي وصفت بأنها "سلطوية في السيطرة على الاتصالات في الداخل".
-قامت شركات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية، فى الفترة الأخيرة، (مارس 2021) بحظر للمحتوى القادم من روسيا، وقدعلقت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على ذلك بالقول: إن هذا "يوضح أن واشنطن تواصل استخدام فرص تكنولوجيا المعلومات للمنافسة غير النزيهة في جميع المجالات".مُشيرةً إلى أنَّ هذه الشركات وصلت إلى "مأزقٍ دلاليٍّ وتكنُولوجيٍّ"، وأن "المنصات الرقمية الأمريكية قرَّرت إحياء الذكرى السنوية القادمة لإعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا بطريقتها الخاصة"، مُشيرةً إلى فرض "جوجل" قيُوداً عُمريَّةً بشكلٍ تعسُّفيٍّ على الفيلم الوثائقي: "القرم: طريقُ العـودة إلى الوطن" المنشُور على (يوتيوب)، ثم قيام "إنستجرام" بحجب جزئي لقناة "القرم 24" التلفزيونية، وحرمانها من فرصة نشر معلومات نصية، بالإضافة إلى الصور. واعتبرت زاخاروفا أن بذلك "قد فقدت المنصات كل الضوابط"، فالأمر يتجاوز "الخلفيات السياسية لتحركات شركات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية، التي تتبع إرشادات واشنطن". "إن المحتوى الرقمي يخضع للرقابة التعسفية والعشوائية من قبل بعض الوسطاء دون قرار من المحكمة أو السلطات المختصة"، ومع ذلك "تستمر المنصات ذاتها بإطلاق دعوات للحفاظ على الحرية في الإنترنت".
أخيرا: نخلص من التحليل السابق إلى أن ثمة صراعا شديدا بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على استخدام وتطوير التكنولوجيا المعاصرة في العلاقات الدولية، يسهم في تشابك وتعقد طبيعة العلاقات بين هاتين القوتين، فالأبعاد التكنولوجيا في خضم ذلك الصراع لها ملامح عديدة، منها: استخباراتية وعسكرية وسياسية واقتصادية وطاقوية وقانونية، ورغم التوتر الذي قد يشوب العلاقات الروسية الأمريكية في بعض تلك الملفات، في فترات مختلفة، فإن تغليب المصالح المشتركة هو ما يبرز غالبا في عدد من المواقف والتحديات، في حين قد يتصاعد التهديد والتوتر في مواقف أخرى، مما يتطلب معه ضرورة ضبط النفس، ومراعاة المصالح القومية، والتعويل على دور المنظمات الدولية في حفظ السلم والأمن الدوليين.