يقول لوتشيانو فلوريدي، أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أوكسفورد البريطانية، في «الثورة الرابعة.. كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني "2014":
"غيرت الثورة الرابعة فكرتنا عن أنفسنا بأننا محور الكون والكائنات الأكثر ذكاء، فلم نعد نتحكم في محتوى عقولنا، بعد أن كنا نظن أننا السلالة المسئولة تماما عن الأفكار الخاصة بها. فقد كانت قدراتنا العقلية العليا في التفكير هي خط الدفاع الضمني، الذي لا يزال قائما، عن مكاننا الاستثنائي في الكون، بكل بساطة افترضنا أننا مركز (الانفوسفير) أيضا ولا أحد ينافسنا فيه، ولكن وبكل بساطة تم تقويض هذه الفكرة بتصميم آلات مستقلة ذاتيا أكثر ذكاء منا في معالجة المعلومات بصورة منطقية. لم نعد فعليا سادة «الانفوسفير»، فأجهزتنا الرقمية تنفذ أوامر بالتفكير الذكي والتحليل عوضا عنا وأفضل منا بالتأكيد. ولسنا أيضا عناصر «نيوتونية» مستقلة وفريدة من نوعها، بل كائنات حيّة معلوماتية متصلة بعضها ببعض، وجزء لا يتجزأ من بيئة معلوماتية (الانفوسفير)". ومن هنا فإن الانفوسفير أصبح مصطلحًا يدل على «البيئة المعلوماتية التى تتألف من جميع الكيانات المعلوماتية وخصائصها وتفاعلاتها وعملياتها وعلاقاتها المتبادلة.
فالغلاف المعلوماتى وإن كان يشمل العالم ككل بلا تمييز بين الأقاليم المختلفة، إلا أن رؤية لوتشيانو الفلسفية لأهمية الثورة الرابعة وعصر المعلومات كانت ملهمة وكاشفة للعديد من التفاصيل واجبة الاعتبار .
فالغلاف الحيويى أو الجوى أو المعلوماتى هو الحيز الذى توجد به الحياة أو الهواء أو المعلومات وداخل هذا الحيز أو الطبقات توجد الاختلافات المرصودة فى المجتمعات الحالية، التى تحولت إلى فوضى عارمة، غير قادرة على معالجة نفسها ولم نصبح منتمين لهوية جمعية واحدة كما كان مخططاً للعولمة أن تذهب بنا، والواقع الآن أنه تم التخطيط لإلغاء الهويات الإقليمية فى سبيل تشكيل هويات رقمية مُفصلة لكل بلدة على حدة.
فالتكنولوجيا الرقمية والوسائط المتعددة ووسائل التواصل الاجتماعى، خلقت حالة من عدم الثقة والإلهاء واللامبالاة وعدم القدرة على التركيز على القضايا المهمة والحقيقية، والمزيد من الاغتراب وعدم الانسجام، ناهيك عن المزيد من الشعبوية والاستقطاب، كل هذا تحت غلاف معلوماتى واحد، فكيف؟
الجغرافيا الطبيعية:
«إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى فهم كامل لوجهنا ولوجهتنا لكياننا ومكانتنا، لإمكاناتنا وملكيتنا، لنقائضنا ونقائصنا، وكل أولئك بلا تحرج أو تحيز، ولا هروب، فليس كتابي هذا دفاعاً عن مصر، ولا هو محاولة للتمجيد، إنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالعيوب على حد سواء، ويشخِّص نقاط الضعف والقوة» (جمال حمدان).
يرى علم أعلام الجغرافيا الأستاذ جمال حمدان أن الجغرافيا ليست خطوط طول وعرض فحسب، بل هى قيمة ما تحويه هذة الخطوط من تركبيات اجتماعية وهويات وثقافات ومنتجات وثروات، فكل فرد على سطح الكوكب هو ابن إقليمه وبلدته وقريته وأسرته، يتبعها في العرق والهوية والثقافة، يتبعها فى السلوكيات والقيم وطريقة الحياة، ولكل إقليم بصمة مميزة يتميز بها أهل الأقليم عن أقرانهم فى الأقاليم الأخرى، بما يسمح لهم بالتكامل مع الآخرين، نظراً لاختلافاتهم، ولإيضاح نظرة الراحل جمال حمدان فى محتوى خطوط الطول والعرض وتكوين الثقافات نذهب إلى مفهوم أدق، وهو جغرافيا الإقليم.
مفهوم الجغرافيا الإقليمية:
تدرس الجغرافيا الإقليمية الإقليم كجزء من سطح الأرض يتميز بظاهرات مشتركة وبتجانس داخلي يميزه عن باقي الأقاليم، ويتناول كل الظاهرات الطبيعية والبشرية في هذا الإقليم بقصد فهم شخصيته وعلاقاته مع باقي الأقاليم، وتحديد الإقليم على أسس واضحة، وقد يكون ذلك على مستوى القارة الواحدة أو الدولة الواحدة أو على مستوى كيان إداري واحد.
وتهدف الجغرافيا الإقليمية إلى العديد من الأهداف لأجل تكامل البحث في إقليم ما، ويُظهر ذلك مدى اعتماد الجغرافيا الإقليمية على الجغرافيا الأصولية اعتماداً جوهرياً في الوصول إلى فهم أبعاد كل إقليم ومظاهره، لذلك فمن أهم تلك الأهداف هدفين رئيسيين:
-
الربط بين الظاهرات: تربط الجغرافيا الإقليمية بين الظاهرات الجغرافية المختلفة لإبراز العلاقات التبادلية بين السكان والطبيعة في إقليم واحد.
-
تحديد شخصية الإقليم: تهدف كذلك إلى تحديد شخصية الإقليم لإبراز التباين الإقليمي في الوحدة المكانية المختارة.
هذه هى الجغرافيا الطبيعية التى تُشكل صفات كل البشر الكائنة فى حيزها، واليوم أصبح لدينا جغرافيا افتراضية جديدة تُشكل هويات جديدة وثقافات متنافرة وتذكى حالة من الفوضى يجب أن نتوقف أمامها بالتحليل والفحص.
نشأة الهويات الجغرافية الافتراضية (Geographical identities hypothetical):
هو مصطلح مستحدث من بناء الكاتب يشرح به كيفية وجود حدود جغرافية افتراضية جديدة فى حياة الشعوب بعد ظهور الممالك الافتراضية أو الجمهوريات الافتراضية التى تحكم وتتحكم فى شعوبها أو متابعيها بشكل أصيل وتضع لهم الحدود المعرفية التى تحد الوعى من الجهات المختلفة فنرى أن كل دولة أو إقليم لها محرك بحثي خاص بها فلدينا جوجل مصر ويوجد جوجل المملكة المتحدة فلكل محرك بحثى معلومات خاصة تبث لكل دولة على حدة.
وفى نفس الشأن تقوم تلك المحركات والوسائط بتجميع المعارف الخاصة بكل أقليم طبيعى لتحويليها إلى إقليم معرفى بحدود معرفية جغرافية جديدة ، حتى الشخص المُستخدِم نفسه تُبث له معارف خاصة باهتماماته تم استنباطها من المعلومات التى أقر كتابياً بالتنازل عنها فى مقابل إنشاء حساب له، أو بمعنى آخر تحرير سند انتمائه لتلك المملكة، وبطاقة هوية رقمية بعد أن كانت بطاقة رقم قومى.
فإذا ما قرر مجموعة من الأصدقاء فى مناطق متباعدة أو دول مختلفة البحث عن موضوع واحد أو نفس الجملة، سيحصل كل منهم على إجابة مختلفة وفق المعطيات المتفاعلة، من خلال الذكاء الاصطناعى الخاص بكل إقليم مختلفة بالبحث عن موضوع محدد، حتى الأصدقاء من نفس الإقليم ليس بالضرورة أن يتحصلوا على نفس نتيجة البحث، وذلك وفق لاهتمامات كل فرد منهم.
فالذكاء الاصطناعى يسعى للاستفادة القصوى من كل بياناتنا والاستفادة أيضاً من تحليل ردود أفعالنا وإيماءات وجهنا ولغة جسدنا وانفعالتنا وعواطفنا ورغباتنا حتى يستطيع تعديلها والحفاظ على المُستخدِم داخل النطاق الجغرافى الافتراضى الموضوع له.
كما هو الحال فى (فيلم ترومان شو إنتاج 1998) لجيم كارى ومن إخراج بيتر وير، فلكل منا واقع خاص وحقائق خاصة، ولكن نحن نتقبل الحقائق كما تقال لنا هكذا كانت إجابة إيد هاريس (المخرج كريستوف)فى الفيلم على سؤال المذيع عما إذا نجح ترومان أن يكتشف واقعة الخاص حتى الآن أم لا؟
ولك أنت تعرف عزيزى القارئ أن من أهم الوظائف فى الممالك الافتراضية والبيئات الرقمية هم مختصصون علم الإقناع وعلم الأخلاق فهم المسئولون عن توفير تكنولوجيا تساعد فى تطويع السلوك الإنسانى نحو المزيد من المكاسب والسيطرة، فرغبة هذه الممالك ليس فى أنك تكون مُشترى للتطبيق، بل يسعى جاهدا للسيطرة على عقلك اللاواعى ليزرع داخلكم عادة غير واعية أيضاً، فيعاد برجمة المخ البشرى من جديد دون أن تشعر. فالبيئة الإلكترونية أو الرقمية الجديدة غرضها الأساسى هو التلاعب بك، وتعديل أرضية السلوك الإنسانى، فهى ليست أداه فى انتظار استخدامك غير النمطى لها ولكن لها أهدافها الخاصة ووسائلها الخاصة لتحقيق ذلك، وهى استغلال سيكولوجيتنا ضدنا.
فقد أصبح بالإمكان، من خلال استخدام خوارزميات تحليل البيانات المنشورة على السوشيال ميديا مثلاً، دراسة الأفكار، والاتجاهات الفكرية والنفسية، والمشكلات والأوضاع والحركات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإنسانية، فضلا عن الأذواق والاختيارات والعلاقات، كما يستخدم جوجل ماب أيضا خوارزميات لاقتراح الطرق الأكثر ملاءمة، وتتيح معرفة مواقع الرادارات، وتحذر السائقين من زيادة السرعة لتفادي المخالفات المرورية.
وبفضل الذكاء الاصطناعي تقدم منصة نتفلكس اقتراحات وتوصيات لمشاهدة أفلام مبنية على تحليل ما يفضله المشاهد، وتستخدم شركة أمازون تقنية الذكاء الاصطناعي لتحديد ماهية البضائع التي يمكن أن ترغب بشرائها ويظهرها أمامك دون أي تدخل بشري، لقد أصبحت حياتنا وخياراتنا خاضعة لتأثيرات برمجيات التكنولوجيا الذكية، وكل ذلك من أثمن وأهم ما يُستعان به في رسم السياسات والاستراتيجيات الكبرى للتحكم بالمجتمعات والدول.
وبالطبع، تتداخل الحدود الجغرافية الافتراضية المعرفية الجديدة وبعضها كهدف من أهداف العولمة والهوية العالمية الجديدة، ولكن تظل لكل دولة حدود جغرافية افتراضية جديدة تشكل شخصيتها وهويتها الجديدة.
الحدود المعرفية: هى حدود الفرد فى حصولة على المعلومات من المحركات المتاحة، وهذه الحدود يتم تشكيلها الأشكال بطريقين، الأول هو المخرجات المعلوماتية الخاصة بالمواطن الرقمى، والتى يقوم بالتنازل عنها مقابل إنشاء حساب له فى المملكة الافتراضية المزمع انتماؤه لها، والتى يعاد استخدامها مرة أخرى فى المجالات التجارية المباشرة وغير المباشرة، والطريق الثانى هو رغبة مُلاك المحرك أو التطبيق فى تحقيق أقصى استفادة ممكنة منك كسلعة.
فكل المعارف المبنية على المعلومات المتنازل عنها يتم تحليلها بغرض الحفاظ عليه كمواطن رقمى داخل تلك الحدود الجغرافية، ولضمان عدم خروجه منها، ولضمان الحفاظ على هويته وثقافته الجديدة وضمان استمرار حالة الاغتراب مع الحدود الطبيعية لإقليمية.
إذن يمكن القول، إن الهويات الجغرافية الافتراضية هى ذاتها الهويات الرقمية الجديدة المؤقتة الموجهة للأفراد داخل الأقاليم الجغرافية الافتراضية الجديدة، فهو ينتمى لعالم آخر الآن، وفق هويته المؤقتة الحديثة.