مثَّلت زيارة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي إلي السودان نقلة نوعية حقيقية في مسار العلاقات المصرية - السودانية، وسترتب الزيارة بجدول أعمالها وفعالياتها محددات وركائز مهمة في اتجاهات العلاقات مع دول حوض النيل من جانب، وإثيوبيا من جانب آخر، وفي توقيت له دلالاته السياسية والاستراتيجية لمصر والسودان.
تطورات مفصلية:
جاءت زيارة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي في توقيت بالغ الأهمية، وفي ظل تجمد مسارات المفاوضات الخاصة بسد النهضة، وعدم وجود أفق حقيقي لاستئناف التفاوض علي أسس واقعية وجادة في ظل السلوك الإثيوبي المراوغ، والذي استمر في منهاجه رافضا التحرك قدما للتوصل لاتفاق حقيقي متماسك قبل الملء الثاني المحدد له يوليو المقبل.
طرح الجانب السوداني فكرة الرباعية الدولية، وهي فكرة جيدة في إطار جمع كل الوسطاء في دائرة واحدة، ومن خلال جهد مجمع، ولكن الموافقة الإثيوبية علي هذا المقترح ستحتاج إلي قبول بإطار زمني محدد منعا لتكرار ما جري من سلوك إثيوبي سابق حتى وصلت إثيوبيا علي مقربة من الملء الثاني، وبالتالي فإن التنسيق المصري - السوداني، والذي تمثل في مزيد من الاتصالات، واللقاءات العسكرية والدبلوماسية، ثم زيارة السيد الرئيس، كل ذلك له بعد سياسي استراتيجي، وتؤكد أن التنسيق بين القاهرة والخرطوم وصل إلي أعلي درجت التنسيق والرسالة واضحة.
بدءاً من طرح الفكرة السودانية، مرورا بالقبول المصري ومسارات التحرك الثنائي، فإن التحرك الدولي ممثلا في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة يجب أن يتحرك، خاصة مع ضغط الوقت في هذا التوقيت علي الجانبين المصري والسوداني، وفي ظل تخوفات من شراء إثيوبيا للوقت، مما سيكون له تبعات حقيقية علي الأطراف المعنية، إذ من المطلوب أن يكون هناك تحركا من الأطراف المستهدفة، خاصة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي، وكلاهما لم يتضح بعد مدي قبولهما التفاوض، واستئناف العمل معا باستثناء تصريح صدر علي استحياء من الجانب الأمريكي بالإعلان عن الالتزام باستمرار مفاوضات سد النهضة.
أسس الحركة الاستراتيجية:
إذن، فالأساس في التحرك الراهن مصريا وسودانيا وليس أي طرف آخر، مما يؤكد أن مسارات التحرك ثنائية وليست متعددة الأطراف إلي حين اتضاح الأمر، مع إعلان القاهرة الالتزام بالتفاوض علي أسس واقعية، وليس التفاوض من أجل التفاوض، مع التأكيد علي أن القاهرة ترفض تماما سياسة الأمر الواقع، أي تشغيل السد بعد الملء الثاني بالقوة، فهذا لن يتم وترفضه القاهرة والخرطوم، ومن ثم فإن تصريحات السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي في الخرطوم حادة ومباشرة ولا تحتمل منهج أنصاف الحلول، وبالتالي فإن الإعلان الإثيوبي بقبول التفاوض يجب أن يتم وفق آليات محددة وإطار زمني مقبول.
رسالة الرئيس:
إن رسالة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي من الخرطوم تدفع الأطراف المرشحة لبدء التفاوض للتحرك، وليس لالتماس الخيارات والحلول والمفاوضات المفتوحة، وفي هذا الإطار يجب التذكير بأن البنك الدولي سبق وأن طرح الإدارة المشتركة والمشاركة في التشغيل والعمل معا، وهو ما ترفضه إثيوبيا وتعاملت معه بصورة غير ودية مثلما تعاملت مع مخرجات إعلان واشنطن الذي تم التوقيع عليه مصريا، ولم يوقع عليه السودان حتي الآن، وبالتالي فإن المطروح اتفاق شارع علي أسس ومبادئ محددة، إضافة لتحديد جهات للمراقبة، والمتابعة لضمان التزام الأطراف المختلفة.
وبالتالي، فإن زيارة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي وضعت النقاط علي الحروف في إطار التعاملات المقبلة مع إثيوبيا، وفق ما هو قائم بالنسبة لسياسة تشغيل السد، وما سوف يخلفه من تداعيات. أما مع السودان، فإن الحرص المصري علي استكمال تنفيذ المرحلة الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة، والانتقال إلي نظام راسخ مع دعم الخرطوم في نزاعها مع إثيوبيا في منطقة الحدود فهو أمر طبيعي علي اعتبار أن استقرار السودان يمثل استقرارا لمصر، وأن هذا الأمر يجب أن يفهم كأساس للأمن القومي المصري والعربي، وبالتالي، وفي حال تهديد أمن السودان من قبل أي طرف، فإن مصر ستتدخل مثلما جري ويجري لأي تهديد لأمن أي دولة عربية من قبل أية تهديدات إقليمية، ورسالة مصر واضحة تماما وهو ما تدركه كل القوي في الإقليم.
أطر جديدة:
ستدخل إذن العلاقات المصرية - السودانية مساحات من التقارب السياسي والاستراتيجي مما سينقل رسالة إلي الأطراف الإقليمية في دول حوض النيل ولإثيوبيا أنه لا مجال للمراوغة السياسية أو الاستراتيجية، وأن التنسيق المصري - السوداني سيشهد بالفعل مرحلة تجمع بين التكتيكي والاستراتيجي، في ظل الحرص علي وحدة شعب وادي النيل، وأن أي ضرر سيجري علي السودان سيمس مصر، ولهذا فإن زيارة السيد الرئيس للخرطوم تدشن أطرا جديدة لبناء موقف متماسك في مواجهة القادم، سواء قبلت إثيوبيا بالوساطة الجديدة، أو لم تقبل لتدخل الأطراف المباشرة في دائرة محددة من الخيارات المتاحة وغير المتاحة، خاصة أن البلدين سيتابعا الموقف الإثيوبي في مرحلة ما بعد الزيارة، وفي ظل تحركات إثيوبية في جنوب السودان، ودول حوض النيل، وتجاه الاتحاد الإفريقي لتأمين أي مسار للتحرك الجديد.
خط استراتيجي:
إن السيناريو الأكثر توقعا عقب زيارة السيد الرئيس للسودان هو التوصل لاتجاه جديد للعلاقات المصرية - السودانية مع رسم خط استراتيجي رادع للجانب الإثيوبي وللقوي المساندة له، إقليميا ودوليا، وللأطراف التي يستقوي بهم الجانب الإثيوبي من أنه لا تشغيل للسد بدون اتفاق حقيقي يضم الجميع، وأنه في كل الأحوال يجب أن يتم وفق آليات تفاوضية، وهذا الخط الاستراتيجي يشابه ما طرحه السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي في ليبيا حيث حدد خط سرت - الجفرة واستمر المشهد علي ما هو في ليبيا والتزمت الأطراف المختلفة بما حددته مصر.
يتكرر الأمر بالنسبة لمسار ما سيجري، والتزام مصر بحدود التفاوض السياسي مجددا، بناء علي أرضية سياسية مهمة، لعل الجانب الآخر يتفهمها ويعمل بها. والسؤال: هل تتحرك الولايات المتحدة والأمم المتحدة لدعم الخطوة المصرية – السودانية، أم أن الولايات المتحدة ستنظر للجانب الإثيوبي علي أنه طرف وشريك استراتيجي، وأنها لن تضغط عليه فعليا، كما أن التوقع بتحرك الأمم المتحدة مرتبط بتوافقات دول مجلس الأمن، وتظل الصين، وهي الأهم والداعم الأكبر في مشروع السد، قريبة مما يجري، ولن يكون لها تأثير، وستعرقل الموقف.
تأثيرات مفصلية:
يمكن التأكيد إذن علي أن زيارة السيد الرئيس للسودان سيكون لها ارتداداتها الحقيقية والمباشرة علي العلاقات مع دول حوض النيل، ومع إثيوبيا، بل والقوي الخارجية التي لا تزال تراقب مسارات المشهد، وماذا ستفعل القاهرة التي باتت توحد مواقفها بالكامل مع السودان باعتباره العمق الاستراتيجي لمصر، كما أن الوقوف بجواره مصريا متطلب للأمن القومي العربي بأكمله وليس المصري فقط، وهو ما يجب تفهم تفاصيله الحقيقية وعلي مستويات مختلفة، سواء هدأت الأوضاع علي الحدود السودانية - الإثيوبية، أم لم تهدأ، والموضوع أكبر من صراع علي بؤرة استراتيجية.
سيناريوهات واردة:
لقد وصلت رسالة مصر إلي كل الأطراف بزيارة السيد الرئيس للسودان، والسيناريو القادم سيكون مرتبطا أولا، بقدرة وتفهم الجانب الإثيوبي للحركة المصرية الاستراتيجية الهادفة للتوصل لاتفاق حقيقي ومنصف للجميع، ولا يجور علي حقوق مصر السياسية والتاريخية، مع التأكيد علي الدعم المصري للسودان في أي صراع محتمل أو قادم قد يكون مخرجا من الواقع الذي سيفرض علي الجانب الإثيوبي. ثانيا، المضي قدما في مزيد من الاستحقاقات الثنائية بين القاهرة والخرطوم للتأكيد علي الشراكة الكاملة وتآخي البلدين وفق تكامل سياسي واستراتيجي علي أعلي مستوي بين البلدين، مما سيوحد المواقف والتوجهات علي أرض الواقع. ثالثا، تحرك الأمم المتحدة والولايات المتحدة لتحريك المفاوضات الجديدة علي أسس الالتزام والإطار الزمني مع العمل مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المانحة، وقد يكون هناك تحرك مقابل ومباشر تجاه الدول المستثمرة في السد، وخيارات أخري مطروحة من قبل الجانبين المصري والسوداني.
ختاما، إن خطوات مصر الاستباقية وتحركاتها متعددة الاتجاهات ستضع الجانب الإثيوبي في دائرة واحدة وخيارات محددة، من أجل العودة للتفاوض الحقيقي والالتزام بالمرجعيات السياسية والقانونية في التعامل مع الأزمة إذا رغب فعليا في تنفيذ الملء الثاني وفقا لشروط تفاوضية.