تبدى تركيا وإيران اهتمامًا خاصًا برفع مستوى العلاقات الثنائية بينهما على مستويات متعددة، لاسيما على مستوى العلاقات الاقتصادية، إضافة إلى تنسيق المواقف فى عدد من صراعات الإقليم، وقد ظهر ذلك فى تكثيف تحركاتهما للدخول على خط أزمة البرنامج النووي الإيراني، حيث أكد الرئيس التركي فى اتصال هاتفي مع نظيره الإيراني فى 21 فبراير 2021، أن ثمة فرصة جديدة لحلحلة الخلاف بين واشنطن وطهران. كما وجّهت كل من إيران وتركيا رسائل عديدة إلى إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني إلى اسطنبول، في 29 يناير الفائت تركزت حول ضرورة عودة واشنطن للاتفاق النووي الموقع فى 14 يوليو 2015 .
مع ذلك، يبدو أن التقارب بين البلدين له حدود تفرضها الشكوك التي تبديها اتجاهات عديدة في طهران إزاء نوايا تركيا حيال دعم إيران فى خلافاتها مع واشنطن، إضافة إلى أن ثمة فضايا خلافية عديدة بين البلدين، كشف عنها معارضة طهران للعملية العسكرية التي تشنها تركيا في شمال سوريا، بداية من 9 أكتوبر 2020، تحت مسمى "نبع السلام، ناهيك عن تناقص مصالح البلدين فى منطقة القوقاز. فى المقابل، فإن بعض التطورات الجديدة قد تفرض متغيرات مختلفة تؤثر فى مُحفِّزات التقارب، وكان بارزاً هنا، اعتقال السلطات التركية فى 12 فبراير الحالى موظفا في القنصلية الإيرانية في اسطنبول يشتبه في تورطه في اغتيال معارض إيراني في تركيا عام 2019.
ملفات شائكة:
برغم مساحات التفاهم بشان عدد معتبر من القضايا بين أنقرة وطهران، إلا أن ثمة جملة من التحديات تضع حدوداً لسقف العلاقة بين البلدين، يمكن بيانها على النحو الآتي:
غياب الثقة: ترى طهران أن تقارب النظام التركي معها، وانخراطه في محادثات تسوية الأزمة السورية، لم يمنعه من الحرص على التنسيق مع واشنطن فيما يتعلق بقضايا الإقليم، وظهر ذلك في التصريحات التى أطلقها الرئيس التركي فى 20 فبراير الحالى، وأكد فيه أن أنقرة ترغب في تعزيز التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة، وأن المصالح المشتركة تفوق الخلافات بين البلدين.
ورغم التوترات التي تشهدها العلاقات بين أنقرة وواشنطن اليوم؛ إلا أنإيران تدرك أن تقارب أنقرة معها، هو تقارب مؤقت مرتبط بمصلحة آنية، وهي تصاعد التوتر مع إدارة بايدن، وأن ملفات الخلاف بين البلدين أكثر من ملفات التوافق، ويعزز منذلك حجم ملفات الخلاف التاريخية منذ عهد الدولتين العثمانية والصفوية.
في هذا السياق، ربما لا تستبعد إيران أن تكون علاقاتها مع تركيا محورًا لنقاشات بين أنقرة وواشنطن والاتحاد الأوروبي، تسعى من خلالها الأولي إلى استثمار العلاقة مع طهران لمساومة الثانية حول القضايا العالقة، فى الصدارة منها اتهام وزير الخارجية الأمريكي، أنتونى بلينكين، لتركيا بــ "الشريك المزعوم"، فضلا عن مساعى أنقرة لتلطيف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي قبيل قمته المقرر لها مارس 2021، والتى قد تتجه نحو فرض مزيد من العقوبات على أنقرة بسبب عمليات التنقيب غير القانونية شرق المتوسط.
تمدد تركيا عسكريا في مناطق النفوذ: تتصاعد مخاوف طهران من توجه تركيا نحو توظيف وجودها العسكري في سوريا والعراق، من خلال التوسع في بناء القواعد العسكرية الدائمة، ناهيك عن أن العمليات العسكرية التركية المتتالية في شمال العراق لملاحقة مسلحي حزب العمال الكردستاني، وإن كانت تصب في مصلحة إيران، لكنها تخفي قلقا إيرانيا من تصاعد النفوذ التركي في كردستان العراق.تجدر الإشارة إلى أن إيران دفعت، فى 21 فبراير 2021، فصائل شيعية ونواب عراقيين يمثلونها في البرلمان للتعبير عن قلقهم من الوجود العسكري التركي في العراق، ومن خطط تركية لإقامة قواعد عسكرية في سنجار.
بناء حزام نفوذ إيراني: برغم مشاركة إيران وتركيا في محادثات آستانة لتسوية الأزمة السورية إلا أن ثمة خلافات عميقة تحت السطح بشأن الصراع على النفوذ في الإقليم بين البلدين، وظهر ذلك فيمحاولة كلٍّ منهما استثمار صراعات الإقليم، وتوظيفها بما يناسب طموحاتهما. وتَعتبر تركيا أنّ إيران تسعى إلى الهيمنة على الإقليم، وتقسيم المنطقة على مذبح الطائفية، من خلال بسط نفوذها في العراق وسورياولبنان واليمن. وتنظر أنقرة إلى هيمنة المجموعات الشيعية الداعمة لإيران، مثل نظام الأسدفي سوريا، وحزب الله في لبنان، وميليشيا الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن على أنّها نقاط استناد استراتيجية لمحاولة تأسيس حزام نفوذ إيراني يمتدّ إلى المتوسّط، وهو ما تراه أنقرة تهديدا مباشرا لمصادر نفوذها ولمصالحها الإقليمية.
تفاهمات الخصوم: لا تخفي إيران امتعاضها من حرص بعض القوى المنخرطة فى مناطق النفوذ الإيراني، وترتبط فيما بينها بعلاقات قوية رغم القضايا الخلافية بينها، خاصة روسيا وتركيا، على الوصول إلى تفاهمات سياسية وأمنية فى سوريا من دون الأخذ فى الاعتبار المصالح الإيرانية. فعلى سبيل المثال، أبدت إيران امتعاضها مع نجاح الدولتين في الوصول إلى تسوية بشأن الوضع في إدلب خلال قمة سوتشي التي جمعت الرئيسين الروسي فيلاديمير بوتين، والتركي طيب أردوغان، في 17 سبتمبر 2018.
ضبط حدود التوتر:
على الرغم من اتساع نطاق الخلافات العالقة بين تركيا وإيران حول قضايا ثنائية، فى الصدارة منها اغتيال المعارض الإيراني مسعود مولوي في اسطنبول في 14 نوفمبر 2019، إضافة إلى تنامى التوتر حول الملفات الإقليمية المختلفة، وعلى رأسها الأزمة فى سوريا، والتدخلات العسكرية التركية الممتدة فى العراق، فضلا عن مساعى تركيا لتوظيف تفجيرات مرفأ بيروت فى لبنان لدعم مركزية التيار السني فى لبنان، فإن ثمة اعتبارات عديدة قد تدفع الطرفين إلى محاولة ضبط حدود التوتر، خلال المرحلة المقبلة، فى إطار ما يمكن تسميته "توافق الضرورة" الذي تفرضه سلوك الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه البلدين، إضافة إلى المصالح الخاصة، لاسيما على المستوى الاقتصادي.
فى هذا السياق، فإن الطرفين لديهما حرص مشترك على وضع سقف للتوترات حول القضايا الخلافية، وعدم تصعيدها، إذ إن تركيا وإيران لا تريدان المغامرة بتصعيد حدة التوتر فى المرحلة الحالية، لاسيما فى ظل مخاوف البلدين من إمكانية تصاعد حدة التوتر فى علاقتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، حيث صعدت واشنطن من انتقادتها لأنقرة، وترفض استمرار حيازة تركيا لمنظومة الدفاع الصاروخية الروسية إس 400، كما تعارض الانخراط التركي فى شرق المتوسط، وسوريا وليبيا، ناهيك عن مساعى إدارة بايدن لوضع حد لسقف طموحات إيران النووية. وهنا، فإن تهدئة التوتر يبقى مهماً لاستيعاب الضغوط الأمريكية المتوقعة على البلدين.
فى المقابل، ترتبط طهران وأنقرة بمصالح اقتصادية. فالأولى تراهن على الثانية فى الهروب من العقوبات الاقتصادية التى تفرضها عليها واشنطن، بينما تعول الأخرىعلى علاقاتها الاقتصادية مع إيران، التى تعتبرها شريكًا تجاريًا رئيسيًا لها، حيث تسعى الدولتان إلى رفع حجم التبادل التجاري من 10 إلى 30 مليار دولار. كما يمثل الملف الكردى أحد التقاطعات المهمة بين تركيا وإيران، حيث تسعى كلتيهما إلى تفكيك الحواضن الكردية فى الإقليم، كما تبدو هناك حاجة ملحة لتعزيز التعاون فى التوقيت الحالى مع توجهات أمريكية مغايرة تجاه الأكراد فى الإقليم، تتبنها إدارة بايدن، وتستهدف تقديم مزيد من الدعم للأكراد فى الإقليم، وتجلى ذلك فى البيان الأمريكي الفاتر بعد مقتل 13 تركيا فى شمال العراق فى فبراير 2021. كما يمثل التعاون التركي - الإيراني فى هذا التوقيت أولوية استراتيجية للمساهمةفي تقويض المشروع المحتمل لإقامة دولة كردية على المدى الطويل، خاصة أن التطورات الأمنية التى شهدتها الساحة السورية والعراقية عززت طموح الأكراد تجاه هذا المشروع.
فى الختام يمكن القول إنه بالرغم تصاعد القضايا الخلافية بين إيران وتركيا، والتنافس التاريخي على زعامة الإقليم إضافة، إلى التباينات الأيديولوجية، فإن ثمة حسابات تدفع البلدين إلى ضبط حدود التوتر. فأنقرة وطهران تواجهان ضغوطا أمريكية، فضلا عن ضعف المناعة الإقليمية والدولية لكلتيهما. كما يحرص البلدان على تعزيز المصالح الاقتصادية، فى ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تعاني منها تركيا وإيران.