عادة ما تتيح الأزمات والتطورات المفاجئة فرصة لاختبار ثقل الدولة الوطنية ومدى نجاحها فى مجابهه التداعيات غير التقليدية، ولعل ذلك ما تم اختباره أخيراً فى تعامل الدولة المصرية مع تداعيات فيروس كورونا بمختلف القطاعات على النحو الذى تُنبئ به مثل تلك "المعالجات السياسية" لطرح ما يُؤسس لـ "سياسات الأوبئة - Politics of Pandemics" استنادا لاختبارات التغير فى قواعد اللعبة السياسية، وقياس مدى فاعلية نظم "إدارة المخاطر الوطنية" حال انتشار الأوبئة فى احتواء التداعيات السلبية على مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والأمنية والإنسانية والاجتماعية.
واستنادا لإحدى قواعد "إدارة المخاطر"، والمتمثلة فى "أن الأوقات غير الاعتيادية تتطلب إجراءات غير اعتيادية"، جاءت "المُعالجات المصرية" بالتوجه نحو إعادة النظر فى "الإنفاق الإجتماعى" وذلك بدعم وإستحداث برامج "الحماية الإجتماعية" للفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع، ولموازنة تكلفة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الالتزام بتطبيق توصيات منظمة الصحة العالمية، والتي تقضي باتخاذ كافة التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية لتطويق ومحاصرة مخاطر تفشى الفيروس.
من ثم، تأتى قراءتنا لمعالجات السياسات العامة للدولة المصرية - خاصة ذات النمط الاجتماعى- فى مجابهة تداعيات فيروس كورونا، ومدى نجاح الدولة فى اجتياز اختبارات المخاطر غير التقليدية والأحداث غير المتوقعة.
اختبارات "إدارة المخاطر":
كشفت أزمة كورونا عن أن الأمن الصحي والإجتماعى للعديد من الدول يتطلب مخصصات مالية يُفترض أن يتم التدبير لها بشكل استباقي، استنادا لخطط الإصلاح الاقتصادى والتنمية. ومن ثم، تصاعد مع تلك الأزمة عدد من العوامل التى تشكل فى درجاتها مقياسا لنجاح الدول ونجاحها فى اجتياز اختبارات "إدارة المخاطر"، ومنها:
تمثل ذلك فى تكيف الدول مع حالة "عدم اليقين"، وتقديم معالجات ناجعة لإدارة المخاطر. فعلى سبيل المثال، قدمت الدولة المصرية العديد من المعالجات المرنة لاحتواء التداعيات السلبية لفيروس كورونا على الفئات المتضررة والأكثر هشاشة فى المجتمع، وذلك بإعادة صياغة أولويات الإنفاق ليتم إعادة النظر فى مخصصات القطاع الصحى والتضامن الاجتماعى، فى ظل عدم توافر معلومات كاملة عن طبيعة الفيروس، أو المدة الزمنية لتطوير مصل للعلاج، فضلا عن ظهور"سلالة متطورة من الفيروس" - كموجة ثانية من الجائحة- بالإضافة لاحتمالات إعادة الانتشار فيما بعد محاصرة الأزمة.
يأتى فى إطار اختبار العلاقة الارتباطية بين الأمن الصحى والاجتماعى، إذ إن الرعاية الاجتماعية تُشكل جزءاً حيوياً من خطة الاستجابة السريعة للدولة فى مواجهة تداعيات الأزمات والأوبئة، وما يتطلبة ذلك من جاهزية المؤسسات الصحية تقنياً، وحجم قدراتها الاستيعابية للتعامل مع تجاوز أعداد الإصابات حال تفشى الأوبئة، فضلا عن مرونة البناء السريع لمستشفيات جديدة، وتخصيص مناطق للحجر الصحى وعزل المصابين، وامتلاك مؤسسات متقدمة للبحوث والتطوير للعمل على تطوير لقاح لمواجهة انتشار الأوبئة مستقبلاً. فعلى سبيل المثال، فى إطار استراتيجية الدولة المصرية للـ "الاستجابة السريعة"، واستنادا لإعادة ترتيب أولويات الدولة نحو التوجة بتوفير الرعاية الصحية للفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع، فقد استعرضت الدولة المصرية فى إطار "جاهزية النظام الصحى" - فى بداية المرحلة الأولى للجائحة - وجود 22 مستشفى للعزل، و 4 مستشفيات ميدانية متنقلة بطاقة 502 سرير، يمكن الدفع بها فى أى اتجاه، و1000 سيارة إسعاف، وأتوبيسات وطائرات لنقل الحالات الحرجة. ومع دخول الدولة الموجة الثانية من الجائحة، تم الدفع بـ5 مشروعات كبرى فى القطاع الصحى، تمثلت فى "مستشفى العجمى المركزى بالإسكندرية، مستشفى أبو تيج النموذجى بأسيوط، مستشفى بلطيم النموذجى بكفر الشيخ، مستشفى إسنا المركزى بالأقصر، والمجمع القومى للأمصال واللقاحات بحلوان، بالإضافة إلى تدشين منظومة التأمين الصحى الشامل فى محافظات الإسماعيلية، والأقصر، وجنوب سيناء.
ارتبط ذلك بمدى سرعة وفاعلية الدولة فى تبنى إجراءات صارمة لمجابهه تداعيات المخاطر غير التقليدية بما يراعى نظم الحماية للفئات المتضررة والأكثر هشاشة فى المجتمع. فعلى سبيل المثال، عند تقييم المعالجات المصرية منذ بدء جائحة كورونا عالميا، عمدت الدولة إلى تسيير العديد من رحلات الطيران لإعادة كافة العالقين المصريين فى الخارج تمهيدا لتطبيق إجراءات مشددة كإغلاق الحدود وتعليق رحلات الطيران، فضلا عن قرار الرئيس عبد الفتاح السيسى تحمل صندوق تحيا مصر نفقات الحجر الصحى للمصريين العائدين من الخارج كأحد اختبارات المواءمة بين آليات المجابهة والتزام الدولة بتعهدات الحماية الإجتماعية للفئات المتضررة من الإجراءات الاحترازية الموصى بها من منظمة الصحة العالمية بوضع كل العائدين من الخارج بالحجر الصحي.
-
اختبار الاستجابة المؤسساتية:
ارتبط ذلك بإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع فى ظل اختبارات المخاطر، إذ كشفت الخبرات المختلفة عن أن الإدارة الأكثر فاعلية للأزمات دوما ما ترتبط بوجود دولة تجمع بين مؤسسات قوية ومجتمع متماسك فى إطار من الثقة المتبادلة. فعلى سبيل المثال، خصصت الدولة المصرية تمويلا بقيمة 100 مليار جنيه مصري في إطار خطة الدولة الشاملة للتعامل مع أي تداعيات محتملة لفيروس كورونا المستجد، وتمت إعادة توجيه أولويات الإنفاق إلى كل من المؤسسات الطبية والمؤسسات المعنية بتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية للفئات المتضررة والأكثر هشاشة فى المجتمع كوزارة التضامن الاجتماعى ووزارة التموين، ووزارة التجارة الداخلية.
رهانات "المعادلة المُجتمعية":
جاءت الاستجابة المرنة للدولة المصرية بالإعلان عن حزمة من "مُعالجات الحماية المُجتمعية" فى إطار مجابهة تداعيات فيروس كورونا، وانطلاقاً من كون "الحماية الاجتماعية" هي جزء لا يتجزأ من السياسات العامة للدولة، والفكر الاستراتيجي لأجندات السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، وإدراجاً لما توافق عليه المحور الإجتماعى بالرؤية المصرية 2030. وذلك بالدفع بتعزيزات لتقوية "شبكات الأمان الاجتماعى"، لاسيما فى أوقات الأزمات وحالات الطوارئ، إذ اشتملت تلك الاستجابة على:
-
وضع استراتيجيات محددة ومُجدولة زمنيا للتخفيف من الآثار السلبية لتداعيات فيروس كورونا على الفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع.
-
توسيع نطاق برامج الحماية الإجتماعية غير القائمة على الاشتراكات النقدية.
-
تعزيز التدابير الهادفة إلى ضمان حصول الفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع على السلع الأساسية الضرورية، وذلك بالدفع بالتعزيزات للبرامج التموينية لوزارة التموين.
تأسيسا على ذلك، يأتى الرهان على نجاح "المعادلة المُجتمعية" فى إطار الاستجابة السريعة لـ "إدارة المخاطر"على إنجاز التعزيزات التالية:
-
تعزيز برامج "الحماية الإجتماعية":
وذلك فى إطار توجهات الدولة نحو إعادة النظر فى زيادة حجم الاستهداف للـ"الفئات المنتفعة" وزيادة مخصصاتهم من مختلف برامج الحماية الاجتماعية المقدمة من جانب وزارة التضامن الاجتماعى، وبالتشبيك مع مختلف وزارات وهيئات الدولة لمواجهه التداعيات السلبية لفيروس كورونا، والتى منها:
-
برنامج "تكافل وكرامة":فى إطار الاستجابة السريعة للدولة، تم إدخال ما يزيد على 100 ألف أسرة جديدة من الفئات الأولى بالرعاية ضمن برنامج " تكافل وكرامة"، وجارى زيادة الأعداد بإضافة أسر جديدة، وذلك فى إطار تنفيذ وزارة التضامن الاجتماعى برامج الحماية الاجتماعية لمستحقى الدعم النقدى على نحو ما قد يتجاوز 3.4 مليون أسرة مُستهدفة ضمن هذا البرنامج.
-
مبادرة "حياة كريمة": في إطار اهتمام الدولة بالاستثمار في بناء الإنسان وتنفيذ خطط التنمية المحلية، تم فى عام 2019 إطلاق مبادرة وطنية على مستوى الدولة لتوفير "حياة كريمة" للفئات المجتمعية الأكثر احتياجاً، وذلك بالتعاون بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى لتحسين الأحوال المعيشية للفئات الأكثر احتياجا من سكان الريف المصرى، والذين يشكلون 58% من إجمالي سكان الجمهورية من ميزانية إجمالية تتجاوز الـ 500 مليار جنيه، وتشمل المشروعات "الخدمات الصحية والتعليمية، والصرف الصحى ومياه الشرب، والكهرباء، والغاز الطبيعى، والطرق والنقل، والشباب والرياضة، والتدخلات الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا. وذلك على ثلاث مراحل، حيث تشمل المرحلة الأولى من المبادرة القرى ذات نسب الفقر من 7٠% فيما أكثر، وهى القرى الأكثر احتياجاً وتحتاج إلى تدخلات عاجلة. والمرحلة الثانية من المبادرة تشمل القرى ذات نسب الفقر من 50% إلى 70% ، وهى القرى الفقيرة التي تحتاج لتدخل، لكنها أقل صعوبة من المجموعة الأولى. بينما المرحلة الثالثة من المبادرة، فتشمل القرى ذات نسب الفقر أقل من 50%، حيث تحديات أقل لتجاوز الفقر.
-
مبادرة "بطاقة الخدمات المتكاملة":تأتى فى إطار توجة الدولة نحو الاهتمام بالفئات ذوى الاحتياجات الخاصة، والدفع بالتعزيزات للتخفيف حجم الآثار السلبية الناجمة عن الإجراءات الاحترازية المُطبقة من جانب الدولة لمجابهة فيروس كورونا.
-
برنامج "مستورة": هو ذلك البرنامج المتعلق بمشروعات الإقراض متناهي الصغر والخاص بالمرأة المعيلة، وذلك فى إطار مراعاة معيار "الجندر" فى استهداف برامج الحماية الاجتماعية.
-
برامج "الإعانات والمساعدات الشهرية الضمانية": إذ يتم التنسيق بين وزارة التضامن الاجتماعى وبنك ناصر لصرف حزم نقدية من المساعدات والإعانات فى إطار برامج الحماية الاجتماعية، وذلك للفئات الأكثر هشاشة بالمجتمع، خاصة أصحاب الأمـــراض المزمنة والمستعصية وللفقراء ولمحـــــدودي الدخل.وتم التوجيه من جانب الدولة بزيادة فئات الاستهداف بضم "العمالة المؤقتة وغير المنتظمة" كإحدى آليات مجابهة التداعيات السلبية لفيروس كورونا.
-
تعزيز نمط "التشاركية المؤسساتية":
يأتى ذلك فى إطار تفعيل أسس الشراكة للمؤسسات الحكومية مع القطاع الأهلي والقطاع الخاص للمساهمة في استكمال منظومة الحماية الاجتماعية، وهو ما يفرض عددا من "الاستراتيجيات التشاركية" التى تستلزم تعاون القطاعات الثلاثة لمواجهه التداعيات السلبية لجائحة كورونا، وذلك من خلال:
-
توحيد قواعد بيانات المُسهدفين بسياسات الحماية الاجتماعية، حيث يتم التعاون بين مختلف القطاعات العامة والخاصة والأهلية وتدشين "قاعدة بيانات موحدة" لشرائح المُستهدفين وحجم الإسهام "العينى أو النقدى" بمصر، سواء المقدم من القطاعات الحكومية أو الأهلية أو الخاصة، وقياس مدى الجودة للخدمات المُقدمة.
-
تبنى استراتيجية "التخطيط التكاملى"، وذلك بالعمل على دراسة توزيع مهام برامج "الحماية الاجتماعية" التى تتوافق والاستجابة السريعة للدولة، وذلك وفقا لخرائط استهداف القطاعات الثلاثة.
-
تفعيل سياسات "فلسفة الإدارة"، وذلك بالحديث عن تعظيم استراتيجية "المستهدف والعائد" من برامج الحماية الإجتماعية، وبيان حالة التمويل، ومصادر الأموال للقطاعات الثلاثة، وأوجه الإنفاق، وذلك وفقا لما يتماشى مع القانون المنظم للحماية الإجتماعية ولائحتة التنفيذية.
-
اعتماد استراتيجية "قياس الأثر" لمخرجات برامج الحماية الإجتماعية وتحديد المعايير والأدوات اللازمة لذلك القياس، وتطبيق ذلك على مختلف القطاعات، وتوضيح من يئول له قياس الأثر لضمان تحقيق "الرضا العام".
-
تشكيل لجان مساءلة مجتمعية على المستوى المحلي تساهم في التحقق من إدراج المتضررين والفئات الأكثر هشاشة بالمجتمع واستبعاد غير المستحقين.
ختاما، ووفقا لاختبارات "إدارة المخاطر" وتطورات الوضع الراهن من مجابهة الدولة للتداعيات السلبية لأزمة فيروس كورونا، استطاعت نُظم وبرامج الحماية الاجتماعية - حتى الآن - موازنة اختبارين، الأول يتمثل فى موازنة اختبارات "السلم المُجتمعى" نحو محاولة رأب التصدع بهياكل الفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع جراء الإجراءات الاحترازية المُوصى بها لمحاصرة الانتشار الديموغرافى لفيروس كورونا، بينما الثانى فيتمثل فى اختبار مراجعة وتقييم المحور الاجتماعى للرؤية الاستراتيجية المصرية للتنمية المستدامة (رؤية مصر 2030)، إذ برهنت "الاستجابة المرنة" على تعزيز الاندماج المجتمعي والحد من الاستقطاب السلبي وترسيخ شراكة فعالة بين شركاء التنمية (الدولة – المجتمع المدني – القطاع الخاص). وكذلك بتحفيز فرص الحراك الاجتماعي من خلال نظام مؤسسي يحقق المساواة في الحقوق والفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى إنجاز استحاقات الدعم والحماية للفئات الأولى بالرعاية والأكثر تضررا ومساندة شرائح المجتمع المهمشة.