إذا كانت السياسة الخارجية للدول تقوم علي المصالح والعلاقات الدولية، فإن السياسة الخارجية للقوي الإقليمية غير العربية، تركيا وإيران وإسرائيل في الفترة الأخيرة، قامت علي مجموعة من المحددات، والأبعاد، والعوامل، التي راهنت عليها، خاصة تركيا وإيران اللتين تهدفان إلي تحقيق دور إقليمي في قيادة المنطقة.
لقد بدا توجه الدولتين واضحا، خلال عام 2019، متمثلا في تدخلات مباشرة في بعض الدول العربية المضطربة، أو غير مباشر في كثير من دول القارة الإفريقية، التي تمثل امتدادا طبيعيا، وقضية أمن قومي لدول عربية منافسة.
تأسيسا علي ما سبق، يمكن القول إن القوي الإقليمية الثلاث المحيطة بالعرب أصبحت، في الفترة الأخيرة أكثر مما مضي، مهددة للأمن القومي العربي، بغض النظر عن ترتيب أهمية هذه التهديدات. فالدول الثلاث تتبع سياسات مزعزعة للاستقرار داخل الدول العربية، أو في دوائرها الإفريقية.
الواضح أن تركيا لم تكتف بحضن تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي، ودعم سلوكه التخريبي في أكثر من بلد عربي، بل تجاوزت ذلك بكثير، وراحت تتبني مشروعا يهدد الاستقرار في المنطقة، تتمثل أهم ملامحه في تأجيج الصراع الدائر في بعض الدول العربية غير المستقرة منذ أحداث عام
.2011
ففي ليبيا، علي سبيل المثال، ارتفعت فاتورة الأضرار التي تسببها تركيا لتحقيق نياتها السيئة. فحرصت خلال السنوات الماضية علي زعزعة الأمن والاستقرار في السر والعلن بتلك الدولة، من خلال دعمها للجماعات الإرهابية بالسلاح والتدريب.
خلال عام 2019، كثفت أنقرة من دعمها للإرهاب بشكل غير مسبوق. ففي يناير من العام نفسه، علي سبيل المثال، ضبط الجيش التركي في طبرق شحنة أسلحة تركية، كانت في طريقها إلي جماعات إرهابية شرق البلاد. وبعدها أيام، أحبطت السلطات الليبية دخول شحنة أسلحة تركية عبر ميناء مصراتة، كانت تحتوي علي 20 ألف مسدس تركي الصنع. وفي فبراير الماضي، صادرت الجمارك الليبية شحنة أسلحة تركية في ميناء الخمس، تتألف من مدرعات وسيارات رباعية الدفع.
أما في منتصف مايو، فقد وصلت إلي ليبيا طائرة تركية من طراز" أنتونوف" محملة بطائرات مسيرة بدون طيار. وفي الفترة ذاتها، وصلت سفينة "أمازون" التركية إلي ميناء طرابلس محملة بأسلحة وبآلات عسكرية، وكان علي متنها، وفقا لتقارير دولية، إرهابيون قادمون من إدلب السورية. وفي نهاية الشهر ذاته، وصلت إلي مطار مصراتة طائرة شحن تركية من طراز سي 130، كان علي متنها خبراء عسكريون أتراك، بالإضافة إلي غرفة عمليات كاملة.
وإذا اكتفينا بالظاهر، فقد كانت تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم، خلال عام 2019، التي ارتكبت مجزرة كان ضحاياها من الأطفال في تل رفت شمال سوريا، بهجوم نفذته قوات "نبع السلام" العسكرية التركية في الثاني من ديسمبر الماضي.
لا يمكن فصل الخطر التركي عن الإيراني في المنطقة العربية، وامتدادها الإفريقي. فإيران أيضا لديها مشروع سياسي للهيمنة علي المنطقة، بدأ يستخدم البعد الديني للتغلغل في كثير من الدول القارة الإفريقية، التي تمثل امتدادا طبيعيا للأمن القومي العربي.
فقد عملت إيران، من أجل تعزيز نفوذها وزيادة قدراتها في السياسة الإقليمية، علي تقديم مساعدات عسكرية وغير عسكرية لشركائها في عدد من البلدان والمناطق المضطربة، حيث دعم الحرس الثوري الإيراني جماعة الحوثي في اليمن بالصواريخ الباليستية، والطائرات بدون طيار، لاستخدامها في عدد من الهجمات البرية ضد أهداف عربية.
ففي لبنان، كما في العراق، وعبر سياقات مختلفة، أمسكت إيران خلال السنوات السابقة بكامل القرار السياسي اللبناني والعراقي، وألغت بالتدريج الحدود الفاصلة بين موقف الدولة الوطنية، وموقف الأطراف دون الدولة، التي تتصارع من أجل توسيع النفوذ، واضطراب الداخل.
لقد تزايد النفوذ الإيراني في العراق بشكل كبير عبر وكلاء إيران، وأذرع الحرس الثوري الإيراني، حيث نجحت طهران في تعزيز نفوذها الاقتصادي، والسياسي والعسكري في العراق. وفي لبنان، يعد "حزب الله" اللبناني هو الشريك الرئيسي للحرس الثوري، إذ سعت طهران لتحسين القدرات العسكرية لحزب الله، من خلال إمداده بمنظومة دقيقة من أنظمة الأسلحة الحديثة والمتطورة.
ونتيجة لتزايد تأثر الدور الإيراني في المنطقة، رفعت الاحتجاجات الدائرة في كل من العراق ولبنان، في عام 2019، لافتات تطالب بوقف التدخل الإيراني.
ولا يجوز لنا، ونحن نتحدث عن الأدوار الخطيرة للقوي الإقليمية غير العربية، أن ننسي إسرائيل، التي باتت مقتنعة بأولوية التوجه نحو فرض المرحلة الثانية من التوسع الإسرائيلي، التي تتجاوز حدود دولة فلسطين بكاملها. فقد كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وفقا لما نشرته CNN بالعربية، في الثاني من ديسمبر 2019، عن تفاصيل محادثة أجراها في الأول من الشهر ذاته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تطرقت إلي مساعيه إلي ضم منطقة غور الأردن إلي إسرائيل، التي تشكل نحو 30٪ من مساحة الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل منذ يونيو
.1967
ومن منطلق تزايد تدخلات تلك القوي الإقليمية غير العربية في المنطقة، خاصة في الدول غير المستقرة، ومنها ليبيا والسودان، واليمن، والصومال، تسعي دراسات هذا العدد من مجلة السياسة الدولية إلي الإجابة عن تساؤل رئيسي، هو: ما هي حدود الدور الذي تلعبه تلك القوي؟، وما هي ملامح تدخلاتها في تلك الدول؟، وما أهم محاولات تلك الدول في الفترة الأخيرة؟، وما حدود التنسيق بينها أو التنافس والصراع فيما بينها علي لعب دور أبرز؟.
تركز اهتمام الدراسة الأولي علي حدود التغير في السياسة الخارجية التركية تجاه مصر منذ عام 2011، حيث جاءت تلك الدراسة، التي أعدتها الدكتورة هدي فاضل شلتوت، مدرس العلوم السياسية بكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، بعنوان "السياسة الخارجية التركية تجاه مصر منذ 2011"، لتجيب عن سؤال رئيسي مفاده: إلي مدي تغيرت السياسة الخارجية التركية في مراحلها الزمنية المتتالية منذ عام 2011؟، وما هي أسباب تغير مسار العلاقة منذ ثورة يونيو 2013؟. وتناقش الدراسة السياسة الخارجية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، وتعرض كيفية تحول السياسة الخارجية التركية لاستغلال أحداث عام 2011 في سبيل تصدير النموذج التركي الإسلامي في عباءة العثمانية الجديدة، ومركزية مصر في هذه الحسابات. ثم ترصد أسباب توطد العلاقة مع تنظيم الإخوان، بعد تولي محمد مرسي الحكم، خاصة مع تقارب الأيديولوجيات لحزب العدالة والتنمية التركي ونظيره حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية للجماعة الإرهابية في هذا التوقيت، وأسباب التغير الشديد الذي حدث في السياسة الخارجية المصرية مع اندلاع ثورة 30 يونيو 2013، وعزل محمد مرسي، وإنهاء حكم تنظيم الإخوان.
وتفسر الدراسة الثانية، التي أعدتها فريدة بنداري، الأمين العام للجمعية العلمية للشئون الإفريقية، بعنوان "سياسة إيران تجاه إفريقيا من منظور الجيواستراتيجية المذهبية"، النظريات السياسية لإيران التي تركزت علي أهمية البعد الديني ودوره في تعزيز نفوذها الخارجي، ضمن الإطار الأشمل لسياستها الخارجية، من خلال سعيها لبناء مجال حيوي خاص بها، وفق أسس "جيواستراتيجية مذهبية".
ويتمثل السؤال الرئيسي، الذي تحاول الدراسة الإجابة عنه، في: كيف تجلت ثورة الخميني، ذات الطابع الديني، علي السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إفريقيا؟
أما الدراسة الثالثة، التي أعدتها الدكتورة هبة محمد زهرة، مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، فقد جاءت بعنوان "الملاحة البحرية .. بين تهديد الدول ومخاطر الإرهاب"، لتجيب عن سؤال مركزي، هو: ما هو أثر مختلف أنواع المخاطر والتهديدات علي الهدف البحري أو الملاحة البحرية بصفة عامة؟.
وتسعي الدراسة أيضا للإجابة عن أسئلة أخري، مع محاولة إلقاء الضوء علي ناقلات البترول كهدف بحري مميز، والمخاطر التي من الممكن أن تتعرض لها، وأهمها: ما هو أثر تهديدات الدولة علي الملاحة البحرية؟ وما هو أثر تهديد الفاعلين من غير الدول علي الملاحة البحرية؟ وكذلك أي الأهداف البحرية يعد أكثر عرضة لمختلف أنواع المخاطر؟.
أما الدراسة الرابعة، التي جاءت بعنوان "عالمية الدبلوماسية وآفاق تطورها"، وأعدها دكتور أيمن الدسوقي، أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، فتوضح السياق التاريخي لظاهرة الدبلوماسية الموازية، وتطورها واتجاهات دراستها، وتحليل أبعادها المتعددة، وتمايزها عن ظواهر أخري ترتبط معها، وقد تختلط بها، لاسيما "الدبلوماسية-التأسيسية" Protodiplomacy. كما تطرح الدراسة تفسيرا لظاهرة انخراط الأقاليم في الشئون الدولية، وتضع رؤية مستقبلية لهذا الحقل المعرفي "الفرعي" قيد التشكل من العلاقات الدولية.
وتأتي الدراسة الخامسة، التي أعدها دكتور وليد رشاد زكي، الأستاذ المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بعنوان "مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها في العلاقات البينية"، لتجيب عن سؤال رئيسي، هو: ما المخاطر المترتبة علي تنامي استخدام مواقع التواصل الاجتماعي؟ وكيف يمكن مواجهة هذه المخاطر والتهديدات؟.
وتحاول الدراسة الوقوف علي تنميط جديد لأهم مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي، وتقديم بعض الرؤي النظرية في تفسير هذه المخاطر، كما أنها تطرح مفاهيم مهمة، منها إنترنت الأشياء، والمواطنة الرقمية. وعلي المستوي التطبيقي، فإن الدراسة تقدم رؤية واقعية يمكن من خلالها صياغة مجموعة من السياسات الفاعلة لمواجهة مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتتناول الدراسة السادسة، والأخيرة، التي جاءت بعنوان "أهمية التبادل الطلابي في العلاقات الدولية"، وأعدتها الدكتورة رجاء إبراهيم سليم، عضو هيئة التدريس بجامعة قسنطينة بالجزائر، الرؤية العالمية لأهمية التبادل الطلابي في الخارج، ومدي تأثيرها في العلاقات الدولية. وتلقي الدراسة الضوء علي ريادة مصر في الاهتمام بالتبادل الطلابي، وازدياد الاهتمام العالمي به، والآثار الاقتصادية له، والمتغيرات المرتبطة به، والعائد السياسي، والاقتصادي، والعلمي، والثقافي له علي كل من الطلاب أنفسهم، والدول المستقبلة لهم، والدول المرسلة لهم، وحركة انتقال الطلاب عالميا، وظاهرة نزف العقول، وتطور اهتمام مصر بالمبعوثين، وبالطلاب الوافدين، وبالمؤسسات المعنية بهم.