يعد التنافس على توفير لقاح للحماية من فيروس كورونا سباقا سريع الحركة فى جميع أنحاء العالم، لكن النتائج الحالية تظهر خمس دول فى الصدارة، هى: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والصين، وروسيا، والهند. ورغم أن إنتاج اللقاح بمنزلة شهادة على فعالية نظام الرعاية الصحية للبلد وتطوره التكنولوجى والعلمى إلا أن له قيمة دبلوماسية هائلة ودلالة على سعى تلك الدول إلى توسيع نفوذها العالمى عبر اللقاحات.
أولاً- التنافس الدولى على إنتاج اللقاح:
أعلنت روسيا في أغسطس 2020 أنها سجلت أول لقاح ضد كوفيد- 19، أطلق عليه اسم Sputnik Vبعد شهرين من التجارب المعملية، لكن المسئولين الأمريكيين والإعلام الغربى شككوا فى فعاليته بسبب ضيق الوقت اللازم لتطويره. وردت روسيا على تلك الانتقادات بأنها إساءة إلى الإنجازات الروسية فى السباق العالمى لهزيمة الوباء وشن حرب معلومات مضللة ضد روسيا. وأعلن الرئيس فلاديمير بوتين، خلال قمة مجموعة البريكس، فى نوفمبر2020 عن الفعالية العالية للقاح وحث شركاء المنتدى على المشاركة فى إنتاج اللقاح ونشره، ووصفه بأنه "الأفضل في العالم". والهند أكبر مشتر لـ Sputnik V، حيث تم طلب 100 مليون جرعة اعتبارًا من 13 يناير 2021، تليها المكسيك التي طلبت 32 مليون جرعة. وأعلنت روسيا أنه تم تقديم مليار طلب شراء في جميع أنحاء العالم لـلقاح، فى محاولة لتسليط الضوء على شعبيتها وإمكاناتها.
فى السياق ذاته، شددت الصين أيضًا على أنها كانت واحد من البلدان الأولى التى بدأت فى تطوير اللقاحات، حيث وصلت خمسة نماذج أولية إلى المرحلة الثالثة من التجارب السريرية. وسلطت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) الضوء على الادعاء بأن اللقاحات المصنوعة في الصين(سينوفارم، وكورونافاك CoronaVac) ستصبح منفعة عامة عالمية، وسيتم توزيع التطعيمات بأسعار معقولة على العالم النامى. وفى الوقت نفسه، ورد أن شركة فايزر الأمريكية المنتجة للأدوية تزود 14 % من سكان العالم باللقاحات بعد أن اختارت غالبية الدول الأغنى في العالم لقاحاتها. ويشمل العملاء بعض حلفاء الولايات المتحدة، مثل كندا التى قامت بشراء 40 مليون جرعة ، والاتحاد الأوروبي 200 مليون جرعة، والمملكة المتحدة 40 مليون جرعة. وأعلنت شركة الأدوية الأمريكية فايزر والشريك الألماني Bio NTechأن لقاحها، فعالًا بنسبة 90% في منع أعراض المرض، يليها تأكيد شركة مودرنا الأمريكية Moderna فعالية أكثر من 94,5% من لقاحها في التجارب. وهناك أيضاً لقاح أسترازينيكا- أكسفورد Oxford-Astra Zenecaوطورته شركة بريطانية-سويدية، وتتراوح فعالية اللقاح بين (62 إلى 90%).
يشار إلى أن سباق "دبلوماسية اللقاح" ليس فقط مجال تنافس القوى العالمية، بل القوى الإقليمية أيضا، فقد تصدرت الهند المشهد مؤخرًا من خلال ما يسمى "صداقة اللقاح" التي تهدف إلى استمالة دول جنوب آسيا على خلفية المنافسة الشديدة مع الهيمنة الإقليمية المتزايدة للصين. وجهت الهند جرعات منتجة محليًا من لقاح أسترازينيكا إلى بوتان، ونيبال، وبنجلاديش، وجزر المالديف، وميانمار، وموريشيوس وسيشيل. وتأتى دبلوماسية اللقاحات الهندية وسط توترات حدودية مع الصين بما فى ذلك الاشتباكات الأخيرة فى ولاية سيكيم.
من جانب آخر، رغم أن سباق اللقاحات مجال جديد للمنافسة الاستراتيجية بين الصين وروسيا والولايات المتحدة لكنه أثبت فعالية شراكة موسكو وبكين. ومنذ البداية، حدث اتصال وثيق بشأن تطوير اللقاح واستكشاف روسيا والصين بُعدًا جديدًا للتعاون وتبادل نتائج البحوث والبيانات من التجارب السريرية، وتبنى عقلية الفريق الواحد. واتفقت الدولتان فى أغسطس 2020على إنشاء مختبر مشترك للأبحاث، وقد يكون مثل هذا التعاون حاسمًا فى المستقبل، مع توقع المزيد من الأوبئة العالمية من قبل الخبراء.
ومن المحتمل ظهور لقاحات أخرى، من بينها ميديكاجو Medicago وطورته شركة تتخذ من كندا مقراً لها، واثنان فى الولايات المتحدة نوفافاكس Novavax، والتى حصلت على تمويل بقيمة 1,6 مليار دولار من الحكومة الأمريكية، وجونسون آند جونسونJohnson & Johnson، وتم منحها 456 مليون دولار من أموال الدولة الأمريكية، ونجح فريقها فى تطوير لقاح للإيبولا من قبل. والهند، التى عُرفت منذ فترة طويلة باسم صيدلية العالم هى أيضًا في صميم جهود اللقاحات العالمية، ليس فقط كمركز إنتاج، ولكن للتطوير أيضًا، فقد وصل لقاح Covaxin إلى المرحلة الثالثة من التجربة الحرجة.
ثانياً: محددات اختيار اللقاح
ثمة بعض المحددات التى تؤثر فى قرار الدول فى اختيار اللقاح لمواطنيها، منها:
يعتبر السعر بالنسبة للبلدان التى اختارت اللقاحات الروسية والصينية هو الأرخص ثمناً عن نظيرتها الأكثر تكلفة. ومع ذلك، فتكلفة اللقاحين الروسى والصينى بسعر 10 دولارات، و 14 دولارًا لكل جرعة على التوالى - أقل تكلفة مقارنة بخيار شركة فايزر، إلا أنهما أغلى من لقاح Astra Zenecaالذى تبلغ تكلفته 3 دولارات.
-
اللايقين حول سلامة اللقاحات وفعاليتها
من المرجح أن يستمر عدم اليقين فى ظل تطوير لقاحات إضافية ذات سمات أكثر جاذبية، مثل الثبات الحرارى، أو متطلبات جرعة واحدة فقط. ويتوقع أن تنظم الحكومات حملات تثقيف لمعالجة مخاوف المستهلكين بشأن سلامة اللقاحات.
-
العلاقات السياسية مع الدول الكبرى
إن التوزيع الجغرافي للقاحات لا يعتمد على حسابات عملية فقط، بل على تفضيلات دبلوماسية، فقد صعدت البلدان ذات الدخل المرتفع إلى المقدمة و"أفرغت الأرفف من اللقاح". وخلال الفترة التي تظل فيها الإمدادات العالمية من اللقاحات محدودة، فإن توفيرها لبعض الأشخاص سيؤدى بالضرورة إلى تأخير وصولها إلى الآخرين، ويمكن إعاقة أى برنامج وطنى لتوزيع اللقاحات ، إذا قررت دولة أخرى تخزينها بأكثر مما تحتاج. وبعض الشركات المصنعة تميل إلى توفير اللقاح لمن يدفع أكثر. وقدمت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لدعم البحث والتطوير وتصنيع اللقاحات، لكن الدعم جاء بشرط أن يحصل الأمريكيون على أولوية الحصول على الجرعات، وانضمت الدول الغنية الأخرى إلى الولايات المتحدة في وضع طلبات مسبقة كبيرة، مما يقوض قدرة العديد من البلدان على إجراء عمليات شراء فى الوقت المناسب بسبب قيود التصنيع، وقد يستغرق الأمر حتى عام 2024 للعديد من البلدان منخفضة الدخل للحصول على لقاحات كافية لتحصين سكانها بالكامل.
ومع ذلك، أشارت الصين، التي تمتلك ثالث أكبر قدرة تصنيع لقاحات في العالم، إلى أنها تعتزم إتاحة لقاحاتها للدول النامية. ولمعالجة عدم المساواة في اللقاحات، أطلقت منظمة الصحة العالمية، ومنظمتان غير ربحيتين جهودًا لتأمين مليار جرعة لـ 92 دولة فقيرة، لكن المبادرة واجهت صعوبة في جمع الأموال الكافية. ولو حدث ذلك، فإن مليار جرعة ستكون كافية لأقل من 20% من سكان كل بلد فقير. وحتى إذا تبرعت الدول الغنية بفائض اللقاحات، فلن يكون لدى بقية العالم كل الجرعات التي يحتاجها بحلول نهاية العام المقبل، لذا من المرجح أن تسهل تلك الدول الوصول إلى لقاحاتها للحلفاء والشركاء وغيرهم.
هناك عقبات لوجيستية، مثل درجة الحرارة. فلقاح فايزر يجب أن يظل عند 70 درجة مئوية تحت الصفر، بينما يحتاج لقاح سبوتنيك إلى التخزين عند 18 درجة تحت الصفر. ولعل العقبة الأكثر أهمية هى عملية الحقن، على سبيل المثال، فى المملكة المتحدة لو تم إعطاء500 ألف حقنة يوميًا، فقد يستغرق الأمر ما يصل إلى عام لتطعيم أكثر من 50 مليون شخص. وقد أثيرت مخاوف بشأن النقص العالمى فى قوارير الزجاج المستخدمة لحمل اللقاح قبل حقنه، وحذر محللون من نقص فى الرمال التى تحتوى على نوع "angular" اللازمة لصنع بيركس، وقدر علماء المناعة أنه لم يتبق سوى 200 مليون قارورة فى العالم. كما تؤثر مشكلات الإمداد على النقل، حيث يقدر الخبراء أن الأمر سيستغرق 8000 طائرة جامبو لحمل اللقاحات الكافية لحوالى خمسة ملايين شخص فى العالم للحصول على جرعة واحدة.
فى الأخير، رغم تعهد دول البريكس بأنها ستعمل على ضمان نشر اللقاح على أساس عادل ومنصف وميسور التكلفة. لكن هناك مخاوف من أن الدول سوف تستخدم اللقاح لرفع القوة الجيوسياسية، مثل الأسلحة النووية والنفط الآن. وتظل إحدى الخطوات الإيجابية أن معظم البلدان قد وقعت على تحالف COVAXبقيادة منظمة الصحة العالمية، والذى يهدف إلى توفير مليارى جرعة من اللقاحات للسكان المعرضين لمخاطر عالية بحلول نهاية عام 2021.