تحليلات - شئون دولية

تداعيات وأبعاد تفشي فيروس "كورونا" علي العلاقات الأمريكية – الصينية

طباعة

 

مرت العلاقات الدولية بأزمة غير مسبوقة، خلال عام 2020، تمثلت في تفشي جائحة " كوفيد-19" المستجد، الذي أصيب به 100 مليون من سكان العالم، توفي منهم 2 مليون خلال عام واحد. مما يجعله من أسرع الفيروسات انتشارًا في تاريخ البشرية. كما أن نشأة الفيروس في الصين أضاف أبعادًا سياسية واستراتيجية للأزمة، لاسيما أنها جاءت بعد توقيع إتفاق أولي بين واشنطن وبكين، أنهى الحرب التجارية بينهما.

أولا- تداعيات الأزمة على العلاقات الأمريكية الصينية:

  • اتهامات متبادلة: منذ ظهور الإصابات الأولي بفيروس "كورونا" في الصين بنهاية ديسمبر 2019، ثم إنتشاره في العالم، خلال الربع الأول من عام 2020، تبادلت واشنطن وبكين الاتهامات بأن كلا منهما صنعت الفيروس وشنته علي الأخرى كنوع من "الحروب البيولوجية"، حيث اتهمت بكين واشنطن بأنها صنعت ذلك الفيروس ونشرته في الصين من خلال طائرات "الدرون" للإضرار بالاقتصاد الصيني بعد توقيع الاتفاق الاقتصادي بينهما في 5 يناير 2020 لإنهاء الحرب التجارية بين بكين وواشنطن. ثم اتهم الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" الصين أنها منشأ فيروس "كوورنا" ومصدره وقامت بتصديره للعالم لوقف الحرب التجارية التي شنها "ترامب" ضد بكين خلال عامي 2018 و2019. ورغم عدم وجود أدلة ملموسة على ذلك الإتهام إلا أنه يؤكد بداية الحروب البيولوجية بعد الحروب الاقتصادية بين بكين وواشنطن، لاسيما في ظل صعوبة وجود حرب تقليدية عسكرية بينهما، وفي ظل تعهد "ترامب" بالقضاء علي فرص الصين وروسيا في الصعود كقوى كبرى تهدد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي 10 مارس 2020، أعلن الرئيس الصيني "شي جين بينج" السيطرة على تفشي فيروس "كورونا"، وأعاد افتتاح المستشفى الرئيسي في مدينة "ووهان"، مركز تفشي المرض، بعد إغلاقها، والتي شهدت الكشف عن أولى حالات هذا الفيروس. كما أعلنت بكين عن شفاء أكثر من 70% من المصابين به. وهذه السرعة في سيطرة بكين علي انتشار الفيروس داخل الصين عززت الشكوك حول تصنيع الصين للفيروس وامتلاكها لعلاج له.

 

 

  • مرونة الاقتصاد الصيني:شهد الاقتصاد الصيني تراجعًا، خلال الربع الأول من عام 2020، إثر تفشي فيروس "كورونا"، حيث انخفض المعدل العام للاستهلاك بنسبة 20.5%، وانخفض المعدل العام للتصنيع بنسبة 13.5% على أساس سنوي. بيد أن المؤشرات العامة للاقتصاد الصيني تمكنت من احتواء الآثار الاقتصادية للأزمة، وبدأ التحسن في معدلات الاقتصاد الصيني بنهاية عام 2020 بينما شهد الاقتصاد الأمريكي والأوروبي حالة كساد وتراجع في كافة مؤشرات الاقتصاد منذ الربع الثاني من عام 2020، ومن المنتظر أن تستمر حتى عودة النشاط الاقتصادي العالمي لطبيعته بعد تفشي الفيروس. وقد استفادت بكين من الأزمة الاقتصادية، فقد اشترت الصين معظم الشركات الأمريكية والأوروبية التكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية بأثمان زهيدة، مما أدى لمكاسب اقتصادية للصين بلغت نحو 20 مليار دولار أمريكي. وفي  5 مارس2020، أعلنت 31 شركة صينية مدرجة في البورصة أرباحها لشهر فبراير من نفس العام. وهذه المؤشرات أثبتت مرونة الاقتصاد الصيني وقدرته علي التكيف السريع مع الأزمات، مما يؤكد قوته وينذر بأن الصين مؤهلة لترتقي للمرتبة الاقتصادية الأولي في العالم. 

هذه المرونة جاءت بعد حربا تجارية ضارية شهتها العلاقات الأمريكية - الصينية، وقد بدأت فعليًا في يناير 2018 عندما فرضت الأولى رسوما جمركية على واردات الصين من صفائح الألومنيوم والمقدرة بنحو 400 مليون دولار سنويا، ثم فرض "ترامب" سلسلة متتابعة من التعرفات الجمركية على الواردات الصينية للسوق الأمريكي، ما دفع بكين للرد بالمثل. وقد بلغ قيمة السلع التي خضعت لفرض رسوم جمركية من الطرفين 360 مليار دولار، الأمر الذي كان له أثر سلبي على اقتصاد الدولتين. وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أجرت بكين وواشنطن أولى محادثات مباشرة بينهما منذ بدء حربهم التجارية في مدينة شنغهاي الصينية بنهاية يوليو 2019 ورغم وصف بكين لها "بالمحادثات البناءة" إلا أنها فشلت في التوصل لاتفاق يوقف الحرب التجارية بينهما. وفى مطلع أغسطس 2019 هدد "ترامب" بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10% على بقية السلع الصينية المستوردة التى لم تشملها إجراءات رفع الرسوم الجمركية من قبل بدءاً من سبتمبر 2019، والتى تقدر قيمتها بنحو 300 مليار دولار، وذلك للرد علي القرار الصيني بتعليق شراء المنتجات الزراعية الأمريكية. وفي 5 أغسطس من نفس العام، صنفت وزارة الخزانة الأمريكية الصين كدولة "متلاعبة بالعملة" واتهمت بكين بسعيها إلى تحقيق ميزة تنافسية غير عادلة لصادراتها، وذلك رغم إعلان صندوق النقد الدولى أن قيمة العملة الصينية (اليوان) تتماشى مع العوامل الاقتصادية الأساسية للصين فى يوليو 2019. بدوره، انتقد البنك المركزى الصينى القرار الأمريكي ووصفه بأنه "سيضر بشدة بالنظام المالي الدولي، ويكون سبباً فى إحداث فوضى في الأسواق المالية العالمية. ثم قامت بكين في 23 اغسطس 2019 بفرض لرسوم على بضائع أمريكية بقيمة 75 مليار دولار رداً على زيادة الولايات المتحدة الرسوم على بضائعها.

  • تعزيز مكانة الصين دوليا: أكد رئيس مجلس الدولة بالصين "لي كه تشيانغ" على أهمية التعاون الدولي في مكافحة تفشي فيروس "كوفيد- 19"، واستعادة النشاط الاقتصادي لضمان الانتصار على المرض. وأطلقت الصين أكبر عملية إنسانية عالمية في تاريخها باسم "رابطة المصير المشترك للبشرية". وأكدت أنها ستواصل دعم الدور الأساسي لمنظمة الصحة العالمية في تنسيق البحوث الخاصة باللقاحات، في الوقت الذي ستواصل فيه الصين إسهاماتها في ضمان توافر اللقاحات في البلدان النامية بأسعار معقولة، الأمر الذي سيعزز مكانة الصين الدولية في ظل تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وفشلهما في إدارة الأزمة، لاسيما أن الوضع الإقليمي في جنوب شرق آسيا يحتاج لدولة كبرى تدير أزماته المرشحة للتفاقم.

ثانيا: تداعيات الأزمة على العلاقات الدولية:

تعد أزمة تفشي فيروس "كورونا" أزمة كاشفة عن واقع العلاقات الدولية الحالي، حيث إنها أظهرت هشاشة الوضع الصحي في الدول المتقدمة وفشلها في التعامل مع الأزمة الصحية الطارئة، كما أن تداعياتها ستتجاوز كونها أزمة صحية، ستشمل تداعيات سياسية واستراتيجية ستؤثر في مسار العلاقات الدولية خلال المرحلة المقبلة، حيث سعت بعض الدول لاستغلال الأزمة عبر التوظيف السياسي لها، من خلال إرسال المساعدات الإنسانية لاعتبارات سياسية بغية تعزيز المكانة الإقليمية للدولة، وقد قامت بذلك الصين وتركيا، ويمكن التعرف علي بعض التداعيات المحتملة علي مسار العلاقات الدولية فيما يلي:    

  • أهمية التعاون الدولي:أعادت الأزمة التركيز على أهمية التعاون الدولي لمواجهة الأزمات العالمية بعدما شكك "ترامب" خلال فترة رئاسته (2016 إلى 2020) في جدوى التعاون الدولي والعمل من خلال التحالفات، وقرر الانسحاب من عدة اتفاقيات دولية كاتفاقية المناخ، كما انسحب من منطمة الصحة العالمية في 2020، وهو القرار الذي أعاده الرئيس الأمريكي جون بايدن في اليوم الأول من تنصيبه، حيث سعت كافة المنظمات الدولية متعددة الأطراف، بما فيها الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين إلى تنسيق السياسات وتنفيذ الإجراءات اللازمة للتصدي لهذا التهديد المشترك الجديد الذي يواجهه المجتمع البشري.
  • أهمية الأمن غير التقليدي: أظهرت الأزمة مدى هشاشة الوضع الصحي في الدول المتقدمة كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية كما أظهرت بطء الاستجابة الحكومية للمستجدات الأجتماعية الطارئة. فالدول الأوروبية ظهرت كقوة دولية متراخية غير متماسكة وضعيفة وعاجزة وغير جادة في مواجهة الجائحة منذ البدايات، كما كشفت الأزمة ضرورة الإهتمام بالأبعاد الصحية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والعلمية داخل أي مجتمع، وإعادة هيكلته بما يحقق التوازن بين الأبعاد الأمنية التقليدية وغير التقليدية.
  • صعود التيارات القومية اليمينية: فشلت مؤسسات الأتحاد الأوروبي في إدارة أزمة "كورونا"، واعتمدت كل دولة علي إمكاناتها الاقتصادية والصحية لإدارة الأزمة، مما أدى للتشكيك في جدوى الاتحاد الذي يفضل المصالح المؤسسية علي المصلحة القومية للدولة، ودفع بعض الدول داخله للإعلان عن عزمها الانسحاب منه أسوة ببريطانيا. كما عززت الأزمة تصاعد تيارات اليمين المتطرف في بعض الدول، مثل إيطاليا وألمانيا وفرنسا التي تفضل المصلحة القومية على التعاون الدولي المؤسسي.
  • تغير النظام الدولي القائم: سارعت الصين وروسيا إلى تقديم الدعم لإيطاليا أكثر الدول الأوروبية المضارة من تفشي الفيروس ولعدة دول أوروبية أخرى، بينما لم تقم دول مهمة في الاتحاد الأوروبي وواشنطن بتقديم تلك المساعدات، الأمر الذي حظي بترحيب شعبي ورسمي أوروبي، فتم رفع صور للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في عدد من المدن الإيطالية، وقدم الرئيس الصربي  الشكر للصين علي المساعدات المقدمة منها لبلاده، مما أدى لتعزيز مكانة روسيا الصين إقليميًا ودوليًا، الأمر الذي ينذر بإمكانية تغير التحالفات الدولية القائمة، وعقد تحالفات جديدة قائمة علي المصلحة القومية، مما سيؤدي في مجمله لتغير النظام الدولي الحالي لنظام متعدد الاقطاب تتقاسم فيه روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية النفوذ الدولي.

خلاصة القول، إن تفشي فيروس "كورونا" ينذر ببدء الحروب البيلوجية بين واشنطن وبكين بعد انتهاء الحرب التجارية بينهما، كما أن التداعيات السلبية لتفشي الفيروس لن تقتصر على المستوى الصحي والاقتصادي، بل ستمتد لتشمل مختلف المستويات السياسية والعسكرية، وربما تؤدي تلك التداعيات لتغيرات جذرية في مسار العلاقات الدولية والنظام الدولي القائم، خلال النصف الأول من القرن الحادى والعشرين.  

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. منى سليمان

    د. منى سليمان

    باحث أول ومحاضر فى العلوم السياسية