كشف مؤتمر ميونيخ للأمن، فى دورته الخامسة والخمسين، دروبًا من الشقاق المتفاقم بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، محققا نبوءة حملها خطاب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى انعقاد المؤتمر ذاته عام 2007، حينما أكد أن نظام التحالفات الغربى القائم على "سيد واحد، سيادة واحدة" سيدمر نفسه بنفسه.
شهد مؤتمر ميونيخ، فى دورته الأخيرة، التي استمرت ثلاثة أيام، بدءاً من 15 فبراير 2019، احتدامًا داخل المعسكر الغربى حول كل القضايا المطروحة، وتبادلا للاتهامات، وتنصلا أمريكيا من مسئولية حماية أوروبا. وقدمت روسيا، في المقابل، نداءً على لسان وزير خارجيتها "سيرجى لافروف" لبناء "بيت أوروبى" يجمع أوروبا وروسيا، ويستبعد منه الولايات المتحدة بالضرورة.
وغداة انتهاء المؤتمر، أكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن الأوروبيين يريدون العودة إلى "علاقات طبيعية" مع موسكو، بعد سلسلة طويلة من الاجتماعات، بلغت عشرين اجتماعا، عقدها الوفد الروسي مع مسئولي دول أخرى شاركت في مؤتمر ميونيخ. وقد شملت تلك الاجتماعات، التي وصفها لافروف بأنها "مفاوضات دون توقف"، دولا أوروبية شديدة الانتقاد لروسيا في العلن .وقال لافروف، تعليقا على تلك الاجتماعات، إن أوروبا مستعدة بشكل متزايد للاستماع لما يقوله الكرملين، موضحا أن "كل هذه المحادثات كانت بناءة، بما في ذلك تلك التي جرت مع السياسيين الذين يصدرون بيانات صارمة فيما يتعلق بروسيا، عندما يلقون خطابات في البرلمان الأوروبي أو أي مكان آخر".
إجمالا، فقد أعرب المسئول الأول عن الدبلوماسية الروسية عن انطباعه العام عن المؤتمر بالقول إن المجتمع الدولي "بدأ يسمع أكثر" لروسيا، مضيفًا أن العمل الشاق الذي تقوم به موسكو على مدى السنوات الماضية قد أثمر على ما يبدو. مؤكداً: "نحن شعب صبور ... من الناحية الاستراتيجية".
تثير تلك التصريحات الروسية تساؤلات جوهرية حول إمكانية حدوث تقارب روسي-أوروبي حقيقي، خاصة في ظل الخلافات الأوروبية-الأمريكية المتفاقمة، بقدر ما تثير تساؤلات أخرى مهمة حول مدى توافق المواقف الأوروبية تجاه روسيا، فضلا عن حدود هذا التقارب "المأمول" روسياً وفضاءاته المحتملة. وإذا كانت روسيا تراهن مثل هذه الرهانات، بحسب ما يتبدى في تصريحات وزير خارجيتها، استنادا إلى حوارات "ميونيخ"، فإن ذلك يقتضي مناقشة ما تم طرحه من قبل روسيا في الدورة الأخيرة لمؤتمر ميونيخ للأمن، ومواقف الأطراف الأوروبية الرئيسية منه، وهو ما سنعرض له فيما يلي.
ركز وزير الخارجية الروسى، في كلمته خلال المؤتمر، وردوده على الأسئلة الصحفية، على قدرة أوروبا على تجاوز تداعيات الانشقاقات الجديدة، والمتنامية بشكل متسارع فى الفضاء الأوروأطلسي، بالتركيز على مفهوم "أوروبا الكبرى" الذى طرحه "شارل ديجول"، وتضمن تكوين شراكة مع روسيا باسم الاستقرار والأمن، كما ركز على البعث برسائل إيجابية حول القضايا المعلقة بين بلاده وأوروبا، متناولًا ما يلى:
1- عبثية الصدام الأوروبى-الروسى: شدد لافروف على أن صدام أوروبا مع بلاده لا يحمل منطقًا راشدًا، بل إن مثل هذا الصدام ارتد بالسلب على أوروبا، وهو ما عرقل التكامل الروسى-الأوروبى، مستشهدًا برفض قرار التخلي عن التأشيرة المتبادلة الذي تم تنسيقه بين موسكو وبروكسل، ودخول دول الاتحاد فى صدام لا منطق وراءه سوى الانسياق خلف الأهواء الأمريكية المتقلبة، كفرض العقوبات الاقتصادية المتوالية على روسيا، ما أضر بمصالح دول الاتحاد، كما أضر بمصالح روسيا.
2- فضاءات العمل المشترك: يقصد بفضاءات العمل المشترك مجالات التنسيق بين روسيا وأوروبا تلك القائمة بالفعل أو الممكن تطويرها. وليس العمل المشترك بين روسيا والاتحاد الأوروبى بالمستحدث، بل له جذوره فى وثائق مجلس الأمن والتعاون في أوروبا "OSCE"، بما تشمله من تشكيل مساحات مشتركة فى الاقتصاد، والعدل، والعلوم، والتعليم. كما أن قضايا أوروبا الرئيسية، كالقضاء على الإرهاب، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، لا يمكن حلها دون استخدام المزايا النسبية لكل من روسيا والاتحاد الأوروبى معًا في مناطق التهديد.
وقد دعمت روسيا تعديل موازين القوى فى الفضاء الأوروآسيوي، فلم يعد الاتحاد الأوروبى هو المتفرد بمشهد التكامل الإقليمى، والتفوق الاقتصادى ببروز اتحاد كالاتحاد الاقتصادى الأوروآسيوى "EAEU". ويفتح ذلك أفقا أمام أوروبا للدخول في تعاون إيجابي مع كيانات التكامل الجديدة في الفضاء الأورو-آسيوي، مثل مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
3- النظام الدولى متعدد الأقطاب: يشير تنامى الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا إلى احتمال بروز هيكل جديد للتكتلات الدولية يختلف عما عهده المجتمع الدولى لعقود. ويلوح في الأفق نظام متعدد الأقطاب، يتكون من الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبى. وتسعى كل من روسيا والصين سعيًا حثيثًا لتعزيز هذا الاتجاه، فيما يبدو أن الاتحاد الأوروبى يُدفع إليه دفعًا، نتيجة للصدام مع الولايات المتحدة، وهو ما عدّته روسيا تحررا من العقلية الاستعمارية الأمريكية. وفى سبيل تعزيز هذا الاتجاه نحو التعددية القطبية، أكدت روسيا خلال المؤتمر دعمها لتوجه الاتحاد الأوروبى لتحقيق الاستقلال، والسيادة فى مجال الدفاع والأمن.
4- قضية الأمن وسباق التسلح: يساور الأوروبيين هاجس انتهاء معاهدة "ستارت"، التى حدت من سباق التسلح بين الولايات المتحدة، وروسيا بتقييد امتلاك الأسلحة النووية الاستراتيجية، بغرض حماية أوروبا بالأساس، والمقرر انتهاؤها فى عام 2021 دون وجود إشارات على سعى الأطراف إلى تجديدها، وهو ما سيدفع بالضرورة لعدم الثقة فى التزام الدول النووية بنزع سلاحها التدريجى. ولذلك يواجه العالم عمومًا، وأوروبا بشكل خاص أزمة تفكك النظام الدولى للحد من التسلح.
ورغبة من روسيا فى طمأنة الأوروبيين شدد لافروف ما قاله الرئيس الروسى فلاديمير بوتين من أن بلاده مستعدة لبدء محادثات حول تمديد المعاهدة دون رد أمريكى.
5- الأزمة السورية: جاءت الردود الروسية على التساؤلات الصحفية حول سوريا، خلال المؤتمر، لتدل على سعي روسيا تأكيد تفردها بالقدرة على تحديد مآلات الأزمة، والهيمنة الكاملة على سبل الحل. وشدد لافروف أن تنامي المخاطر في سوريا اقتضى تحركات منفردة للقضاء على الإرهاب، مشيرا إلى أن بلاده تسعى للتوصل إلى تسوية سلمية للأزمة. كما أشار إلى الجهود الروسية-التركية للقضاء على إرهاب جبهة "فتح الشام" - جبهة النصرة سابقاً - فى إدلب نهائيًا، وذلك بالتوافق على إنشاء دوريات عسكرية روسية- تركية تعمل داخل المنطقة بموافقة الحكومة السورية، مستبعدا احتمالية التشاور مع قوى كالاتحاد الأوروبى أو الولايات المتحدة.
مواقف القوى الكبرى من الأطروحات الروسية:
تباينت ردود القوى الكبرى على ما جاء فى خطاب روسيا، فمنها من أعرب عن قدر كبير من التوافق معها، مثل الصين، ومنها من أبدى استعداده للتقارب، مثل ألمانيا، ومنها من تمسك بمعارضته لأي تقارب مع روسيا، مثل بريطانيا. وتبدت تلك المواقف جلية فى خطابات الدول سالفة الذكر على لسان مبعوثيها كما يلي:
أولًا- الصين:
أكدت الصين توافقها مع روسيا الذى وصل حد الارتقاء بشراكتهما إلى المستوى الاستراتيجى، مشددة على دعمها الكامل لاندماج أوروبي واسع النطاق يشمل روسيا، كتوجه نحو أوروبا أكثر استقرارًا.
تجلى هذا التوافق في تأكيد رئيس الوفد الصيني يانج جيتشي، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الصين، أن تعزيز الانتقال من النظام أحادى القطبية إلى النظام متعدد الأقطاب يعد وسيلة فعالة لدعم السلام، وتعزيز التنمية، والتعاون المتكافئ، وإقامة العلاقات الدولية على أساس من الاحترام المتبادل، والإنصاف، والعدل، والتعاون. وحدد جيتشي أركان التعددية فى عدة مبادئ، هى: تساوى الدول فى السيادة، واتباع سبل الحوار لحل النزاعات، والاستناد إلى قواعد القانون الدولى. كما تماهى الموقفان الصين والروسي فى رفض النظام الدولى الراهن، القائم على الأحادية والحمائية، ودعمها لإصلاح نظام الحكم العالمى.
ثانيًا- ألمانيا:
أبدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل استعدادا للتقارب مع جزء مهم من منطلقات الخطاب الروسي. ومرت ميركل على القضايا الخلافية بين روسيا وأوروبا، خاصة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مرور الكرام، متسائلة عن الحل ومنكرة وجوده فى أيدى الأوروبيين. في المقابل، دعت إلى عدم انفراد الولايات المتحدة باتخاذ قرارات دولية جوهرية، مطالبة بتعزيز حوار دولي يضم الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، بل والصين أيضا، للبحث عن حلول توافقية تضمن تحقيق مصالح مختلف الأطراف، وليس طرفا دون غيره.
ورغم تأكيدها أهمية حلف الناتو بعدِّه ركنا أساسيا من أركان الاستقرار العالمي، فيما يتجاوز حتى الأمن، رفضت ميركل الضغوط الأمريكية لكي تفي دول أوروبا بحصتها في ميزانية الحلف، والتي تقدر بـ2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة عضو، مؤكدة أن ازدياد الإنفاق العسكرى للدول الأوروبية سيكون بلا جدوى، فى حال حدث ركود اقتصادى جديد، منتقدة فشل حل الأزمات المتحدمة حاليًا من قبل الناتو باستخدام الأداة العسكرية فقط. وتدعم المستشارة الألمانية التوجه لإيجاد سياسة دفاعية أوروبية موحدة ومستقلة عن الولايات المتحدة، مما يتقاطع بدرجة ما مع التوجهات الروسية لتعزيز نظام دولي متعدد الأأقطاب. وتوافقت "ميركل" مع دعوة روسيا لتبنى مبدأ التعددية، وقالت منتقدة سياسة ترامب أحادية الجانب في الفضاء الدولي: "قد تكون تعددية الأطراف معقدة، لكنها أفضل من البقاء في المنزل وحدك".
وأكدت المستشارة الألمانية أن روسيا "لا تزال شريكًا" اقتصاديًا تعتمد عليه أوروبا، خاصة فى ملف الغاز، ودعت إلى تخفيف العقوبات الأوروبية على روسيا نتيجة للأزمة الأوكرانية، وعدم تصعيدها ما لم تسع روسيا لمزيد من مد نفوذها غربا. وقالت إن أى تصعيد موجه لعزل روسيا وحصارها سيضر بالمصالح الأوروبية.
ثالثًا- بريطانيا:
اختلف الموقف البريطانى المعلن على لسان وزير الدولة لشئون الدفاع، جافن ويليامسون، مع الموقف الروسى حد الصدام، فارتأرت بريطانيا أهمية حلف الناتو بحسبانه حجز الزاوية لردع أى تهديد، و"الدفاع عما هو صواب، ومكافحة ما هو خطأ". ورأى وزير الدفاع البريطانى أن حلف الناتو مهم لأوروبا أكثر من أى وقت مضى لمواجهة الخطر الروسى الذى رآه تهديدًا للأمن الأوروبى على أساس أن روسيا "عدوًا قديمًا عاد إلى اللعبة".
واتهمت بريطانيا روسيا أنها خرقت معاهدة الأسلحة النووية، بتطويرها المزيد من الأسلحة النووية، وهو ما يدعو للتأهب للتعامل مع ما سماه وزير الدفاع "المغامرة الروسية التى لا بد أن يكون لها تكلفة"، لما يترتب عليها من محاولة إشراك الغرب فى سباق تسلح جديد.
واتهمت بريطانيا روسيا بتهديدها للمجتمع الدولى باستخدام أدوات التجسس، العسكرية، والسياسية، والسيبرانية، والاقتصادية وحتى الإجرامية لتقويض منافسيها، كما اتهمتها بالتدخل فى الانتخابات الغربية.
فى الأخير، يمكن القول إن الصراع الدائر بين أوروبا والولايات المتحدة، ومحاولات الصعود الروسى-التركى، يمثلان بداية لبروز نظام ذى معالم جديدة لم تتبد ملامحه الدقيقة بعد، ولكن الملاحظ أن السنوات القادمة ستحمل نوعا من عدم الاستقرار ربما لفترة طويلة، نتيجة للتجاذب والتنافر بين محاولات تغيير الوضع الدولى القائم، ومحاولات تثبيتها، بما فيها من امتيازات لقطب واحد على حساب القوى الصاعدة. كما أن عدم اتساق المواقف الأوروبية، واستغراق الأوروبيين فى مشكلاتهم الداخلية قد ينذران بمزيد من الانقسام الأوروبي حول سبل التعاطي مع تلك التحديات الكبرى المرتبطة بسيولة النظام الدولي الراهن.