في اللحظات الفارقة في تاريخ الأمم العتيدة، صانعة الحضارات، وصاحبة الأصالة قديمًا وحديثًا، تكشف معادن البشر على أرضها عن مدى نقائها وانتمائها لتلك الجذور العميقة لشجرة التاريخ الوارفة، والتي تضم تحت ظلالها كل الشرفاء الذين يضيفون كل صباح سطرًا جديدًا في سجلات العظمة والخلود، من أجل الحفاظ على الأمن القومي لأوطانهم .
بنظرة موضوعية للمفاهيم الحديثة لهذا الأمن القومي المنشود، نجد حتمية الحفاظ على المسارات الصحيحة للتنمية المجتمعية؛ التي لا تتأتى إلا بالارتقاء بحياتهم اقتصاديًا وسياسيًا، لينعم الجميع بالاستقرار والاطمئنان فى الغد الأفضل؛ إلى جانب ضرورة تقوية وتحديث الدروع الواقية لكل المكتسبات التي تتحقق على أرض الواقع؛ وتتمثل هذه الدروع في الجيش الذي يحمي حدود البلاد، والشرطة التي تحمي الجبهة الداخلية.
لعلي لا أُتهم بالانحياز إلى بنات جنسي من نساء مصر الفضليات؛ إذ أرى أن معادلة تحقيق الأمن القومي لا تكتمل إلا في ظل مثلث قوي ضلعاه: الجيش الوطني والشرطة الأمينة، وقاعدته الأساسية "المرأة المصرية" بكل تاريخها الباذخ في النضال الوطني المشرِّف في العصر الحديث، ومنذ اعتلت سدة عرش الحكم في مصرنا الفرعونية، بل وصلت في بعض الأسر إلى اعتلاء منصة القضاء، ولم تصل إلى تلك المكانة الرفيعة إلا بعد أن حظيت بدرجة القداسة، متمثلة في العديد من آلهة الحكمة، فكانت "إيزيس" رمزًا خالدًا للوفاء، و"ماعت" إلهة العدل، و"حتحور" إلهة الحب، ناهيك عن الألقاب التي تنطق بها النقوش المنحوتة على جدران المعابد، وتشهد بأنها "سيدة الحب"، و"طاهرة اليدين"، و"سيدة الجمال". وقد وصلت إلى تلك المكانة الرفيعة حينما كانت جموع النساء في شتى بقاع الأرض "سبايا" في الأغلال الحديدية؛ يُبعن بالدراهم في أسواق الرقيق !
لسنا في حاجة إلى إعادة تنشيط ذاكرة المجتمع بكتاب "تحرير المرأة" الذي أصدره "قاسم أمين" في نهاية القرن التاسع عشر بدعم من زعماء التنوير فى هذا الحين؛ بدءاً من الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد؛ وتدعيم الآراء نفسها فى كتابه "المرأة الجديدة" في مطلع القرن العشرين، علاوة على ما كتبه عن أهمية دور المرأة في المجتمع بجريدة "المؤيد"، برغم مالاقاه من معارضة "خوارج" كل زمانٍ ومكان، مثلما نرى الآن ممن يناصبون العداء للمرأة، والتعتيم على دورها الفاعل، واتهامها بأنها جسرٌ فقط لإنجاب الأطفال !
لقد صدق من قال إن المرأة صانعة الوجود، فهي التي تُنتج أغلى وأعظم سلعة في الحياة: الإنسان، ولذا حباها الله بالصفات الخلاَّقة القادرة على تربية الأجيال وتلقينهم المثل والقيم السامية، وحظيت المرأة بالتبجيل والقداسة في ظل كل العقائد السماوية وكتبها المطهرة .
ولنا أن نلقي نظرة فاحصة على الأمس القريب خلال أحداث ثورة يناير 2011، والمشهد الخالد لتقويمها لتلك الثورة في 30 يونيو من العام نفسه؛ حيث تصدرت المرأة الصفوف الأولى دون رهبة أو خوف، ولم تتقوقع خلف جدران بيتها أو خلف النوافذ، حتى لقِّبن من الراصدين المنصفين لتلك التفاعلات الشعبية بأنهُنَّ "حرائر ثورة مصر"، كما فعلن في أحداث الثورة الكبري التي اندلعت في كل أنحاء مصر عام 1919 ضد سلطة القصر والاحتلال الإنجليزي، لتثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها المسئولة عن النشأة الوطنية السوية للأجيال بتلقينهم القيم العليا في حب الوطن، وغرس روح التضحية والفداء في أعماق النفوس، وأبدًا لم يقتصر هذا الدور التاريخي على الصفوة والنخبة المثقفة منهن وحسب؛ بل تخطاه إلى نساء كل الشرائح المجتمعية من العاملات في الحقل، والسوق، والمدرسة؛ من اللائي لم يتلقين حظهن في التعليم أو الثقافة، ولكن الثقافة الوطنية هى محض فطرية لا تحتاج إلى الكتب والأبحاث العلمية والأكاديمية؛ لإدراك المعانى الرفيعة لكلمة: وطن !
الآن .. ماذا نحن فاعلون للحفاظ على ركيزة وقاعدة مثلث الأمن القومي المتمثلة في المرأة المصرية، خاصة بعد الهجمات الشرسة عليها ممن ينادون في بعض وسائل الإعلام الرجعي ودكاكين المنابر المنتشرة أسفل البيوت بتحجيم دورها في المجتمع، والمناداة باختفائها القسري خلف الغلالات السود المادية والمعنوية؟
لقد جرى العرف على الاحتفال بـ "يوم المرأة العالمي" في الثامن من مارس من كل عام؛ تكريمًا لدورها في الحياة الإنسانية، ووفق معلوماتي فإن هناك حزمة اقتراحات بتشريعات مقدمة إلى مجلس النواب، خاصة بتمكين المرأة وإنصافها في قوانين الأحوال الشخصية، نتمنى أن تخرج هذا العام إلى حيز التنفيذ الفعلي بعد إصدار مواد القوانين المدعمة لتلك الاقتراحات.
لقد أدركت المرأة المصرية معنى حماية الأمن القومي فعليًا دون تلقين. إذن، فلا خوف على بلادنا من أية مخاطر محدقة فلدينا أقوى سلاح. إن المرأة المصرية التي أنجبت ضباط الجيش والشرطة، وأرضعت الأبناء حب الوطن وفداء كل شبر منه بدمائنا بكل شجاعة، إنها لرسالة منقطعة النظير لكل من يحاول إنكار دورها الفاعل في تعديل ودفع مسار عجلة التاريخ .