تتنازعني عدة اتجاهات عند ضرورة الحديث عن "الأخلاق" في المجتمع، وتغلب على كتاباتي الطبيعة الأكاديمية بحكم اشتغالي في مجال البحث في الأدب واللغة العربية، ولكني أجد أنه لزامًا على قلمي ألا يكتب عن نظريات الأخلاق عند "سقراط" أو "أفلاطون" وحلم المدينة الفاضلة، أو عند "كانط" في علم الجمال، لأنه من المفترض أن القانون الأخلاقي هو الذي يجب أن يسود ويحكُم ويتحكَّم في سلوكيات البشر في كل زمانٍ ومكان وتحت ضغط كل الظروف . وسأقف وقفة الاحترام والتبجيل والخشوع لما قاله المولى سبحانه وتعالى لنبيه: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ "(القلم 4)، و"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران 159).
هذا من وجهة نظري -ونظر الأسوياء- هو الإطار العام لدستور وفلسفة الأخلاق السامية؛ وهي حُزمة من الآداب السلوكية المثالية -قدر الإمكان- في المعاملات والتخاطب، والجيرة، والصداقة، والأمانة، وحفظ الحقوق، والحب، والبنوَّة، والأخوَّة، والبيع والشراء، والعمل -خاصة العمل المهني الهندسي والطبي- ويكون هذا الدستور بمنزلة وثيقة أخلاقية غير مكتوبة -إلا على حائط الضمير- ولا يلزم لسريانها توقيع شهادات بطابع دمغة، وتوقيعات من السادة المسئولين عن مؤسسة الأخلاق الحميدة، أو تتطلب أن تكون ممهورة بخاتم "النسر" الشهير الذي يحلِّق فوق سطور أوراقنا الرسمية منذ لحظة الميلاد حتي ورقة صك خروجنا في الرحلة الأبدية إلى العالم الآخر .
ولكن.. ما الحيلة -وما موقف القوى الناعمة- تجاه الانفلات والتقلبات والانحرافات الحادة داخل المجتمع المصري -سلوكًا ولغةً- والتى ازدادت حدَّتها في السنوات القليلة الماضية؛ جراء مؤامرات الهدم من بعض الجماعات الخارجة عن مسارات الإنسانية السوية، ونأيًا عن صحيح الدين والعقيدة؟ يستوي في هذا الجماعات المتشددة عقائديًا أو سياسيًا، فكلاهما له أطماعه لتمييع مبادئ الفن والثقافة لتقزيم الهويَّة الوطنية الصحيحة؛ وهذه الأهداف لم تعُد تخفى على جموع الشعب، وعلى رأسهم القوى الناعمة من النخبة المثقفة .. وبتنا نصدق الشاعر نزار قباني الذي قال في قصيدة :
" لم يدخل العدو من حدودنا .. بل تسرب مثل النمل من عيوبنا" !
فبماذا أستعدَّت القوة الناعمة لتعديل المسار وإغلاق الثقوب التي حدثت في جدار المجتمع؛ من أجل المواجهة الضرورية والحاسمة؟
وقبل أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال العفوي المنطقي في الوقت نفسه؛ ينفجر في وجوهنا سؤالٌ آخر: هل القوى الناعمة في مصر متماسكة بالقدر الكافي لتحقيق الانضباط لإعادة سيادة المنظومة الأخلاقية السويَّة داخل المجتمع؛ أم أنها بحاجة إلى إعادة تشكيل وتقييم، نظرًا لتباين المواقف والاتجاهات والأيديولوجيات داخل القوة نفسها؟
ودعوني أجيب -بالإنابة عنكم-: نعم .. لأن عناصر القوى الناعمة في مصر من رأسماليين -وهُم العمود الفِقري لكل الحراك المجتمعي- مثقفين، ومفكرين، وسياسيين، وفنانين، وشيوخ، وقساوسة؛ قشرة تظهر متماسكة على السطح .. وفي الأعماق تمتد الجذور في أنحاءٍ شتى! فالصراعات الفكرية والسياسية والعقائدية تحت السطح لا بد أن تخضع لمصدر سقاية واحد؛ هو ضرورة الإيمان بتوجهات الدولة والعمل تحت إشرافها وسيطرتها، وهذا يتطلب الفحص والتدقيق في اختيار أفكار وتوجهات شخوص قيادات هذه القوة، واكتساب واجتذاب عناصر جديدة من القريبين من الأطروحات المعلنة، والحسم في استبعاد المناوئين للمنظومة! وهذا يستوجب "مائدة حوار مستديرة" في كل الوزارات السيادية، ومراكز صناعة القرار، ترفع توصياتها وقراراتها في أقل زمن ممكن؛ لأن عنصر الزمن لن يقف خلال فترة إعادة التشكيل والتقييم المرتجى، وأقول "مستديرة" لكسر شوكة "كدابين الزفة" الذين يسعون إلى تصدر المشهد على المنصات الخاوية من المضامين !
ترى .. هل بهذا السؤال الطويل والمفاجأة، أضع العربة أمام الحصان؟