أعلن البيت الأبيض، الشهر الماضى، بدء سحب القوات الأمريكية، التى تضم 2000 جندى، من سوريا، بعدما نجحت قوات التحالف الدولى فى تحرير المناطق التى يسيطر عليها تنظيم "داعش"، مع دخول الحملة مرحلة جديدة لمكافحة هذا التنظيم، مشيرا إلى أن هذا الانسحاب سيجري في مدة أقصاها 100 يوم. غير أن موظفي الخارجية سيبدءون مغادرة سوريا خلال 24 ساعة. هذا، ويتفاوت الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، والذى شهد ارتفاعاً متزايداً منذ 2015، بين قواعد ذات طبيعة ارتكازية، ونقاط عسكرية متقدمة لدعم المعارك والمواجهات العسكرية ضد تنظيم الدولة ومساندة الوحدات الكردية.
تقييم عمليات التحالف الدولى فى ميزان القانون الدولى:
يتبين، وفقا لأحكام القانون الدولى، أن الدولة لا تستطيع استخدام القوة المسلحة على إقليم دولة أخرى إلا فى واحدة من ثلاث حالات: بعد الحصول على موافقة حكومة تلك الدولة، أو بتفويض من مجلس الأمن الدولى بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو فى حالة الدفاع الشرعى عن النفس بمواجهة عدوان مسلح مصدره تلك الدولة، وفقا لنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ونجد، بالنسبة للحالة السورية، أنه لا تتوافر حالة من هذه الحالات. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تحصل على موافقة من الحكومة السورية على وجود قواتها فى سوريا، كما أن الولايات المتحدة لم تحصل على تفويض من مجلس الأمن يخول لها استخدام القوة المسلحة على الأراضى السورية، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم يقع عليها عدوان مسلح من قبل الحكومة السورية، لكى تمارس حقها فى الدفاع الشرعى عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. لذا، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية عددا من الحجج التى لا تستند إلى أى أساس قانونى لتبرر وجودها على الأراضى السورية، منها أن الولايات المتحدة تتجه فى تنفيذ هجماتها على الأراضى السورية انطلاقا من مبدأ الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. فتنظيم "داعش" يمارس الكثير من الأعمال الإرهابية التى قد تمتد لأكثر من دولة، وبالتالى يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين. كما أن هذا التنظيم يتلقى المزيد من التدريب والدعم المادى، الأمر الذى يترتب عليه تزايد قوته بشكل يهدد أمن واستقرار البلاد. ومن ثم، ترى الولايات المتحدة أنه من الضرورى أن تساعد حكومات الدول فى القضاء على هذا التنظيم، مستندة ًفى ذلك إلى عدد من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولى، منها القرار رقم 1373، والقرار رقم 1368، واللذان يعطيان الحق فى استخدام القوة فى مواجهة الإرهاب. لكن هذه القرارات لم تقدم تعريفا محددا للإرهاب، الأمر الذى مكن الولايات المتحدة من الاستناد إلى هذه القرارات لتبرير استخدامها للقوة المسلحة فى عدد من بلدان العالم، ومنها سوريا. ومن ثم، لا يوجد أى سند قانونى يبرر وجود القوات الأمريكية على الأراضى السورية، فقد نصت المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على امتناع الدول أعضاء المنظمة عن استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها ضد سلامة الأراضى، أو الاستقلال السياسى، أو على أى نحو يخالف أحكام ميثاق الأمم المتحدة. ويضبط الميثاق فى الوقت نفسه حالات مشروعية استخدام القوة المسلحة فى ميدان العلاقات الدولية باستثناءين، الأول : يتصل بحالة الدفاع الشرعى عن النفس، سواء كان فرديا أو جماعيا، وقد ورد الرد عليه فى المادة 51 من الميثاق. أما الاستثناء الثانى، فيتصل بالحالات التى تضطر فيها المنظمة الأممية للتدخل لمواجهة تهديد السلم والأمن الدوليين، وفقا لنص المادتين 41و42 من الفصل السابع من الميثاق. وبالنسبة للحالة السورية، فالولايات المتحدة لم تتعرض لعدوان مسلح من قبل سوريا يخول لها استخدام القوة. كما أن تنظيم "داعش" الموجود على الأراضى السورية لا يرتبط بأى صلات بالحكومة السورية. بل على العكس تماما، فإن الحكومة السورية فى حالة عمل عسكرى لاجتثاثه من الأراضى السورية، وهى تبدى نجاحا فى ذلك. هذا ويعد من أهم سمات الاستعمال المشروع للقوة المسلحة أن تكون منضبطة بالقدر اللازم لتحقيق أهدافها. لكن عمليات التحالف الدولى، بقيادة الولايات المتحدة، استعملت فى المدن والقرى الواقعة فى قبضة التنظيم المتطرف أسلحة فتاكة، بعضها محظور دوليا، كالقنابل العنقودية والفوسفورية. كما استهدفت العديد من الأهداف المدنية، كالأحياء، والمساجد، والمستشفيات بصورة أوقعت عددا من الضحايا الأبرياء، وهذا يشكل خرقا لقواعد القانون الدولى الإنسانى المقننة فى اتفاقيات جنيف لعام 1949. وبهذا، نجد أن الولايات المتحدة اتخذت من حربها ضد الإرهاب ذريعة لتبرر استخدامها غير المشروع للقوة، محاولة خلق قانون دولى جديد يعكس استراتيجية الأمن القومى الأمريكى ويحقق مصالحها .
ردود أفعال الدول تجاه إعلان سحب القوات الأمريكية من سوريا:
بالنسبة لتركيا: جاءت الخطوة الأمريكية في غضون حديث أنقرة عن عملية عسكرية، فيما يحاول الأتراك التقدم بحذر في الجزء الذي تدعم فيه واشنطن جماعات من أكراد سوريا وتسلحهم، وهذا الأمر تعده تركيا تهديداً لأمنها القومي، وهو ما تجاوزت الكثير منه في عمليات درع الفرات (2016)، وغصن الزيتون (2018) ضد تنظيمات تصنفها بالإرهابية في شمالي سوريا.
فقد أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان، في 17 ديسمبر الماضى، تلقيه "ردوداً إيجابية من ترامب بشأن إطلاق عملياتنا العسكرية شرق الفرات، التي أعلنّا عنها الأسبوع الماضي".
وأشار أردوغان إلى أن جيش بلاده مستعد للانقضاض على الإرهابيين في سوريا "بأي لحظة"، مضيفاً: "يمكننا أن نبدأ عملياتنا في الأراضي السورية في أي وقت وفقاً لخطتنا الخاصة، والدخول إلى أراضيها من المناطق التي نراها مناسبة على طول الخط الحدودي الذي يمتد لمسافة 500 كيلومتر، وبشكل لا يلحق ضرراً بالجنود الأمريكيين".
ووجه أردوغان خطابه للأمريكيين قائلاً: "لكوننا شركاء استراتيجيين مع الولايات المتحدة، فينبغي على واشنطن أن تقوم بما يلزم، والآن جاء الدور على شرق الفرات".
من جانب آخر، وافقت وزارة الخارجية الأمريكية، الأربعاء (19 ديسمبر)، على صفقة لبيع تركيا منظومة "باتريوت" للدفاع الجوي والصاروخي، بقيمة 3.5 مليار دولار.
وعلى جانب الحلفاء، لم تنتقد الحكومة البريطانية قرار الانسحاب صراحة، لكنها قالت إن "تنظيم "الدولة الإسلامية" لا يزال يشكل تهديدا، على الرغم من التقدم المهم الذي تم إحرازه في الأيام الأخيرة.
انتقدت قوات سوريا الديمقراطية، الحليف السوري الأبرز للولايات الأمريكية في حربها ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، قرار الانسحاب الأمريكي، في بيان، قالت فيه إن القرار "سيؤثر سلبا فى حملة مكافحة الإرهاب، وسيعطي للإرهاب وداعميه ومؤيديه زخما سياسيا وميدانيا وعسكريا للانتعاش مجددا، للقيام بحملة إرهابية معاكسة في المنطقة".
وأضاف البيان أن "معركة مكافحة الإرهاب لم تنته بعد، ولم يتم بعد إلحاق الهزيمة النهائية به، بل هي في مرحلة حاسمة ومصيرية تتطلب تضافر الجهود من قِبل الجميع، ودعما أكبر من التحالف الدولي للاستمرار فيها، وزيادة في الدعم بكافة الأشكال للقوات المقاتلة على الأرض، وليس الانسحاب منها".
وفي المقابل، رحبت موسكو بقرار الانسحاب، واصفة إياه بالخطوة الصحيحة، وأنه "يفتح آفاقا للتسوية السياسية في سوريا". لكن موسكو أثارت شكوكا حول الجدية الأمريكية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة أعربت منذ سنوات عن نيتها الانسحاب من أفغانستان، لكنها لا تزال موجودة حتى الآن.
وفى فرنسا، قال مسئولون إن باريس ستبقي قواتها في شمال سوريا في الوقت الراهن، في ظل عدم القضاء على متشددي تنظيم "الدولة الإسلامية"، واستمرار تشكيلهم خطرا على المصالح الفرنسية. وأقرت وزيرة الدفاع، فلورانس بارلي، على تويتر، بأن التنظيم ضعفت شوكته، وخسر نحو 90 بالمئة من أراضيه، لكنها قالت إن المعركة لم تنته. وقالت "الدولة الإسلامية لم تمح من على الخريطة، ولم تستأصل شأفتها. من الضروري أن تواجه الجيوب الأخيرة لهذه المنظمة الإرهابية هزيمة عسكرية حاسمة". كما ذكر دبلوماسيون أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدث مع ترامب، في أبريل/نيسان 2018، وعندما أعلن ترامب من قبل سحب القوات الأمريكية، استطاع ماكرون إقناع الزعيم الأمريكي بأن واشنطن ينبغي أن تظل مشاركة، معللا ذلك بخطر إيران في المنطقة .
هذا، وقد رأت برلين أن القرار الأمريكي بالانسحاب أحادي الجانب من سوريا يمكن أن يضر بالمعركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وأنه يهدد النجاح الذي سُجّل حتى الآن ضد التنظيم الجهادي. وقال وزير الخارجية الألماني هيكو ماس في بيان "لقد تراجع تنظيم الدولة الإسلامية، لكن التهديد لم ينته بعد. هناك خطر من أن قرار (ترامب) قد يضر بالقتال ضد التنظيم، ويهدد ما تم تحقيقه حتى الآن". وأضاف أن المعركة ضد المسلحين الإسلاميين "ستتقرر على المدى الطويل عسكريا وبالطرق المدنية". وأكد الوزير ضرورة وجود عملية سياسية تحت رعاية الأمم المتحدة لإعادة الاستقرار الدائم إلى سوريا التي تمزقها الحرب.
كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. وقال بعض المسئولين الإسرائيليين إن تحرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أعلنه قد يساعد إيران فى إزالة موقع عسكري أمريكي يساعد في الحد من تحركات القوات الإيرانية وأسلحتها من العراق إلى سوريا. كما تشعر إسرائيل بالقلق أيضا من أن خروج أكبر حليفة لها قد يقلص نفوذها الدبلوماسي في مواجهة روسيا أكبر داعم للحكومة السورية.
الخاتمة
وهنا، ينبغى الإقرار بأن الوجود الأمريكى الذى حصل فى سوريا هو محاولة لإسباغ المشروعية على استخدام القوة المسلحة ذريعة لمكافحة الإرهاب. وهذه الظاهرة لا بد من التصدى لها، ومواجهتها، ليس من قبل السوريين فقط، بل من قبل المجتمع الدولى ككل، منعا لانتشار الفوضى، وترسيخا لمبادئ القانون الدولى التى تؤكد منع التدخل فى شئون الدول الأخرى، وصيانة الحقوق والحريات. كما أن قرار الرئيس دونالد ترامب سحب قواته من سوريا يخلق حالة من الغموض، وليس الوضوح، تباينت حولها ردود الأفعال.